سرد ابن سينا

حسان الجودي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسان الجودي

وجد نفسه ممدداً في الهواء. الهواء ساكن بارد مثل جثة. ربمالجودا تكون جثته هي التي تطفو في ذلك الهواء. هو لا يتحرك. أطرافه ممدودة، وعيونه مغمضة. لكن عقله، أو شيئاً ما آخر في رأسه، يتساءل عن ماهيته الشخصية وعما يفعله في هذا المكان. هو مدرك لوجوده، لكنه غير مدرك لجوهره، إنسان أم حيوان أم جماد أم شيء دون تسمية يطفو بكامل خفته أو ثقله؟
يسأل نفسه: وهل أنا ثقيل أم خفيف؟

ويسأل، إن كنت خفيفاً فلا شك أن كثافة الهواء هي أكبر من كثافتي.

تصيبه الدهشة العميقة، فمن أين له بمعرفة الكثافة وقانونها الفيزيائي؟
يخيّل إليه أنه يتذكر ذلك، كان ذلك فيما مضى قبل الزمن. وكان حينها سمكة في البحر الواسع. وقد عرف من مراقبته للعالم المائي كيف أن بعض الأسماك الكبيرة تستطيع الطفو بفضل أكياس هوائية تملكها.

“لا هذا غير صحيح”، يقول لنفسه،” أنا لا أتذكر ذلك، أنا أحدس بذلك. أنا أشعر بكياني طافياً في الهواء. أشعر بامتداد أطرافي الأربعة. لا أقدر أن أفتح عيوني، أخشى أن أفسد ما حرص الخالق على خلقه”.

“وهل أنت مخلوق واع”؟

يسأل نفسه من جديد، ويجيب بنفس الطريقة غير اليقينية،” أنا مدرك لوجودي، وهذا يعني أنني أعي ذاتي.

تضحك سمكة طافية قربه في الهواء وتقول:

-أنا لا أدرك وجودي، بل لا أريد إدراكه! أنا كيان غير واع. لذلك بإمكانك أن تبتلعني. اسمعني ! إنها مغامرة شيقة حين أصبح في داخلك، سأكتشف حقيقتك. فإن وجدت هناك كياناً مثلي، فأنت غير واع. وإن لم أجد شيئاً فهذا يعني بالبرهان اليقيني أنك موجود ولذلك فأنت واع لذاتك.

يصيح يغضب في وجه السمكة، “تريدين التهامي، كما التهم ذلك الحوت يونس”.
ثم يصمت، ويسأل نفسه من جديد عن كيفية معرفته بحكاية يونس. فيظن أنه التقطها ذات مرة وهي سابحة مثله في الهواء، ويظن أيضاً أنه قام بتأليفها حين وعى وجود السمكة قربه.
“وهل أنا يونس إذاً”؟

يسأل نفسه باستغراب، تتقدم منه السمكة وهي تدفع الهواء بزعانفها الفضية، وتطلب من جديد أن يفسح لها الطريق إلى داخله. يرفض بإصرار، ويخشى على نفسه الغرق حين يحمل وزن السمكة. لكنه سرعان ما يتذكر تلك الطائرة الضخمة التي أحس بها وهي تعبر في الهواء.

“هل أحسستُ بها؟ كيف وحواسي معطلة؟ هل حدستُ بها؟ كيف وأنا لم أتعلم جدول الضرب ولا أعرف قانوناً فيزيائياً واحداً.

ويتوقع أخيراً، أنه هو طائرة. وإلا كيف استطاع وعي الطائرة.

تسأله نفسه ضاحكة:

-وهل تعرف قانون بيرنولي أيها المسكين؟

يخبرها بصدق أنه لم يسمع بهذا القانون العجيب. فتتواضع نفسه وتشرح له القانون الذي بفضله تطفو الطائرات في الهواء. فيظن أنه هو نفسه قانون بيرنولي، وإلا كيف استطاع فهمه!
فتسأله نفسه من جديد ساخرة من فهمه العجيب لذلك القانون الذي يسري على الموائع المتحركة، وهو طاف في هواء ساكن. يقول لها إذاً،  أنا الهواء الساكن!

تقول له، وكيف تتحرك؟

يحلم، يفكر، يتهيأ له، ينتقل عبر الأثير إليه، تتفاعل في كيانه كلمات نهائية:
-أتحرك حين أموت.

فصححت له السمكة:

-بل نموت حين يتحرك الصياد.

-ومن الصياد؟

-أنت بشحمه ولحمه، ولكنك لست مدركاً لذلك بعد!

-ومتى سأدرك؟

-حين تستخدم حواسك، هيا درّبْ عينيك على الرؤية وأذنيك على الإنصات.
يفعل ما أشارت به السمكة، فيعرف أنه هو ذاته سمكة، وأن محدثه هو كيان طاف في هواء ساكن وأطرافه الأربعة ممدودة دون حراك.

ويكتشف أنه استطاع معرفة ذلك، بحاسة إضافية. ليست ليديه، ولا لفمه ولا لعينيه أو أذنيه. هي غير عقله أيضاً. ويظن أن مكان هذه الحاسة هو مكان بين القلب وبين العقل. يحصل البعض عليها بعد عشرات من الخلوات الروحية في كهوف الجبال، ويحصل البعض عليها بعد بيع كِلْيةٍ لموظف في مكتبة الخلود، لا يستطيع تبول سوى الكتب التافهة. ويحصل عليه البعض الآخر بالتجارة الخاسرة بثمار الحكمة. بينما يتلقاها البعض هدية ملفوفة في ورق مانع للصواعق. تتنزل من طبقات أعلى من ذلك الهواء الساكن، تكسب تسارعاً إضافياً وهي تهبط، فتسقط فوق رأس المحظي. تشق له رأسه، فينتشي، وتبدأ تلك الحاسة المجهولة بالعمل.
فتتخيل سمكةٌ أنها كائن، ويتخيل كائنٌ أنه سمكة. رغم أنهما دون حواس أو ذكريات أو معرفة.
إنهما مختاران فقط لتلقي تلك الهدية. وهما متواضعان حقاً. لا يريدان تخيل سوى وجودهما، وهذه مغامرة نهايتها الوقوع في شبكة أكفان الفضاء أو التراب.

مقالات من نفس القسم