د. أماني فؤاد
يقدم هاني عبد المريد في نصه الأخير “محاولة الإيقاع بشبح” (1) الصادر عن الدار المصرية اللبنانية تجربة روائية تستند على الغرائبي والمتخيل مجددا، يجسد الحياة بوصفها أثرا غير مكتمل، مبهما، وجودا شبحيا يحمل غرابته ويدفع بقدر كبير من التساؤلات؛ من أجل ابتداع واقع فني يبتعد عن النمطية، بنية سردية لواقع حياة عجيب يبحث فيه الروائي من خلال عملية الكتابة عن لحظته الفنية المغايرة، لكنه يُضمّنها رؤيته للحياة التي يتعايش فيها الواقعي والعجائبي.
يُبرز نص “محاولة الإيقاع بشبح” مع سرديات الكاتب السابقة: “إغماءة داخل تابوت”، “عمود رخامي في منتصف الحلبة” ، “شجرة جافة للصلب”، “كيرياليسون” ، “أساطير الأولين”، “أنا العالم”، “تدريجيا وببطء” (2) توجه الروائي إلى الفانتازيا وما تتيحه من عوالم متخيلة واسعة تتجاوز تكلسات الواقع وجموده وتكرار أحداثه وأفكاره، هذه العوالم الغرائبية التي تناوش الواقع وتخلخل صلابته تومئ بإمكانية تخيل عالم آخر، يتضمن وقائع وأشكال مغايرة، وهو ما يهز تأبيد الصور الجامدة للوجود، ويزحزح سلطة القديم والمستقر والراسخ، كما يفتح الأذهان على إمكانية القفز على كل أشكال التيبس التي تصيب الفن ومذاهبه وأنواعه، كما تصيب الواقع، فتدفع بنوع من الشغف.
سحر الحكايات:
يتبادل السرد في الرواية صوتين: الابن يامن، والأم هانم، بلا عنوانات سوى أرقام تتوالي، ويبدو النص كأنه منقسم إلى عالمين، في المدينة الساحلية التي لا يهبها الروائي اسما، حيث الحدث الغريب السري الخاص بأسرة هانم ومرزوق عندما يتحول ثلاثة أفراد من الأسرة إلى ثلاث دمى من المطاط “مرزوق، مازن، فريدة” الأب، والابن الأكبر، والبنت الصغيرة، وخوفا من احتمالية أن تلحق يامن تلك اللعنة تأخذه الأم وتسافر إلى القاهرة في منطقة بيت السرايات لتتركه عند أخيها يونس شبه الضرير بحجة أنه سيعينه على الحياة نظرا لظروفه، تبدأ حياة يامن مع خاله وعالمه القاتم المحدود، والذي سيتسع أيضا بحيلة من الحيل، فيبتكر الخال لعبة قوامها اللغة، من خلالها يعيدا تعريف المعاني والموجودات والحقائق، ويقصون الحكايات حولها مستعينين بعوالم المجاز ليدفعا بالخيال إلى الواقع ويحاربون فقره وقتامته.
تُعين اللغة التي تعلمها “يامن” من خاله “يونس” على وصف “فوفا” العروس التي تسكن في جوار يونس مباشرة، حيث أصبحت تفاصيل حياتها اليومية هي الرابط الذي يُشعر الخال بطعم الحياة ودفئها، صوتها، وحركتها، والصباح الذي تلقيه للخال، كما أصبح يامن هو العين التي يرى بها يونس جارته بعد أن دربه خاله على الوصف، وعمل على تقوية اللغة لديه من خلال لعبة تعريف المفردات التي يتبادلون فيها وصف الأشياء وحكيها.
برجوع هانم من القاهرة إلى أسرتها يبدأ صراعها لمحاولة استعادة الحياة الطبيعية إلى زوجها وولديها، تعمل وتعد الوجبات وتوزعها، ثم تجلس للدمى الثلاث لتقص عليهم الحكايات، تكتشف مع الوقت أن الحكايات هي التي ترمم تشققات أجسادهم المطاطية فيظل لديها أمل عودتهم لطبيعتهم البشرية.
