الساق

إدريس خالي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ادريس خالي

     لم تنفع الساق “الصّبْرَوِية“(1) عبد الله كثيرا. لقد جرب المشي بواسطتها .غير أنه ما إن تخطى عتبة الدار حتى ظهر عيبها. لم يكن نسغ السهم الذي منه صنعت الساق قد جف بعد. ولذلك انفلتت من نهاية فخذه وارتخت. ولحسن  حظ عبد الله أنه لم يقع على الأرض. لقد نفعه شكه في قدرة تلك الساق على الصمود أمام المنحدر الذي توجد فيه الدار التي وهبها له أبوه.

إن اليد التي تصنع تكون في الغالب مدركة للنواقص التي تعتري ما تقوم بصنعه.

ومن المؤكد أن يد عبد الله كانت تدرك أن تلك التجويفة التي حفرتها في رأس السهم الطري لن تصمد كثيرا. “فالصّبْرا” لا تنتج خشبا صلبا. ويندر أن تجد من سقّف بيته بهذه السّْهومَة. لو كانت تفي بالغرض لكنت وجدتها  بين أعمدة سقوف بيوت القرية.

عبد الله قدر في لحظة خشوع غير مفهوم المصدر أن السهم  سينفعه . وقد بنى تقديره على تجربته الفريدة:

 – ما دام السهم نفعني في تهييء العديد من  أجباح النحل فلا بد أنه سينفعني فيما انتويت صنعه. النحل مذكور في القرآن. وكل ما هو مذكور في القرآن فهو صالح لكل شيء.

ولو لم تكن تلك الارتخاءة المفاجأة لساقه المصنوعة بيديه ، لكان فكر في صنع سيقان أخرى. إذ أنه من المؤكد أن أرجلا ستقطع في الأيام القادمة لأن الله أو أي شيء آخر أراد الحياة هكذا.

عبد الله لا يعرف أن عدوا اسمه السكر هو الذي فتك بساقه. يعرف فقط أن فمه يستلذ بكل شيء حلو. وليذهب المانعون لملذات الله إلى الجحيم.

لم تنفعه ساقه التي أعدها بيديه. وقال إن الرجوع إلى المنزل أسلم من مغادرته. هكذا استسلم لضعفه وقفل زاحفا إلى الغرفة التي لم يفارقها منذ قُطّعت رجله. أقصد ساق رجله اليمنى.

أهم ما تاق إليه عبد الله  طوال مدة  فقدانه لساقه الحقيقية هو جمع الحلزون في الصباحات الندية. كان كلما جمعه لم يترك لأحد فرصة مشاركته في تهييئ وجبة منه.

وفي الحقيقة لا أحد كان يرغب مشاركته في تلك الوجبة اللزجة المقرفة ، بما في ذلك ابنته الصغرى العزيزة على قلبه.

 فأن يكون لك شهية أكل الحلزون والغراب والشرقراق والنعجة النافقة يعني أن تكون لك بطن  ذئب. “أحليك أوشن”، كما نقول هنا.

    وتحت سقيفة الدار كان عبد الله ممددا حين رأى رجلا يدخل من الباب. لم يتزحزح من مكانه حتى بعد أن سلم الرجل. ربما سُمعت تمتمة تشبه الرد على السلام. لقد انزلقت عينا عبد الله مباشرة نحو ذلك الشيء الذي يوجد معلقا في يد الرجل.

– ما تلك بيدك يا موسى؟، قال عبد الله.

– رْجْلْ. ، قال موسى.

– رْجْلْ؟ قال عبد الله. هذا ما ينقصني فعلا.

وتقدم  موسى بالساق التي كان يحملها  برفق بين يديه كما لو أنها “تْرابِي”. تقدم منه وقال له:

– هذه رْجْل تَفَوْبَر عليك بها سي الجيلالي.

– هذا من لطفه، قال عبد الله. هل  أنت متأكد من أنه لم يطلب مقابلا  لها؟

– لا . قال موسى.. كل ما في الأمر أنه أصبح الآن رئيسا  فقرر استبدالها برجل جديدة.  وفي الحقيقة هو لم يكلفني بإعطائها لشخص محدد. لقد جئت على بالي وقلت إنك أحق بها.

– آه، قال عبد الله. على أية حال ينبغي أن أشكره وأشكرك.

لا يشارك عبد الله في أية انتخابات. وهو لا يفعل ذلك من  منطلق قناعة ما ، بل لمجرد اعتقاده بأنه لم  يخلق لذلك. صحيح أنه سمع أن الجيلالي صاحب الساق خسر الكثير من المال لكي يفوز بالرئاسة غير أنه قال  لنفسه  وهو يتفحص الساق بيديه وعينيه :

  • وانا مالي؟” تكون لمّْن بْغَت.

   وجرب عبد الله ساق الجيلالي. كانت ساقا على مقاسه. حين ركّبها “جاتو لاصقة“. صحيح أن برغيا كان ناقصا منها ، غير أنه تدبر الأمر. ففي صندوق ‘الماتريان’ الذي تركه الراحل أبوه الكثير من البراغي.

ونهض عبد الله لشُكر موسى بالمصافحة.

– حقا. إنها رجل متينة، قال موسى. إنها تبدو كما لو أنها خرجت للتو من المعمل .

و ودع موسى عبد الله طالبا منه الصبر على البلاء. فالله إذا ما أحب عبده ابتلاه.

لم يقل عبد الله شيئا.فهو ليس عبدا صالحا كي يبتليه الله. ولذلك رافق موسى حتى الباب وهو يجر رجله البلاستيكية المهداة له.

– الله يرحم الوالدين، قال عبد الله.

والظاهر أن الأشياء التي تلازمنا لمدد طويلة تأخذ نفسا من ومع الوقت تألفنا فلا تنسى.

 لم  تنس الساق المعلومة  صاحبها الأول. كيف تنساه وقد ساعدته على الوقوف طيلة ليلة الإعلان عن النتائج؟

هكذا قررت ،مستعينة بتلك الحرارة التي ما زالت عالقة بين مسام البلاستيك المقوى، أن تتحرك.

استفاق عبد الله على حركة غير عادية بالقرب منه. لقد أزالها كما يفعل كل ليلة حين يود النوم ووضعها بالقرب منه.

– بسم الله الرحمن الرحيم، قال في نفسه.

ولطرد الجنون والشياطين قرأ ما تيسر من القرآن.

لكن الساق لم تكف عن الحركة. كانت تبدو  وكأنها عازمة على شيء ما. وحتى بعد أن تقدم منها عبد الله ووضع رجله الناقصة فيها لم تتوقف عن الزحزحة. في االحقيقة فكر عبد الله في جلب المنشار وقطعها من الجذر. لكنه عدل عن فكرته. ففي النهاية هو محتاج إليها .

ونهض.

وبدا أن الساق مرتاحة لنهوضه. ثم تقدم نحو الباب. كانت الساق تزداد استكانة كما لو أنها حية دوختها موسيقى مورض أفاعي.

ووجد عبد الله نفسه خارج المنزل. كان موزعا بين الفرح والخوف. فرح أن يكون أخيرا قد استطاع المشي دون أن يخشى السقوط، والخوف من الأمكنة التي تود أن تحمله ساق الجيلالي البلاستيكية  إليها.

ثم وصل إلى العين. العين التي توجد في قلب القرية. لم يكن هناك جني ولا إنسي . وقال عبد الله في نفسه هذا جيد. لو كان المكان مأهولا الآن لتعرضت لوابل من النظرات المستفهمة.

لم تهدأ الساق تماما. لم تستكن. كان يبدو وكأن روحا خفية تسكنها. روحا غريبة  تود من عبد الله أن يستمر في المشي.

اتجه عبد الله نحو دار الجيلالي ظانا أن الساق قد حنت إلى مولاها. غير أن الساق ما أن طاوعت الرجل التي  وضعت فيها حتى حرنت . لم تشأ أن تذهب في ذلك الاتجاه. وقد احتار عبد الله كثيرا . ولم يدر ما هو فاعل بالساق الغريبة وبجسده . وفي لحظة ودون أن يحسب خطواته اتجه نحو البيرو(2).

علينا ألا نسيء الظن بعبد الله. فحتى وهو فاقد لساقه الحقيقية، حتى وقد كمّل رجله بساق ألفت المشي في الجنائز والمناسبات المدفوع ثمنها و فهو لا يشاء أن يذهب إلى هناك. لقد كان يود الذهاب إلى البليكوس(3). ذلك المكان العالي الذي منه تُرى القرية هادئة وجميلة كعروس.

وبدا أن الساق  ارتاحت فعلا للوجهة التي سار فيها عبد الله. لكنها حين وصلت إلى ساحة البيرو رفضت التقدم قيد أنملة.

حاول عبد الله السير. غير أن الساق بدت كما لو أن مغناطيسا  قويا يلصقها  بالأرض. حاول عبد الله وحاول. قبض على ربلة الساق البلاستيكية وبدأ يجر.

بكامل القوة التي تولدت في يديه  بفعل الزحف الطويل  حاول تخليص الساق من الأرض. غير أن الساق اللعينة رفضت.

لقد بدت وكأنها عانقت جذورها العميقة المنغرسة في الساحة التي شهدت الكثير من الاحتفالات والاستعراضات الرسمية.

وحين تأكد عبد الله أن الساق تفضل البقاء هناك  قرر التخلص منها.

خلص رجله الناقصة من تلك الساق وزحف نحو البليكوس. لحسن حظه أن الوقت كان ليلا. ففي الليل تظهر الملائكة والشياطين والجنون. وبحكم أن كتاب عبد الله لم يسجَّل فيه أي أجر تقاضاه عن عمل آخر غير العمل في الحقول والشانطيات ، فقد ظهر له ملاك  في صفة رجل وقال له:

  • لا تخف. سأساعدك كي تصل إلى وجهتك .

 و وجد عبد الله نفسه في ذلك المكان العالي. المكان الذي يطل على الدار.  المكان الذي لا ينقطع فيه   ثغاء العنزات والشياه حتى في الليالي المدلهمة

كان جد ممتن للرجل الملاك. الرجل الذي بدا وكأنه يعرفه جيدا.

  • ها أنت. عليك أن تعتمد على نفسك. فالوقت ليل وعلي أن أتركك هنا، قال الرجل الملاك .

    ثم زحف عبد الله  نازلا نحو  الدار. وقد بدا أن المنحدر الطويل للطريق المؤدية للدار سمع ما دار بين الرجل الملاك وعبد الله فاستوى قليلا.

…………

هوامش

1)نبات شوكي.

2) في مرحلة الااستعمار الفرنسي كان يعني المكتب الخاص بالقبطان المكلف ببتسيير المنطقة إداريا وعسكريا. ومع الوقت أصبح هذا المكتب يطلق على مكان بأكمله. مكان يضم مقرا للقائد والموظفين التابعين له.كما تقام فيه الحفلات الرسمية.

3) في الأصل كان قشلة للجنود الفرنسيين.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون