العدوى

موقع الكتابة الثقافي writers 21
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أسمهان الشعبوني

وقفت زينب تتفحّص بشرتها أمام المرآة المثبتّة على واجهة خزانة حجرة النوم. ابتسمت في حركة لا شعوريّة، فذكّرتها ابتسامتها بشخص تعرفه. لكنّها لم تتمكّن من تحديد هويّته. كان نفس الخاطر يراودها منذ فترة، إلّا أنّها بقيت تتغاضى عنه ولا تعيره اهتماما. أرادت في هذه المرّة أن تنقّب في ذاكرتها لكن شيئا لم يَطْفُ من لا وعيها. أهي نجمة من نجوم الطرب؟ سميرة سعيد، لطيفة العرفاوي، أليسا؟ كلّا! أتكون شخصيّة من عالم السياسة؟ وَمَضَتْ الإجابة فجأة في ذهن زينب، فانتفضت فزعة وخطت خطوة إلى الوراء. إنّه زوجها الهادي! لقد صارت ابتسامتها تذكّرها بابتسامة زوجها الهادي. هل من الممكن أن تتحوّل معاشرتهما الزوجيّة إلى شَبَهٍ شكليّ؟ تقدّمت مجدّدا نحو المرآة لتعيد النظر. ابتسمت، فرأت وجه الشّبه أيضا في وجنتيها… أصبحتا عاليتين مثل وجنتيه… وحتّى في استدارة وجهها. صحيح أنّها تتفاجأ أحيانا عندما تتبنّى بعضا من ردود أفعاله، أو حين يردّد بعضا من كلماتها أو أقوالها على مسامع ضيوفهم، لكنّها لم تلاحظ حتّى اليوم أن العدوى صارت فيزيولوجيّة. هل أنّ خمسة عشرة سنة من الحياة الزوجيّة كافية لذلك؟

حرّكت زينب رأسها يمينا وشمالا كأنّما تنفض عنه هذه الخواطر ثمّ خرجت من الحجرة متّجهة نحو الدولاب الكبير في الردهة الأماميّة من البيت. تناولت علبة الأدوات من الدرج العلويّ وأخرجت منها مِفكّا صغيرا ولمبة مصباح هالوجين. مع مرور الوقت، صارت تعرف كيف تفكّ البراغي، ثمّ تنزع الوقاء البلوريّ وتضعه جانبا وتغير اللمبة. اللمبات تحترق بسرعة في هذا النوع من المصابيح. إلاّ المصباح الموجود بغرفة ابنها الكبير. بقي هو ذاته لمدّة ثلاث سنوات…حتّى البارحة، يوم غادر أخيرا الغرفة والبيت، السيد ابراهيم، صديق زوجها في الجامعة، بعد أسبوع من الضيافة. الحمد الله أنه لا يسكن المدينة، فهو مثال للضيف الثقيل. لهفته على الأكل رغم أنّه يبدي احتشاما وأدبا وقناعة جميعها زائف ومقرف. بطنه المتدلّي. نظرته التي يتعمّد غضّها وكأنّه مثال للزّهد، في حين أنّه يتلظّى للأكل والشرب دون مقابل، ولكلّ ملذّات هذه الأرض.

أما كان يستطيع حقّا أن يدفع مقابل غرفة نزل؟ إنّها متأكّدة من أنّ الهادي لم يوجّه إليه دعوة من تلقاء نفسه. لا بدّ أنّ ابراهيم تظاهر بالعجز وتسكَّن حتّى تلاعب بمشاعر زوجها ودفعه إلى دعوته بالنزول عندهم. واضطُرّ ابنها، قُرّة عينها، إلى ترك غرفته للضيف. الأطفال أيضا لم يحبّوا صحبته ولم يحادثوه. حتّى هذا المصباح لم يرغب فيه. لم يقبل بأن ينيرهُ، وكأنّه تآزر مع أصحاب البيت، أو كأنّما سرت العدوى بين مشاعرهم تجاه هذا الضيف الثقيل وبين المصباح.