يشكّل الروائي شخصية هانم في الرواية خليط من شخصية “شهرزاد” التي تحيل إلى رؤية للعالم تجعل الحكايات في بؤرة الحياة وشفاء لمعضلاتها، و”إيزيس” حيث تجمع ما تفتت من ذراع زوجها وتضعه في إناء إلى أن يحين لحظة عودته إلى الحياة الطبيعية، ثم تستعير ثانية فتنة القص وطقسه السحري الذي تنقله عن السيدة العجوز لتستمر الحكايات فيبقى ماء الحياة يسري في أجسادهم، لكن تظل هناك حكاية غائبة يجب أن تقصها هانم لتعود الروح إلى زوجها وابنها وابنتها، تلك الحكاية لا تعرفها هانم ولا العجوز التي نبت لها ريش، وهو ما يومئ إليه الكاتب بدوام احتياج البشر للحكايات لتظل أرواحهم يقظة وإنسانية، ليظل هناك محاولة للإيقاع بشبح، الإيقاع بالهارب من الحياة أو الغائم فيها ولا نستطيع القبض عليه أبدا.
وبالرغم من اختلاف العالمين عالم يونس ويامن، وعالم هانم وأسرتها إلا أن بينهما علاقات متواشجة، فالاثنان يشكلان البنية الدالة للنص، حيث تهيمن فاعلية الحكاية، وأثرها السحري على إعادة بعث الحياة بكل أشكالها في كل ما يفقد حيويته وجدواه، في كل مايصبح مع الوقت سطحي ومجوف ويفتقد الشغف، الحكاية التي تضيء الظلام، وتهيئ حلقة وصل تبدد الموت والتقوقع جانبا ضمن رؤية الكاتب لعلاقة الحكاية بحياة البشر، الحكاية التي تضفي الحميمية على الحياة التي تكتظ بالأشباح، الحكاية التي تختصر كل فرد في سردية خاصة حتى بعد فنائه، حيث يحكي الكاتب الحقيقي عن جده الذي لم يره فيقول:” لم يبق منه سوى حكايات تتوارثها الأسرة ، ومن خلال تلك الحكايات نجرح الموت والغياب”(3).
بعد أن تذهب “هانم” الأم للسيدة العجوز ذات الشعر الأبيض بعد أن حلمت بها دون معرفتها السابقة ترجع في كل مرة لتعيد على الدمى الحكايات التي تحكيها لها العجوز لتتحول تدريجيا أجسادهم طبيعية بشرية لكن بلا روح، تفضي العجوز لهانم أن هناك حكاية غائبة وعليها أن تستمر في الحكي إلى أن تأتي تلك الحكاية وتعود إليهم الروح، تُرى ما هي تلك الحكاية التي يجب أن تقصها هانم على أسماعهم، تظل الأم تجرب دون يأس فتستمر حكاياتها.
وأحسب أن المقصود بالشبح في عنوان الرواية الإيقاع بمعنى للحياة، هذا المعنى المراوغ غير المحدد، الإيقاع بجوهرها أو اللحظات الحقيقية الصادقة فيها، القبض على الدافع الذي يجعلنا لم نزل نعيشها، المعنى الذي لا يجعلنا نتحول إلى دمى من المطاط.
لماذا يؤكد النص على أثر الحكايات ويجعلها نافذة لحل الكثير من قضايا الإنسان وتبديد اغترابه وتأكيد هويته؟ هل لأن الحكاية تجعلنا نقترب من بعضنا البعض، تجعلنا ننصت ونتعاطف فننمي المشتركات، نتبادل أدوار الحكي فنتقبل ذواتنا كما الآخر، هل لأنها تجعلنا ندرك نسبية الحقائق وتعددها، وتتسع بتجربتنا الفردية حين تنقل لنا تجارب الشخصيات التي ترد فيها فنصبح أكثر وعيا وثراءً، هل لأن الحكايات تقدم لنا الأزمنة والأماكن وكأننا عشنا كل العصور، ووطأت أقدامنا الكرة الأرضية كلها، هل لأن الحكايات تبدد الأشباح أحيانا وتهدهد الذهن البشري وتخدره، حكايات أخرى قد تخلق عوالم فنية لم نعهدها فتتوالد الغرابة وتقفز فوق الأطر، تنطلق من خلال عوالم المجاز والخيال والأساطير لتصنع حيوات أخرى موازية؟ هل لأن الحكاية لعبة الكاتب التي ندهته إلى عالمها؟
الحكايات هي القوى الناعمة بالغة التأثير في الإنسان، فما تتركه الحكايات والأشعار والموسيقى والفنون التشكيلية والسينما والمسرح وباقي الفنون من قدرة على التواصل بين البشر واندماج حيواتهم، هي ما تجعل الآخرين يشاركونك الحياة والحلم.
