“فى مستوى النظر” احتفاء بالطابق الأرضى وروح الإنسان

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

خالد منصور

رغم الانتشار الكبير للرواية وتفضيلها لدى العديد من دور النشر يظل فن القصة القصيرة حتى فى شكله التقليدي قادرا على تحقيق الدهشة والإمتاع وإثارة الوعى، من خلال قدرته على القبض على اللحظة وعرض منظور أخر للقطة بسيطة بل والعبور إلى المشهد الاعتيادى الذى ربما نتعرض له فى حياتنا العادية ليكسبه مستويات أخرى تجعلنا بعد قراءة القصة التى لا تتعدى بضع صفحات نرجع برأسنا للوراء ونفكر بشكل أعمق لما نتعرض له فى حياتنا أو ربما نبتسم لقدرة كاتب القصة على ملامسة أرواحنا من خلال جزء محبب يثير الحنين فينا أو ما قد يثير ارتباكا يدعونا إلى إعادة ترتيب ثوابتنا وأفكارنا المستقرة فى خمول.

"يُحكى أن الدور الأرضي حينما يكتمل بناؤه، يتطلع إلى أعلى متخيلا بقية الأدوار التى ستُبنى. كان يعرف أن صاحب البيت لن يسأله عن رأيه، وربما لهذا السبب كان يبالغ فى تخيلاته، ولا يعجب بأي شيء يُبنى فوقه. ومع مرور الأيام لا ينظر إلى أعلى، فلا يوجد شيء سوى أدوار تتشابه فى الشكل والمساحة، وتذكره دائما بأنها صارت عكس كل ما تخيل. ويكتفي بقربه من الشارع، وبأنه فى مستوى نظر عابرين، تنطلق تخيلاتهم حينما يثيرهم شيء من خلال الشباك الموارب."

فى مجموعته القصصية "فى مستوى النظر" نظن فى البداية أن القاص والروائي منتصر القفاش يعمل على وحدة موضوعية للمجموعة وهى ساكنو الدور الأرضى بداية من المفتتح فى بداية المجموعة، إلا أننا ندرك أن بداية من عنوان المجموعة يعمل القفاش على أن يقول أن ما يكتبه تعرضنا له وشاهدناه سابقا فهو فى مستوى نظرنا، ولكن هو فن القصة القصيرة الذى سيلتقط ما فى مستوى نظرنا لنكتشف الغرائبي فى الوقائعي ووجوها متعددة لحدث واحد وحقيقة واحدة.

تدور العديد من القصص حول الدور الأرضى أو تطورات عمرانية كإنشاء كوبرى فتتحول الأدوار العليا إلى شقق دور أرضى بالنسبة للعابرين بسياراتهم على الكوبرى أو علاقات سكان الدور الأرضى بنظرائهم فى الأدوار الأخرى أو إحساس ما يحتمه الدور الأرضى أحيانا من التزامات أخرى كتركيب قضبان حديدية على النوافذ أو عدم وجود بلكونة .

يوجد نوع من العلاقة التآمرية المتفق عليها دون إفصاح وكأننا أحيانا لا نستطيع الاعتراف باحتياجنا إلى الطرف الأخر الذى أحيانا نعتبره خصما أو غير مهم  ففى قصتي "اللعب"،  "المفتاح" تلك العلاقة بين العجوز على المعاش والطفل، احتياج العجوز إلى الإلهاء وتمضية الوقت وحاجة الطفل إلى اللعب والمغامرة، وتآمر أخر فى محاولة الأب فى إتمام اتفاق على شقة الدور الأرضى فى سبيل صداقة مع صاحب العمارة، أو تآمر الأم بعدم تركيب حديد على الشبابيك والتى ستجعلها تشعر بأنها فى سجن.

 

من خلال قصتي "المفتاح"، و"صداقة" نلاحظ ما يفعله بنا العمر ووصولنا إلى انتظار الموت فالعجوز فى قصة المفتاح يدرك أنه أصبح وحيدا لا يقدر على الموافقة على الذهاب مع ابنته أما فى صداقة فالصديقان يتخليان عن محادثاتهما ذات الصوت العالى لكسب الوقت فى قراءة القرآن وأداء العبادات للاستعداد للأخرة.