ظلّ لا يستجيب لزرّ التشغيل إلّا بعناء، ثمّ ينطفئ أحيانا دونما سبب. ينادي السيد ابراهيم ويأتي أحدهم ليرى ما يحصل، فيستنير المصباح كأنّما استجاب إلى أمر مخفيّ. وقبل أن يغادر الضيف البيت، احترقت اللمبة التي لم تُغيّر طيلة ثلاث سنوات. خطر على بالها خاطر غريب. ماذا قد يحصل لو أنّ العدوى سرت بين أفكارها ومشاعرها وبين بقيّة أثاث البيت كما استجاب هذا المصباح لها؟ لَكانت الأَسِرَّةُ تمنع أبناءها من الاستلقاء فوقها لأنهم لم يرتّبوها…أو ربّما احتضنتهم بحرارة خلال نومهم لأنّ زينب، في الحقيقة، لا تستطيع أن تقسوَ عليهم. أو لكان المغطس في الحمام يتعمّد إغراق زوجها الهادي لأنّه لم يُنظّفه بعد أن استحمّ فيه أو رُبّما…ما أدراها ما قد يفعله أمام جسد زوجها العاري. تبسّمت زينب. إنّها تستغرب أحيانا من جموح خيالها. يحملها، دون إذنها، إلى فرضيّات وعوالم عجيبة. ثبّتت آخر برغيّ ثمّ أسرعت بإرجاع الأدوات إلى علبتها.

الليلة تستقبل عائلة أخي زوجها ولم يبق سوى أربع ساعات على موعد قدومهم، رغم أنّها واثقة أنّهم سيتأخّرون. طبعا ستتعلّل درّة ببعض المشاوير المهمّة. عَمَلُها، مكالمة مهنيّة طرأت حين بادروا بالمغادرة، شقاوة أحد أبنائها التي هي في الواقع نتيجة لذكاء حادّ على حسب تعبير والديه، الخادمة التي تسبّبت في تأخيرهم، لأنّ لهم خادمة لا يستطيعون الاستغناء عنها إذ أنّ درّة مشغولة جدّا بعملها كما تذكّرها سِلفتها بذلك في كلّ مرّة. تستطيع في أربع ساعات أن تُتِمّ حشو الدّجاجة بالأرز وطهيها بالفرن، وأن تقوم بقلي “صوابع فاطمة”. لكن ما يجب أن تركّز عليه الآن، وقبل عودة الأطفال من المدرسة، هي التورتة التي وجدت وصفتها على الأنترنت. فقد أعدّت باقي الأكل منذ الصباح. تسوّقت باكرا من حانوت “ولد علي” الذي لا تعوده إلّا في المناسبات لغلاء أسعار الخضر والفواكه الرفيعة لديه. ولم تتماسك بعدها عن التسوّق من متجر التجهيزات المنزليّة المحاذي له كما تفعل في كلّ مرّة. لكن لديها حجّة في هذه المرّة. عيد الأضحى على الأبواب، وهي في حاجة لبعض المعدّات. الآن. التورتة. يجب أن تركّز على صنعها، فهي ستكون ذروة العشاء. شارلوت بالفراولة. ليست في متناول الجميع. نظرت إلى الفراولة والجبن الكريمي والتوت الأحمر وأصابع البسكويت. بقيت الكريمة السائلة. طبعا. الكريمة السّائلة. البعض من التركيز الآن. فتحت صفحة الانترنت الخاصة بالوصفة. لن تُصدّق درّة أنّها أعدّتها بنفسها وأنّها لم تشترها من السّوق.

كانت درّة أمام مرآة طاولة الزينة تغيّر لون أحمر الشفاه للمرّة الثالثة بينما زوجها “منذر”، في الصّالون، يحثّها على الإسراع. سمعته يصيح: ” لقد بدأ تأخيرنا عن الدعوة يصبح محرجًا! “. يجب أن تتّخذ قرارها. انتهت إلى اختيار أحمر شفاه ذي لون باهت، فأيّ لون فاقع سيعكس بشكل فاضح أنّها تريد أن تتميّز وسيُظنّ أنّها تعطي لهذا العشاء أهميّة. سوف تكتفي بمكياج جميل للعينين، دون أن يكون ثقيلا. مع ثوبها الأنيق وحذائها ذي اللون الزهريّ. سوف يقتنع كلّ من عليه أن يقتنع بأنّها، ودون جهد كبير، سيّدة السهرة.