ربما تتساءل سردية هذه الرواية حول الحياة، أهي شبح ؟
لو أردنا أن نعش حقيقتها علينا أن نحول هذا الهلام الشبحي أو الوجود بلا شكل محدد إلى عوالم نتشاركها، ويظل جوهرها قدر من الدفء والمشتركات التي تجمع البشر وتتيح قدرا من التناغم، وهو ما حاول خلقه وإيجاده يونس حين انتقل يامن للعيش معه.
تبعث سردية الرواية بمجموعة من المعاني الضمنية التي تفهم من الحكايات والمشاهد دون مباشرة القول أو التوجيه من الكاتب من خلال شخصياته، من قبيل أن العيش والتواصل الحقيقي الذي يبحث عنه البشر يتوالد في مناخ حيوي من النقاش وتقريب وجهات النظر، لا في عتمة النكوص والانسحاب والعيش في عالم من الأسرار والغموض. وهنا تتجلى أهمية اللغة وإمكاناتها التعبيرية.
تعلو إنسانية البشر كلما ازدات قدراتهم على التعبير عن ذواتهم والآخرين بطرق مختلفة: فنية أو تقريرية، كما تزداد درجة نضج الأفراد بمدى قدرتهم على المواجهات المتوازنة المسئولة، لا الصمت أو الهروب من المشكلات .
كما أنه لا ضرر من الاختلاف فهو الذي يثري الحياة، ويوفر حالة من الجدل الصحي الذي من خلاله تتطور المعاني وتتجدد أشكال الموجودات. ويسجل الفرد نجاحه الحقيقي حين يتعايش مع المختلف لا المطابق له والمتفق معه.
جدل العلاقة بين الواقع والفانتازيا في بنية الرواية:
يشتبك الواقع بوطأته مع المتخيل الفانتازي في نسق تشكيل وبنية نص “محاولة الإيقاع بشبح”، حيث استمداد المرجعية الحكائية من مناطق توتر الواقع باستجلاء مناطق إشكالية في حياة الشخصيات، مناطق شعورية ومجردة، متخيلة كثيرا لكنها أيضا حقيقية وواقعية، وتعمل على كشف الأبعاد الإنسانية البينية متعددة الأشكال بين الشخصيات مثل: بنية الفكرة الجوهرية بالرواية، ما الكامن وراء تحول الشخوص إلى دمى؟ كيف نتحول لبشر بلا روح وحياة حقيقية؟ بينيات شفيفة أيضا تتبدى بالنص مثل العلاقة الإنسانية المرهفة بين فوفا ويونس، ثم المشهد الذي صاغه الكاتب بنهاية السرد عندما شعرت فوفا بمدى تعلق يونس بها (4)، وتتبدى أيضا غرابة علاقة فوفا بزوجها، كيف تقبَّل اسمها “فواكه” الذي لم يعرفه قبل يوم الزفاف، وكيف تشكّل رد فعله في معاملته لها على ضوء اسمها وما فعله معها وحدد شكل علاقتهما الجنسية (5)، أو علاقة السيدة العجوز ذات الشعر الأبيض بمرزوق الأب الذي تحول، وعدم ارتياحها له (6)، وعلاقة هانم بالعجوز أيضا (7)، ومثل علاقة مرزوق بالسيدات اللاتي يبحث لهن عن عمل (8)، وأيضا علاقة يامن بفوفا وتعلقه بها (9).
يظل في جميع تلك العلاقات منطقة مبهمة لغرابتها أو شفافيتها الإنسانية، لكنها تحدث، منطقة يعيشها الإنسان تحت مظلة من الشعرية الخاصة لاختلاط مشاعره فيها وخروجها عن القياس المنطقي، وهنا يأتي دور الفن الذي يلتقط تلك الفرادات الإنسانية والمشاعر البينية الملتبسة فيضعها في السياق الإنساني ويعبر عن ملابساتها.
