كتابة وحوار :أسعد الجبوري
كان يجلسُ على كرسيّ مرتفع من الخيزران، وحوله كورال من الفتيات المندمجات بقراءة قصائد، تكاد أن تظهر النيران من كلماتها. فيما الشاعرُ الجالسُ، فقد كان مستغرقاً بتأمل بطائر “الشونو” الذي كان واقفأً أمامه بأعينه الست التي كانت تتبخر منهنّ مختلف العطور، لتنتشر في فضاء المكان مُسكرةً الحاضرين بتلك النشوة الغامضة الشبيهة بالحشيش.
ما أن وصلنا إلى ذلك المكان، حتى أشار الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي (ديسمبر 1902 – 28 أكتوبر 1999) بإصبعه للكورال بالتوقف عن الترتيل الذي كان مصحوباً بالموسيقى. وذلك ما تم بالفعل، فقد هدأ كل شئ آنذاك، بعدها نهض رافائيل لمصافحتنا والطيران بنا على ظهر طائر (الشونو) الشبيه بجسم الهيلكوبتر، حيث أخذ الشاعر بتعريفنا على الأمكنة التي كنا نحلق فوقها. بعد ذلك دخلنا مكاناً يشبه الصومعة، وحيث حطت رحالنا، لنبدأ بالحوار مع الشاعر، فيما كانت الخادمات يوزعنّ المشروبات الروحية مع بعض الأطعمة الخفيفة التي ليس لدينا معرفة بها من قبل.
وما أن دبّت المشروبات في العروق حتى طرحنا على الشاعر رافائيل ألبرتي السؤال التالي:
س:كيف جئت إلى هنا يا رافائيل ؟
ج/ليس على دراجة هوائية بالتأكيد.
س:تعني كنت صاروخاً، وشققتَ قبركَ لتصل إلى السموات وتستريح ؟
ج/أجل.ولكن ما من راحة هنا على ما يبدو .
س:أهو خوفك من نظام الثواب والعقاب مثلاً ؟
ج/لا.فأنا لا أومن بحفلات اللحوم التي قيل إنها تُشوى وتتعذبُ بأسياخ الحديد وسط أفران جهنم المختلفة.ما قصدته، هو أن الناسَ لم يعتقدوا بعد، بأن القبور هي أجمل ملاهي العالمين السفلي والعلوي معاً.
س:ما تزال أفكارك شعرية حتى الآن، ألمْ يحدث تطور لتغييب رائحة الشعر عنك في أثناء رحلتك من الأرض إلى السموات هنا؟
ج/لم يكن الشعر عندي رائحة قط، بل هو شأن عضوي، أصبحت كل أعضاء جسمي تحت سيطرته لاحقاً. بعبارة أدق، الشعرُ هو المجال المغنطيسي الذي تدور في فلكه كل حواسي العاملة.
س:هل يولدُ الشاعرُ في الشعر أم العكس برأي رافائيل ؟
ج/مع أني لست طبيباً مختصاً بالولادة، إلا أنه يمكن الجزم بأن الشعر هو السائل المنوي الذي تتكون منه خلايا اللغة، فتنمو لتخلق شاعراً بمصاف النجوم.
س: ألا ترجح احتمال أن يكون الشعر بذرة من البذور الغامضة ؟
ج/ ربما.فقد يكون هذا الاحتمال وارداً.فالأجساد الشعرية،عادةً ما يكون بغرف وردهات غامضة لنمو مثل تلك البذور التي تحدثت أنت عنها .
س:ولكن الفضاءات هي حدائق الشعر.ألا تصح هذه الفكرة المضادّة لفكرتك التي اعتمدتها من خلال تلك الغرف المظلمة والردهات الغامضة ؟!
ج/أنا أرجح فضاءات الباطن على ما سواها من فضاءات الظاهر .
س:وتعتمد عليها في تفسير نموك الشعري أيضاً؟
ج/أجل .أنا بذرة شعرية تم نموها في معامل صناعة النبيذ في مدينة قادش.
س:وماذا كانت تأثيرات الكحول على بناء روحك الشعرية؟
ج/أفضل، وبما لم أكن أتوقعهُ.