عندما فتحت زينب الباب مسهبة في تعابير الترحيب والإطراء، تفاجأت درّة بأن رأتها في ثوب آخر صيحة. لكن على كلّ حال، فإنّ حذاءها من موضة الموسم الفارط، وحتّى إن نحفت فإنّ بطنها بقي دوما بارزا. لم تستطع زينب يوما أن تفقده بعد إنجاب ابنيها. هذه المرأة لا تعرف معنى العزيمة. عزيمة درّة. لا تعرف أنها تنهض في الخامسة صباحا كي تقوم بتمارين رياضيّة قبل أن يستفيق الجميع، وقبل أن يبدأ تحضير الإفطار، وتجهيز الأطفال للمدرسة، واختيار ملابسهم، واكتشاف أنّ بعض ملابسهم متّسخة، وأنّه يجب تغيير الملابس التي وقع اختيارها، وقبل أن يناديها زوجها كي يسألها عن الملفّ الذي وضعه البارحة فوق الكنبة ولم يجده في الصباح رغم أنّه متأكّد أنّه وضعه هناك، وكلّ ذلك قبل أن تُسرع بالمغادرة إلى المكتب تفاديا لازدحام شوارع العاصمة بالسيّارات. زينب لها متّسع من الوقت لكلّ هذه الأعمال، ويبقى لها حتما الكثير من الوقت بعدها، ورغم ذلك فإنّها لم تتخلّ يوما عن بطنها البارز. هذا الكمّ من الأطباق الذي أعدّته الليلة يؤكّد أنّ هذه المرأة لا تملأ أوقات فراغها الكثيرة إلّا بالاهتمام ببطنها!

لم تأكل درّة من تورتة الشارلوت بالفراولة التي أمضت زينب ساعتين في تحضيرها وخمس ساعات في تثليجها. “لا شكرا” قالت لها ببساطة. ألحّت زينب. سألتها مستفهمة وإن كانت هناك رغبة في الإحراج: ” أم هل أنّك تتّبعين ريجيم؟”. “كلّا، لكن في سنّنا هذه، يجب الانتباه إلى ما نأكله في هذه السّاعة المتأخّرة من الليل” – أجابت. هكذا ظهرت زينب أمام العلن كالمرأة النّهمة، الأكولة، غير المبالية بجسدها وبهندامها. أحسّت بموجة من الغضب تتصاعد من صدرها نحو أمّ رأسها. كانت تُرتّب المطبخ بعد نهاية السهرة، وتجترّ الحادثة.

إنّها تكره تلك المرأة التي تنغّص عليها أغلب الاجتماعات العائليّة. لماذا تزوّج أخو الهادي بهذه العقرب الملعونة، التي لا تستطيع إلّا أن تلدغ؟ تكرهها. ليست هناك كلمة أخرى لوصف ما تشعر به. أم أنّها تغار منها؟ ربّما. في الحقيقة، قد تغارُ منها. لكنّها في كلّ الأحوال، لا تتمنّى سوى ألّا تراها مجدّدا، كي تستعيد راحة البال الذي كانت تتمتّع بها قبل زواج منذر. وكيف سيكون ذلك؟ لا تلوح لها أيّة تباشير طلاق بينهما. هل ستتحمّلها حتّى نهاية العمر؟ هل تموت درّة قبلها؟ كم يكون ذلك مريحا! وممّ قد تموت في هذا العمر وهي تنتبه إلى صحّتها بهذا الشكل وتتمرّن يوميّا؟ رفعت زينب بصرها في حركة عفويّة نحو سكاكين المطبخ الثمانيّة المرصّفة في حاملها اللوحيّ، ورأت نفسها فجأة قابضة على رأس درّة في يسارها وعلى أكبر السكاكين الثمانية في يمينها، بينما الدمّ يترقرق من الرأس المقطوع الذي تُمسك به من الشعر، ثمّ رأت نفسها تغرس السكاكين الباقية في صدر سلفتها. فزعت زينب لِمَا تراءى لها. وضعت وجهها بين كفّيها وحرّكت رأسها بقوّة محاولة طرد هذا الخيال المرعب من ذهنها. ثمّ استغفرت الله سبع مرّات.

***

جلس الضابط منجي إلى مكتبه الحديديّ الصّدئ، وهو لا يتوقّف عن تحريك السكّر في كأس القهوة الذي يمسك به. نفخ بتوتّر وأعاد قراءة التقرير للمرّة الثالثة:

“استقبلت الضحيّة زينب الب… في منزلها، عائلة أخي زوجها للعشاء يوم الجريمة في الليل. وقد وجدها زوجها الهادي الب… مع الحادية عشر والنصف ليلا ملقاة على بطنها فوق أرضيّة المطبخ، تتخلّل صدرها أربعة سكاكين، وظهرها أربعة سكاكين أخرى.”