وتتبدى أنواع من الواقعية بالنص فبجوار واقع حياة الشخوص المتحقق، هناك الواقعية السحرية التي تتكئ على الموروث الأسطوري والفلكلوري مثل حكاية الرجل الذي عشقته الجنية (10)، يندمج في نص “محاولة الإيقاع بشبح” الواقع والغرائبي سواء كان موروثات الواقعية السحرية التي استقرت بالوعي الجمعي، أو الفانتازيا التي تشكّلها مخيلة الروائي ليخلقوا جميعا نصا روائيا ذا بنية فنية غير نمطية، معادلا لواقع حياة حقيقية، لكنه أكثر حراكا وتخيلا وخروجا على المألوف.
يقول يامن ليفسر شعوره بالغربة تجاه أمه بعد أن افترقا، مشاعره لكل من هم حوله من البشر وأثر تحول أبوه وأخوته لدمى مطاطية:” .. لم أعد أنشغل كثيرا لأمر أبي وأخوتي، صرت أنظر للمدرسين وللجيران وللناس في الشوارع؛ محاولا اكتشاف من تحول ومن لم يتحول لدمية بعد.” (11)
وبالرغم من فضاء هذه الرواية محدود العوالم، وتقلص عدد أبطال السردية وأحداثهم إلا أن أكثر ما يميز النص قدرته على تقديم سرد موازي للحياة، حكي يفرد بشراعه في عوالم الخيال ويتسم بالعذوبة المحملة بإنسانيات شفيفة. فمن خلال المواقف التي تتوالى مع حركة الدراما والصراع يقدم الروائي مجموعة من القيم التي تعيد التماسك والارتباط بين البشر بعضهم وبعض، وبينهم وبين الطبيعة، بينهم وبين المعاني والحقائق من قبيل الجنون أو الموت، ويشكل الروائي تلك المواقف مستعينا بالحكايات الغرائبية أو الفكاهة والسخرية والتهكم بلا افتعال، بل من خلال حدث أو مشهد بنيته العامة هي ما تحمل تلك المعاني والرسائل الضمنية.
وتترسخ عذوبة هذا النص من خلال عدة آليات رؤيوية وفنية يتسم بها العمل أهمها:
1ــ محو أثر المعنى المباشر وتقديمه في مواقف ومشاهد مثل هواية يامن للزراعة والنباتات وكيف أنه يزرع الشجر بالشوارع ليستفيد الناس من ظله، وربما لهذا السبب لم يتحول يامن لدمية مطاطية لأن هناك مايربطه بالحياة، أو الحرص على مد علاقات التواصل بين البشر مثل لعبة اللغة التي ابتكرها يونس ويمارسها مع يامن لتظل المعاني والحكايات بينهما، أو ليجعله يرى العالم على نحو آخر.
2ــ لا يقدم الكاتب السردية في إهاب بكائي، ولا إصرار على التأكيد على انتهاك الحياة ووقوع الظلم على بعض أفرادها، بل قدرة الأبطال على التعايش والاستمرار والشعور بأهمية الحب والتواصل، فبالرغم من كون يونس ضرير، ويامن منتزع من أسرته، ومن تحول ثلاثة من أسرته إلى دمى مطاطية إلا أن الإرادة الإنسانية والإقبال على الحياة يغلف إيقاع النص ويعلو على كل مآسي السردية.
3ــ تأتي العذوبة من اللغة الانسيابية التلقائية، التي تحمل جوهر الشعر في تكويناتها الأسلوبية، اللغة التي تخلق مشاهد ومواقف تدفع بالابتسام والتفكّر.
4ــ من القدرة على جمع الواقع والمتخيل معا في سبيكة متناغمة، فالمرأة التي نبت لها زغب وريش وأجنحه، وتطعم الطيور، وتتحدث إليهم لا تبدو خارج مشاهد الحياة التي نعيشها بالواقع، وكأن للروائي قدرة على خلق نماذج بينية من البشر أو يستطيع أن يضيف لهم خصائص من كائنات أخرى، فتبدو شخصياته الورقية كأنها نماذج بين بين، بين الواقع والخيال.
