دولاب معتم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 43
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

نهلة كرم

         

 فتحت الفتاة دولابها ووقفت تنظر لملابسها قليلاً، قبل أن يرن هاتفها ذهبت لتحضره من خارج الغرفة، دون أن تسمع الأصوات المتهامسة التي كانت تتصارع خلفها، صرخ المعطف "هذا يومي.. لم أر الشارع منذ فترة طويلة جدًا".

قاطعه الجاكيت "كلانا أبيض فلماذا ترتديك وتتركني"، قالت "الجيبة" القصيرة في حسرة "أناسب كليكما.. ومستعدة أن أخرج مع أي منكما، لكنها لم تعد ترتديني كثيرًا.. تقول إنني أصلح فقط في بعض الأماكن "النظيفة"، ويبدو أنها لم تعد تذهب إلا إلى هذه الأماكن التي ترفضني.. فلماذا لا ترتديني ثم تغسلني حين أتسخ".

أجابها السروال "تفضلني عنكِ، لأنكِ تتسببين في أن يمسها بعض الرجال بأيديهم المتسخة كلما ارتدتك.. أما أنا فأحميها منهم". استفزها رد السروال فقالت له "لكنك تتسخ أيضًا.. فلماذا لا تغسلني مثلما تغسلك؟" نطق الـ"جاكيت" ليفصل بينهما "ربما بقع تلك الأيدي لا تنظف بسهولة، مثل البقع الأخرى!".

"على الأقل جميعكم ترون الشارع حتى ولو على فترات متباعدة، أما أنا فلم أعد أغادر هذا الدولاب منذ أن ضل مسمار أحمق طريقه بداخل أحد أكمامي، ولم يخرج قبل أن يصنع ثقبًا بها" قال "البلوفر" في ضيق.

 عزًاه سروالٌ آخرُ "يمكن إصلاح ثقبك بسهولة، أو إخفاؤه أسفل جاكيت أو معطف، أما أنا فحالي أصعب بكثير، فرغم أنه ليس بي أي ثقب أو قطع، لكن لا يمكنني رؤية الشارع مرة أخرى.. صرخت بها كثيرًا وهي ترتديني بأن تتوقف عن تناول هذا الطعام في تلك المطاعم، لكنها لم تتوقف، حتى جاءت لترتديني ذات يوم، ولم أستطع الصعود إلى أعلى كما أفعل دومًا، كان خصرها أكبر من فتحتي، ورغم ذلك اتهمتني بأني صرت ضيقًا، أقسم إنني لم أضق ولم أتغير منذ أن صنعوني، لكن خصرها هو الذي صار أكبر". ضحكوا جميعًا عدا الطقم الرياضي، الوحيد الذي شعر بآلام السروال من بينهم، قال له: "أضمن لك أنها سترتديك مرة أخرى، إذاعادت لترتديني، المشكلة هي أنني لا أعرف متى تعود لارتدائي!".

"جميعكم تتذمرون رغم أنكم خرجتم كثيرًا، أما أنا فلم أذهب إلى الخارج، ولو مرة واحدة منذ أن جئت إلى هنا، كانت سعيدة وهي تقيسني في بروفة المحل، أخبرت صديقتها بأنها ستشتريني حتى ترتديني حين تخرج في سهرة معه، لكني لم أرِ الشارع مرة واحدة بعدها ولم أرِ حتى هذا الذي اشترتني من أجله، أتت بي من فوق المانيكان التي أحببتها، والتي طالما تندرت معها على السائرين أمام زجاج المحل طوال اليوم، لتلقي بي هنا داخل هذا الدولاب المعتم!" قال الفستان الأحمر.

جاءت الفتاة فصمتوا جميعًا، أخذت من بين الملابس معطفًا أسود، ثم أغلقت الدولاب على أصوات غاضبة من عدم عدلها بينهم، لأنها ارتدت هذا المعطف أكثر من مرة فيما سبق، ومنذ أن بدأت في ارتدائه تلك المرة، لم تعد تلبس غيره.

وحده المعطف الذي لم ينطق بكلمة طوال الحديث السابق، كان يعرف لماذا صارت الفتاة ترتديه في الآونة الأخيرة، لكنه لم يخبرهم حتى يظل متباهيًا أمامهم بتفضيلها له عليهم، سيحتفظ بالحقيقة التي يعرفها حتى بعد أن تتوقف عن ارتدائه، وتعود مرة أخرى لارتداء باقي الثياب، أبدًا لن يقول لهم إن ألوانهم لا تصلح الآن لحزن بحجم الموت، ولن يبشر "السروال" الذي ضاق بأنها سوف تعود لارتدائه بعد أن صغر خصرها مرة أخرى، منذ أن فقدت شهيتها، كما لن يخبر الفستان الأحمر أنه لن يرى هذا الشخص الذي جاء من أجله.. أبدًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاصة وروائية مصرية
من مجموعة "الموت يريد أن أقبل اعتذاره" ـ الصادرة مؤخرًا عن دار العين

 

 

مقالات من نفس القسم