الأدب والحياة، بالنسبة للكُتّاب الحقيقيين، ينصهران تمامًا حتى يتحولان لنفس الشيء. وخوليو كورتاثر لم يكن استثناءً عن القاعدة: مشاعره وغرامياته أثرت في أدبه، وأدبه أثر في مشاعره وغرامياته. وبالإضافة للحب العابر، عاش الكاتب الأرجنتيني ثلاث قصص حب كبيرة، مع ثلاث نساء معروفات لأنهن أيضًا لهن علاقة بالأدب.
المرأة الأولى
كانت أورورا برنانديث، أكثر اللاتي أثرن في كورتاثر. علينا أن نقول إن هذا التأثير كان دائمًا إيجابيًا في حياته، وبالتالي، في أدبه. النتيجة الأدبية لفترة المجد تلك بين أورورا وخوليو تفسر لنا أسباب ظهور كتاباته الاستثنائية في العديد من مجموعاته القصصية، التي تترك القاريء مبهورًا حتى بعد الانتهاء من القراءة. لكن، بحسب فهمي، أفضل كتاب لكورتاثر في تلك الفترة المجيدة هو “لعبة الحجلة”، المنشور بدار سودأمريكانا عام 1963، وهي رواية ضخمة وفانتازية، واقعية وسوريالية، موسيقية وأثيرية، عميقة وصلبة، لا نزال نقرأها.
ذات مرة سمعت أورورا بيرنانديث شخصيًا وهي تنفي أن تكون “الساحرة” (ونحن نعرف أنها لم تكن كذلك)، لكنها كانت “الساحرة الأخرى”، الحقيقية، التي دفعت كورتاثر إلى كتابة هذه الرواية التي صارت أيقونة أدبية لما سمّي بـ”البووم الروائي اللاتيني” الذي حدث في ستينات القرن الماضي. يكفي أن نتذكر، من بين حكايات أخرى لهذه الفترة، رفض خوليو وأورورا لوظيفة مترجمين باليونسكو التي فازا بها في مسابقة ولمدى الحياة. والسبب كان في الأدب، الإثنان كانا يريدان كتابة الأدب وليس الارتباط بأعمال يومية تقيد حرية حياتهما الأدبية على وجه التحديد.
المرأة الثانية
ورغم أن الليتوانية أوجنيه كارفيليس رأت خوليو كورتاثر في مكاتب جاليمار، بباريس، أكثر من مرة، إلا أن لقاءهما الحقيقي كان في هافانا، بكوبا. هناك بدأت علاقة الحب، وكان لها أثرها في أدب كورتاثر، أثر يلاحظ خاصًة في تسييس كتابته بإفراط. وخير مثال لفترة الحب الأيديولوجي تلك اكتشاف كورتاثر للثورة الكوبية وحماسته في مساندتها، ويظهر تأثير ذلك في “كتاب مانويل”، وهو نص يريد أن يكون كتابًا أيديولوجيًا، لكنه يمثل فشلًا أدبيًا. فالنوايا الحسنة لا تصنع أبدًا أدبًا جيدًا، وفي تلك الفترة التي كان يتضامن فيها مع فقراء العالم ودفاعًا عن أسباب الفقد التي يعتقدها عادلة، وقع أدبه، منتجه الأدبي، كتابته التي كانت من قبل متماسكة وذات لذة، في خندق التأثير بحبه لأوجنيه كارفيليس. تأثير مشؤوم، في رأيي، انتهى عندما قرر خوليو كورتاثر، في الفترة الثالثة من حياته، التعرف على كارول دونلوب، امرأة شابة جدًا، أصغر منه بكثير.
المرأة الثالثة
استطاعت دونلوب أن تحقق شيئًا واضحًا: كورتاثر، بصحبتها، تجدد شباب حياته. هذا الشباب المتجدد يلاحظ أيضًا في أدبه: قصصه القصيرة والأطول في تلك اللحظات كانت عودة لنصوص كورتاثر في سنوات مجده. باستعادة شبابه، لم تهجر أعماله أرض السياسة، بل وجد أرضًا جديدة في نيكاراجوا والثورة الساندينية، لكنه أثراها بخيال كاتب صار أيقونة برونزية في تاريخ الأدب العالمي.
وفي نهاية حياته، بعد وفاة دونلوب، أصابه المرض، وانطلقت آلاف الشائعات عن موته الكاذب. في النهاية، ليغلق هذه الدائرة، عاد إلى ضاحيته بصحبة أورورا بيرنانديث، التي اعتنت به حتى الاحتضار، عندما لم يكن يستطيع الحركة نهائيًا.
لا أريد أن أقول إن كورتاثر كان يستسلم للنساء، بل أن النساء كان لهن تأثيرًا جوهريًا في إنتاجه الأدبي. وبالطبع هناك مصادفات ومصادفات ظاهرية لا تغيب عن حياة الكتاب، كما يحدث في كل العالم.