5ــ من فتح عوالم التأويل وعدم وضعها في أطر محددة وهو ما يدفع ذهن المتلقي للعمل واستكمال النص من خلال جهازه التخيلي والمعرفي.
6ــ من التناول المرهف مع الجسد والغرائز وتناولهما من منظور فكاهي وإنساني لا يتضمن ابتذالا، فجميع المشاهد التي تتعلق بعلاقة فوفا بزوجها تقدم بشكل فني لا ابتذال به، حتى أن عملية التلصص والوصف التي يقوم بها يامن لخاله يونس تصور أيضا بطريقة حيوية وفي لغة تحمل الحس الفكاهي الراقي.
تتميز أعمال هاني عبد المريد وسط جيله بالقدرة على ارتياد العوالم الغرائبية والتعامل الفني مع الفنتازيا دون الإغراق في الغرابة أو التجريد، بل دفع الواقع في العمل والسردية بطريقة تحمل الأمل دائما دون الوقوع في شرك اليأس والتشاؤم ، وتحفيز الجوانب الإنسانية والإبقاء على قدر من القيم التي تنظم حركة الإنسان وعيشه، والقدرة على التعايش رغم كارثية أحداث الحياة، كما أن لعبد المريد بصمته الخاصة في ابتكار أسلوب أدبي قريب إلى القارئ بعفوية وشعرية في آن واحد معا.
يقدم النص العالم وكأن بيننا وبين الآخرين أشباحا، وجود بلا حياة أو تواصل وتفاعل حقيقيين، لا تتحول إلى حياة حقيقية إلا إذا امتدت بنا الحكايات والمواقف وتبادل الحوار ووجود اللغة التواصلية المبدعة يقول يامن:” كانت المرة الأولى التي يلعب فيها معي لعبتنا التي بت أفضلها، والتي تطورت معنا تدريجيا، أن يقول كلمة فأضع لها تعريفا، ثم أنطق نفس الكلمة مطالبا إياه بتعريف آخر من وجهة نظره، قال لي الأم فقلت: حملتني تسعة أشهر وأرضعتني سنتين” رددت له الكلمة فقال: “واحة القلوب التائهة وينبوع الحنان الذي لا ينضب”، كان الشرط الذي وضعه الخال أن نتحدث باللغة العربية الفصحى قدر المستطاع، بعد اللعبة تعودنا أن يوضح لي ماغمض من كلمات .. تعلقت باللعبة وصرنا لا نكتفي بالتعريف، بل يمكن أن ننسج حكاية أو نسرد انطباعا تركته الكلمة لدينا، دون أن يقول لي وقتها أنها كانت في البداية مجرد محاولة مبتكرة منه لتقويتي في التعبير بالفصحى” (12)
لو لاحظنا التباين بين اللغة الموصلة للمعنى، والخالية من الخصوصية التي عرّف بها يامن الأم، واللغة التي تصنع أفاقا معرفية وشعورية جديدة وهو يصف الموت حيث يتوسل بالمجاز والتشبيهات والمفردات لعرفنا هدف يونس من اللعبة، عرف الخال كيف يفتح الأفق الذهني ليامن وتصبح اللغة، والمشهد، والمجاز المركب المتخيل، هي الجسر الباعث بالوعي والشعور. يقول يامن عن الموت:” رأيت الموت مرتين من قبل .. الأولى لا أذكر منها سوى فشله في اختطافي، في الثانية جاءني على هيئة طفل صغير، لم أتخيل في حينها أنه من الممكن أن يتجسد في صورة بهذه البراءة، كنت جالسا في إحدى الحدائق العامة، … ظهر لي متعثرا في خطواته، ابتسم، داعبته برفع حاجبي بالتبادل، ضحك بصوت مرتفع، سأعامله كصديق قديم، فأنا اتخذت الكثير من الناس أصدقاء بعد مقابلة واحدة، .. لكنه فجأة قطع ضحكته واختطف قلبي، وجدتني بلا قلب، كدت أنتهي، لولا تعثره في حجر يغطيه العشب، ساعتها طار قلبي لأعلى، واستطعت بالكاد التقاطه والفرار به” (13).
فارقت اللعبة هدفها المبدئي لتلعب على أبعاد أكثر عمقا فلقد أصبحت فضلا عن التعريف تخلق عالما لتعميق المفاهيم عن الحياة وقيمها مثل: الموت أو الأم أو الشبح، حيث المفردة التي بني عليها هذا النص بعوالمه، ولتتخيل الشخوص مشاهد معبرة لتجاوز جمود الواقع.
الحب والحكايات:
ويظل الحب الذي يُبطن العلاقات بين شخوص العمل هو الذي يدفع بالحكايات والتعريفات وقدرات اللغة على صنع وخلق واقع بأشكال جديدة، كما أن الإصرار على مواصلة الهدف، وإرادة النجاح والإنجاز، من بُنى الرواية المهيمنة، فلقد استمرت هانم تحكي حبا في أسرتها، تحكي الأحداث والوقائع التي مروا بها كأسرة، تحكي من ألف ليلة وليلة، تعيد حكايات المرأة ذات الشعر الأبيض على أسرتها التي صارت دمى. وحين تعاطفت فوفا مع تعلق يونس بها لم توصد شباكها، وصارت أكثر أريحية، فاستمرت تشغل حياته برائحة عطرها، وروائح طهيها، ومشاهد من حياتها مع زوجها، كما أذاقته جانبا من أنوثتها أيضا وكأنه حلم (141).
يبدأ النص باللعبة التي اتفق عليها الخال يونس ويامن حيث يذكر أحدهما كلمة فيبدأ الآخر بتعريفها وإعادة صياغتها بالمتخيل والحكايات، فيطلق الخال لفظة شبح مستنفرا ليامن، من هنا تبدأ الحكاية التي يقصها يامن متخذا من الحاضر لحظة انطلاق حين أصبح في كلية الطب ثم عودة إلى “الفلاش باك”، حيث تقنية الزمن الاسترجاعية التي تقص حكايتهم الغرائبية.
قد يتبادر إلى ذهن القارئ السؤال الاجتماعي، لماذا يتحول الناس إلى دمى؟ لم يجب النص عن هذا السؤال رغم مرور سنوات كثيرة على حادث التحول، ولم نعرف هل وجدت هانم الحكاية التي يمكنها أن تُرجع الروح إلى دمى أسرتها، لكن الكاتب ألمح لعدة احتمالات وراء التحول لدمى مثل أن الإنسان الذي لا رابط قوي بينه وبين الحياة قد يتحول لدمية مطاطية، لدى يامن حديقة من النباتات في شرفته، يراعيها ويعيد زراعة الشتلة التي تكبر في أحد الشوارع لتصبح شجرة فيستظل بها الناس. قد يصبح بعضهم مطاط لتحولهم في الحياة لآلات تعمل فقط، وكأنها في سباق لا ينتهي، قد يتحول مرزوق ومازن وفريدة لأنهم وحدهم من شعروا بزلزال لم يشعر به يامن وأمهم. حيث السرد مفتوح على مسارات تأويل مفتوح ولانهائي، لا يقدم إجابات قاطعة ولا يمتلك الحقيقة بل هناك حقائق واحتمالات، ربما كان من الممكن الاشتغال على السبب وراء هذا التحول ليصبح أكثر إقناعا للمتلقي.
اللغة في محاولة الإيقاع بشبح:
يُطرح في هذا النص علاقة شديدة التركيب بين اللغة والحياة، يعرضها الكاتب بوعي درامي وفني رفيع المستوى، فنحن نعي الحياة باللغة، إذا امتلكنا اللغة خبرنا الحياة، نحن نفهم ذواتنا عندما نصوغ ما بداخلنا باللغة. تقول المرأة التي نبت لها ريش وزغب بعد أن فقدت الذاكرة بعد اكتشافها لخيانة زوجها:” الصدمة جعلتني كمن فقد الذاكرة، لكنه بدا كفقدان لذاكرة التعريفات، أي أنني كنت أتذكر كل الناس من حولي، أتذكر علاقتي بهم وحكاياتي معهم ، تفاصيل حياتي واضحة لي تماما، ولكن كحكايات بلا معنى فما فقدت هو معنى الأشياء، فلم أكن أعرف مثلا ماذا يعني الحب، الانتماء، التعاون… ، كانت تعريفاته كافية لإعادة الذاكرة إلي، حينها فهمت ما فعل، وعرفت بعدما راجعت المعاني، ونظرت لها من بعيد، أنني بلا حب، وبلا وطن، وبلا حياة حقيقية، أنني محض امرأة وحيدة” (15).