من سوء حظّه أنّه كُتِب له بأن يكون الضابط المُكلّف بهذا الملفّ. كيف له أن يحلّ لغزه؟ البلاد تستعدّ لتقديم تقرير دُوليّ عن تطوّر مكافحتها للجريمة بكلّ أنواعها، وقد كثُر الضغط في الفترة الأخيرة لحلّ الجرائم. الزوج. لكن لا توجد بصماته على السّكاكين. وحتى إن ارتدى قفّازين كي لا يترك أثرا، فإنّ تقرير الطبّ الشرعيّ يبقى محيّرا. أكّد أنّ السّكاكين قد غُرست في صدر الزوجة وظهرها في ذات الوقت، دون آثار مقاومة، ودون أيّ أثر لتحريك الجثّة بعد طعنها في الصّدر، حتّى يتمّ غرس سكاكين أخرى في الظهر، أو العكس. ثمّ إنّ عدد السكاكين، أربعة قُبُلا وأربعة دُبُرا مُرصّعة في كامل أنحاء الصدر والظهر، يتعارض مع قدرة إنسان واحد على القيام بمثل هذه الجريمة بمفرده. لا يوجد أيّ أثر لاقتحام البيت، ولا أيّ دليل على استعانة الزوج بغيره للإقدام على الجريمة.

يا لسوء حظّه. لكنّه متأكّد أنّها ليست مسألة حظّ فحسب. زميله الملازم العويني هو من تمكّن من إقناع النقيب بتكليفه بمثل هذا الملفّ المُحيِّر كي لا ترتفع نسبة نجاحه في حلّ الملفّات. هكذا يبقى معدّل نجاح الملازم العويني أعلى من معدّله، ويستأثر بالدّورة التكوينيّة المقبلة بالخارج. يُمضي يومه في التملّق إلى النقيب. يُلازمُهُ صباحا مساء. يُسرع إلى تحقيق أدنى طلباته. لا يتركه لحظة. يأكل معه، يُضحِكهُ، ويحادثه طوال اليوم. إنّه في الواقع يقوم بعمليّة خفيّة لغسل دماغ النقيب. فلا عجب بعد ذلك في أن يقنعه بطريقة توزيع الملفّات بين الضبّاط. لكن الملازم لم يكن يعلم بأنّ الرّائد الجديد، الذي سيَقدِم بعد شهر، ويكون رئيسا للنقيب، ليس إلّا من مواليد مسقط رأس الضابط منجي. فلينعم الآن بدور الكلب لأنّه سينتقم منه قريبا.

أعاد الضابط قراءة تقرير الطبّ الشرعيّ. ثمّ قال محدّثا نفسه بصوت عال وقد تملّكته الحيرة: “من يكون القاتل؟ يبدو الأمر صعبا على الزوج بمُفرده، وليس هناك أيّ أثر لاقتحام البيت!”

قلّب أوراق الملفّ، ثمّ فكّر في أن يلقي نظرة على كشف البيان المصرفيّ للضحيّة لعلّه يجد دليلا ما قد يعينُه. كان آخر استعمال لبطاقة ائتمانها يوم الجريمة. استعملتها في متجر تجهيزات منزليّة. واشترت سكّينا كهربائيّا من ماركة (م…). بدا له ذلك عاديّا نظرا لاقتراب عيد الأضحى. لكنّه سرعان ما انفجر ضاحكا وقد عبر ذهنه خاطر غريب. ماذا لو أنّ سكاكين المطبخ قد تملكّتها الغيرة من السكين الكهربائي الجديد، وتحالفت كي تغتال ربّة البيت التي بدت وكأنّها ستهملها؟

كفى شطحات ذهنيّة. طرد الضابط عنه هذا الاحتمال بنفس السرعة التي برق بها في ذهنه. لقد اقترب عيد الأضحى ولم يبق له الكثير من الوقت قبل العطلة لحلّ الملفّ. يجب أن يجد حلاّ عقلانيّا. يجب أن يجد القاتل. الضغط يتزايد. هل يتّهم الزوج؟ سوف يتّهم الزوج.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون