حين بكت شجرات السفح

حين بكت شجرات السفح
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

الطيب طهوري*

تصبب عرق الشجرات التي على السفح. كانت الشمس تعانق كبد السماء مغتبطة بحرارتها الشديدة التي تلفح تلك الشجرات.

نظرت الشجرات متعبات إلى الأعلى..بدت قمة الجبل بعيدة ..بعيدة..نظرت إلى الأسفل.. أبهرتها خضرة أوراق شجر حافتي النهر وعلوها الباسق ..أبهرها أيضا زهوها ..

نظرت إلى بعضها البعض ..كانت أقل خضرة وأَضعف ارتفاعا.. 

تساءلت: ما السر في كل ذلك ياترى؟..ما السر؟ ..وعرفت بعد تأمل قليل أنه الماء..

قالت للجبل: لم لا تنبسط يا أبانا الجبل؟..تعبنا من تسلقك المستمر ليلا ونهارا..قربنا إلى النهر حتى نستحم برذاذ مائه، ونبعد عنا لفح هذه الشمس المحرقة التي لا تحس بآلامنا، ولا ترأف بنا..

رد الجبل: ستضيع جَبليتي إن أنا انبسطت يا بناتي الشجرات.. صخوري العملاقة التي ترين ستتدحرج فتُسقط الأشجار أمامها..ستكن أول الساقطات، يا بناتي الجميلات..سيمتلئ النهر بالأشجار والصخور والأحجار..سيفيض ويرمي كل شيء في قعره بعيدا بعيدا..لن أكون حينها..لن تكنَّ..لن تكون تلك الأشجار التي تحضن ظلَّها فيه..سأكون حينها سهلا أو هضبة..أو..لا جبلا.. و.. سكت الجبل..

قالت القمة التي كانت تسمع حديث الجبل والشجرات: أيتها الشجرات ..سأفقدكن حينها..سأفقد هذا الجمال الذي يمتد أمامي خلابا سعيدا..سأفقد رؤية الأفق وأخواتي قمات الجبال الأخرى..سأفقد عناق الغيوم ..سأفقد رؤية ماء النهر الجاري..والحقول والسهول..والأبقار والأغنام..سأفقد..سأفقد..قالت كل ذلك بما يشبه الهمس الحزين..

أعاد الجبل النظر إليهن أكثر..ثم قال شبه ضاحك: لم لا تنزلن أنتن أيتها الشجرات؟..لم لا تنزلن يا بناتي الجميلات؟..

كيف ننزل؟..ردت الشجرات..

فكِّرن..فكرن..قال الجبل..  ..

فكرت الشجرات..فكرت وفكرت..دون جدوى..  

حين يئسن تماما، صاحت شجرة البلوط التي كانت أسفلهن جميعا..وأقربهن إلى النهر البعيد: وجدتها..وجدتها..

ماذا وجدت يا أختنا؟..سألت الشجرات؟..

سأنزل..

تنزلين؟..كيف؟..

ادفعنني ..قالت..

نظرت الشجرات إليها..ثم إليهن حائرات..

أعادت: ادفعنني..

مالت الشجرات إليها..دفعنها..لكنها لم تتحرك..

ادفعنني بقوة أكثر..أكثر..

دفعة..دفعتان..ثلاث..سمعت الأشجار دوي سقوطها..سمع الجبل..سمعت القمة أيضا..

طارت العصافير والطيور خائفة..جفلت الحيوانات التي كانت تستظل بالأشجار..فزعت الزواحف والحشرات وتفرقت تائهة شريدة..و..

تدحرجت الشجرة إلى الأسفل..وبقرب النهر كانت ..

انهضي أيتها الشجرة..انهضي يا أختنا..نادت الأشجار..

قفي..قال الجبل..

ولم تنهض الشجرة..لم تقف..حاولت..وحاولت..ولم تقف..

سمعت الأشجار نحيبها..سمعه النهر والجبل والقمة..سمعته العصافير والطيور.. الحيوانات والزواحف والحشرات..

تحركت الشجرة..لعل..لعل..يمينا تحركت..شمالا تحركت..عن الأرض قليلا ارتفعت..و..سقطت..

في المساء رأت الشجرات أوراق أختهن الشجرة..رأينها ملتوية ذابلة.. في الغد رأينها تجف..رأين الغبار كثيفا على جذعها..نادينها..و.. هامسا حزينا سمعن صوت ردها.. نظرن في الوجوه..رأينها.. في الجذوع..رأينها.. في الغصون..في الأوراق..لم يرينها.. بكين بُعدها..بكين موتها الذي يكون..

في الغد الموالي..سمعن صوتها الأنين..نهضن مسرعات..نظرن ..رأين حَطابها..سمعن صرصرة المنشار ..سمعن تساقط الغصون على الغصون..حزنت جذوعهن..بكت الأغصان فيهن ..بعد برهة رأين فأسه..رأينه وقد هوى على الجذع ..رأينه وقد قطع الجذع إربا إربا..صرخن باكيات.. ندبن.. الأغصان شدت الأغصان..تناثرت الأوراق في المكان.. بكين..بكين..بكت الحجارة التي رأت..سالت الدموع غزيرة على السفح..سريعة .. كاد الجبل أن ينفجر غضبا وحزنا..لكنه خاف على شجراته..خاف على قمته..خاف على صخوره..خاف عليه.. فضمه..ضم صخوره ..و..

رأت القمةُ الدموع تجرف الأغصان والجذع والفأس والمنشار..رأت الحطاب في الدموع ..رأته في الصخور..في المياه..في البعيد..رأى الجبل ما رأت ..رأت الشجرات..رأت العصافير والطيور..رأت الزواحف والحشرات ..

امتلأ النهر دموعا..فاض..ما حوله جرَفَ..الأحجارَ والأغصان والحشائشَ التي ترى جرفَ..

حزن الجبل كما لم يحزن من قبل أبدا..

مثله حزنت القمة وبكت غيوما ممطرة كثيفة كفيفة..

فاض النهر أكثر أكثر..فاض كما لم يفض من قبل أبدا..أبدا..عانق السهول والحقول والحصون.. و..سار مزمجرا راعدا..بعيدا..بعيدا.

……………….

*قاص من الجزائر

مقالات من نفس القسم