في بنية هذه الرواية تشعر ببعض الحكايات والمشاهد وكأنها نصوص لقصص قصيرة قائمة بذاتها داخل النص الروائي، لكنها تمده ببعض بنيته الدالة مثل: “حكاية الست التي نبت الريش على جسدها” (16)، أو حكاية ملاك الموت، حكاية الرجل والجنية التي عشقته (17)، تضفي هذه الحكايات طقس أسطوري وسحري على النص مكتملا، وتكسر أفق التلقي لدى القارئ وتكمل رؤيا شبحية لعالم هذا النص.
تتسم سردية هذا النص الروائي بالانسيابية، يبدو الحكي طبيعيا وتلقائيا بلا تقعر، كأن موهبة الكاتب وفكره اندمجا وانسابا بلا عراقيل توقف تدفقهما وطبيعيتهما، سرد السهل الممتنع، حيث تحمل جمله وفقراته أفكارا عميقة عن الحياة، وتشيد ألغاز و تنزع نحو غير المألوف، ويستخدم الروائي اللهجة العامية في الجمل الحوارية وتتضمن أحيانا شتائم لا تكتمل صيغها تهذيبا، لكنها توحي بطريقة الطبقة الوسطى في الحوار. كما يتضمن السرد نكات تدفع بالكوميديا في صورها الناضجة غير المفتعلة، نظرا لخروجها من موقف أومشهد، وهوما يوحي بطبيعية الحكاية وواقعيتها، وبيان الجانب خفيف الظل في الشخوص.
ويلحظ في السرد أن كل رسالة مما يود الكاتب أن يتضمنها نصه يضعها في مواقف ومشاهد ومن خلال التقنيات الفنية والسياق المكتمل يتكثف المعنى ويتقطر فلا يعود يحمل فجاجة مباشرة الخطاب ولا يقع تحت الينبغيات.
وينقسم المكان في النص لمستويين: مكان سكن الأسرة التي تحول أفرادها لدمى وهو ما يثير كثير من الأسئلة، ويهب الحكاية والبيت بعدا أسطوريا وعجائبيا، كما يهبهما للمدينة الساحلية التي تقص فيها العجوز ذات الشعر الأبيض المشوش حكاياتها التي أعادت الحياة لمرزوق وأولاده، عدا الروح فقط.
هناك حكاية مفقودة وربما حملها هذا الشبح الذي تعدو خلفه تلك السردية، هل يمكن أن يكون الشبح هو روح الموجودات والسبب في الحياة؟
يتنامى شعور بالانتهاك يشمل معظم شخوص النص يونس الذي فقد بصره، يامن الذي اقتلع من أرضه وبيئته ليعيش مع الخال في بيت يتهالك، فوفا التي تعيش مع زوج لا تطيقه هروبا من زوج أمها، مرزوق الذي انتهك حلمه في حرب الأعداء التي أقنعهم بها مدرسهم للتاريخ.