بالرغم من أن غالبية القصص هى قصص واقعية تهمس فى أذنك بحس إنساني من خلال علاقات البشر العاديين أو بحنين نحو تلك المغامرات الطفولية البسيطة المليئة بالبراءة والدهشة إلا أنه اختار الفانتازيا فى قصتين بديعتين هما "شقة مهجورة" و"لا أحد يرى" ففى الأولى يكشف القفاش للطفل ذلك الساتر بين الواقع والحلم ويجعله مجرد شباك فى شقة مهجورة ويبقى السؤال هل لدينا الجرأة على عبور هذا الحجاب نحو الحلم أم نخاف أن نضيع فى الحلم بعيدا عن الواقع الذى اعتدناه؟ أما فى "لا أحد يرى" وكأن القفاش ينعى تلك الروابط التى اعتدناها فى المجتمع المصرى بين الجيران والتى قلت بشكل كبير بعد انتشار العمارات الضخمة ووتيرة الحياة السريعة فبدلا من تزاور الجيران تتبادل الشقق أماكنها فتخلق نوعا من الحميمية بين السكان لا يعلمون سببها وأحيانا يرتبكون أمام تقدير مسافات شققهم بسبب هذا التبادل.

"غير معروف عنه أنه يمكن أن تأسره لحظة مثل هذه، لكن مع استمرارها طويلا الليلة، شعر بها تعلمه كيف يصدقها، وتختبر – فى نفس الوفت – مدى مقدرته على تحملها."

أحيانا بينما تقرأ تلمس فى سطر ما أو فى قصة ما عمق تجربة الكاتب، أن هذه القصة تعبر عن ألمه وتجربته الشخصية. لمست ذلك فى قصة "لحظة"، رأيت منتصر القفاش فى هذه القصة وهو يدخل شقته يتلمس أصوات أحباءه ويتذكر تلك المناوشات اللطيفة التى كانت تحدث بسبب موقف متكرر ما بينه وبينهم، وصلنى إحساسه بالفقد والحنين إليهم من خلال تلك اللحظة التى نحاول تحملها والتعايش معها.

"نوع من الأحاسيس التى لا تعطله عن فعل شئ، ولا توقف الحياة، كلها تدفعه إلى التفكير فيها رغم أنفه. وتجعله يظن أن كل أسباب خروجه – مفرحة كانت أم محزنة – تتسبب فى هذا الإحساس. وتجعله يثق أن هناك أشياء فى الحياة لا مفر منها، مثل ظلك الذى يلازمك دون أن تعرف فائدته، إلا إذا فكرت أنه يطمئنك على كونك إنسانًا ولست شبحًا."

اختار القفاش أن يختتم مجموعته القصصية بقصتين يتداخل فيهما الوقائعي بالغرائبي، تلك اللحظات التى لا نفهم كنهها تعبر عن عدم قدرتنا على فهم وعينا نحو العالم أو كيف يؤثر على لاوعينا، ففى قصة "وهو ينزل" يعانى بطل القصة من إحساسه الدائم باختلاف المسافة التى ينزلها من شقته إلى الأسفل، مثل تلك الحالات التى نشعر بها ولا نفهمها كما أنها لا تتركنا، تظل معنا. ثم ينتقل فى قصة "المشى" إلى حالة أخرى من تكرار تصادم البطل مع المارة رغم حرصه الشديد وكأن الحياة تفاجئنا دائما مهما حاولنا رصد المعطيات وحاولنا توقع ضرباتها المتتالية فتلك الأحداث والأشياء غير المتوقعة تكرر نفس الرسالة أنها رغم صغرها تكشف لنا عن كل حياتنا وأين تكمن مشكلاتنا الحقيقية.

"فى مستوى النظر" مجموعة قصصية للقاص والروائي منتصر القفاش تروى لنا تلك العلاقة الحميمة بين الانسان والمكان، تلك الحياة التى تبنى والذكريات التى تحتل أماكنها الأثيرة فى روحنا من خلال اختيارات بسيطة كأن تسكن بالدور الأرضى، لتتعدى ذلك إلى مشاعر الفقد والوحدة والحيرة من موقعنا فى هذا العالم بين واقع محدد يفصله ساتر عن حلم فانتازي أو عن عالم غرائبي يكمن فى دواخلنا.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 كاتب مصري 

مقالات من نفس القسم