في عام 1987 كان مرزوق بالصف الثاني الإعدادي، التقى بسيد مهدي مدرس التاريخ الذي كان مهتما بالقضايا العامة، يطرح مع طلابه قضايا سياسية واجتماعية، وكان لشدة حماسه، وعظم طاقته، وفيض إيمانه بما يقول يؤثر ويقنع من يسمعه
” سيد مهدي استطاع بحسبة بسيطة على السبورة إقناعهم بأنهم الجيل الذي سيحارب، وأن الحرب آتيه لا محالة، وأن السلام هو سلام وهمي، ولابد أن نستعد، كان كلما رأى فعلا تافها من أحد التلاميذ أثناء الحصة يقول: بقى ده واحد هيحارب إسرائيل؟” (19) عاشت كلمات سيد مهدي بداخل مرزوق
ماهي صفات من آمن بقضية عادلة وأعد نفسه لحرب قادمة مع عدو خارجي احتل أرضه وأرض أشقائه ؟ يقول يامن عن والده:” أثرت فيه؛ فلم يشرب سجائر، لم يمارس العادة السرية، أو ينتظر أمام مدرسة البنات لمعاكسة إحداهن، لأن كل هذا لا يليق بمقاتل، مرزوق كان يسير منتصب القامة، مسرعا في خطوه، يمشي ويجري لمسافات طويلة، تعود أن يقاوم كل ما يحب، يقاوم كل ما يعتاد عليه، حتى لو كان كوبا من الشاي، أو قطعة من الحلوى، فلا يليق بجندي مقاتل أن يضعف أمام شيء، ظلت أفكار سيد مهدي بداخله، تتلقى الصدمة وراء الأخرى، اجتياح القوات العراقية للكويت، ضرب فكرة القومية العربية وجيش الدفاع العربي المشترك، التيار العام في اتجاه، وأفكار سيد مهدي بداخله تتلقى الصدمة وراء الأخرى، أنهى مرزوق دراسته بتقدير جيد جدا، أنهى تجنيده بأحد الأسلحة المقاتلة بشهادة قدوة حسنة، صار أبا لثلاثة أبناء، ومع كل استعداده النفسي للقتال، كان أكبر ما واجهه في الحقيقة فأرا تسلل لشقتنا ذات يوم! وبعد جهد ساعتين هرب من حيث أتى، لم يقضي عليه في النهاية، وظل يحاول إقناعنا بأن في هروب الفأر انتصارا حقيقيا لنا، وأن فيما حدث نصرا تكتيكيا، ومن يومها صار النصر التكتيكي من مصطلحات بيتنا التي تضحكنا” (20).
يوظف الروائي مجموعة من التقنيات السردية التي تجسد الشخوص متوسلا بالخيال وتيار الكتابة الفنتازي، كما يرسم شخوص نصفها من الواقع ونصفها الآخر من التكوينات والأفكار الغرائبية التي لها سمت الفنتازي أو الواقعية السحرية.
ــ كأن النص يدعو بطرقه الفنية وبنيته وما يضمنه من بنية دالة ورؤية للعالم إلى إعادة صياغة الحياة ، إعادة دفع المعاني بالأشياء والقيم والأحداث، إعادة المعاني البكر للمفردات وألا نحصرها في معانيها الضيقة المعتادة، كأنها دعوة لمحاربة العزلة والوحدة والاغتراب، دعوة لإزالة قشور الأشياء المتجمدة ودفع الحياة بها مرة ثانية من خلال الخيالات والحكايات ورؤيتها على نحو آخر.
يحدث أن تقرأ نصا فتشعر بعده بالقلق ويراودك الخوف، أو أنه اتسع برؤاك ونظرتك للحياة، في نص محاولة الإيقاع بشبح تشعر أن هناك عذوبة إنسانية تتخلل سردية النص حيث مجموعة من القيم الرفيعة التي لا تتولد من المواقف والمشاهد والحكايات التي تتوالى بالنص بلا قصدية مباشرة وهروبا من الخطابية.
الهوامش:
1ـ هاني عبد المريد: محاولة الإيقاع بشبح، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2018.
2ــ هاني عبد المريد :ـــ عمود رخامي في منتصف الحلبة
ــ شجرة جافة للصلب
ــ كيرياليسون
ــ أساطير الأولين
ــ أنا العالم
ــ تدريجيا وببطء
3ــ حوار للروائي مع طلبة جامعة حلوان في ندوة حول محاولة الإيقاع بشبح.
4ــ الرواية:141 .
5ــ الرواية: 71 .
6ــ الرواية: 102 .
7ــ الرواية: 92 .
8ــ الرواية: 126 .
9ــ الرواية: 122 .
10ــ الرواية: 129 .
11ــ الرواية: 80 .
12ــ الرواية: 55 .
13ــ الرواية: 112، 113 .
14ــ الرواية: 141 .
15ــ الرواية: 102، 103 .
16ــ الرواية: 102 .
17ــ الرواية: 129 .
18ــ الرواية: 60 .
19ــ الرواية: 61 .
20ــ الرواية: 61 .