س:كيف .أو ما معنى ذلك بالضبط؟
ج/لقد حَسنّ الكحولُ من أداء اللغة، بعدما طهرَ رأسها من البكتريا الصنمية .
س:ولم يخرب حركة المخيّلة في الحقول اللغوية برأيك ؟
ج/ولا في مختبرات الصور والتصوير كذلك،بل عادة ما تخلق لها طقوساً جديدة وشديدة الارتباط بالفانتازية.
س:هل لرافائيل علاقة بالسريالية؟
ج/لم ألبس قميص السريالية،ولكن روحي الثانية مع جنونها الذي لا يتوقف.
س:وكم روحاً عند رافائيل ألبرتي ؟
ج/لا أعرف بالضبط.
س:كأنك لم تعَدّها بعد كل تلك السنوات التي أمضيتها على الأرض؟!
ج/أجل.فالأرواح ليست أرقاماً ليتمكن الشاعرُ من عَدّها. هي مياهُ شبيهة بشلالات نياغرا. تتدفق من أمكنة مجهولةٍ وتصبُ دون وعيّ منها،حتى تسّاقط أو تتبخر، لتعود لرحم الأرض مرة أخرى.
س:كدورة الماء في الطبيعة تقصد؟
ج/كدورة الماء في الأنفس العميقة.ذلك ما أقصدهُ بالضبط.
س:ألا تتعرض أرواح الشعراء لمخاطر الذبول أو التهجير أو القتل ؟
ج/ عندما يستغرقُ الشاعرُ بالحب.
س:ومتى يكون الحبُ خطراً على الشاعر بحق الآلهة؟!!
ج/قد لا توجد أدلة لتوضيح تلك المخاطر،ولكن يصعب وجود بوصلة للحب في حياة العظماء ممن كتبوا الشعرَ ،فتاهوا على أسطر الوجود حتى ذوبان الضلوع،وخروج قلوبهم للتنزه الحر على أرصفة العالم.
س:هل تمكنتَ من أن تعيش في الكلمات ،يوم كنت ميتاً ترقدُ بقبرك يا رافائيل ؟
ج/نعم.وكانت مشاعري الإنسانية إطاراً لكل ما في الوجود الخارجي من مصائب وتجليات تُجسدُ الحبَ والبكاء والآلام والحرائق والتعذيب والكوابيس.
س :هل الشعر قادرٌ على أن يكون مُخَلّصاً؟
ج/ لا أظن ذلك.
س:لمَ تظنُ هكذا؟
ج/لأن الشعرَ نقطةُ الارتكاز التي تحيطُ بها حرائق الجميع، من اللغة إلى عذابات الكائنات المختلفة على الأرض.
س:ما موقف الشعر من الحرب؟
ج/إذا كان الشعرُ رافضاً للموت، فحتماً هو ضدّ أن تستوطن الآلاتُ العسكرية منازل الكلمات.
س:خشية تدمير تلك المنازل كما تريد أن تقول؟
ج/بالتأكيد.فتأثيرات الحروب على لغات الشعوب ،أفظع بكثير من تأثيرها على المباني والجسور والجثث المحترقة.
س: ان الحرب كما يقول –روجيه كايوا – (( تمثل حقاً تفاقم الوجود في المجتمعات العصرية. تهدم بهمجية دائرة الحرية التي ينظمها حوله كلُ فرد من أجل لذته،وهي تهدم دون تمييز القلق والسكينة،وما من شئ خصوصي يبقى،لا إبداع ولا متعة حتى ولا قلق ،وما من أحد يستطيع البقاء متنحياً جانباً والاشتغال بمهمة أخرى،لأنه ما من احد غير مجند في خدمتها بطريقة من الطريق،فهي بحاجة إلى جميع الطاقات )).هل تشاطر الكاتب نظرته للحرب؟
ج/لا أعتقد بأنني أخالفه الرأي،فأتصور إن الناس تلبس المايوهات وتذهب للسباحة في البحر والتمتع بالشمس والبيرة والسندوتش.ولكنني أحسب حساب التدمير الذي سيضربُ اللغات،فتتغير وتشوه وتستبدل دلالاتها بأخرى تفوح منها رائحة الدم والكراهية.
س:ولكن ألا تعتقد بأن في اللغات الكثير من الخنادق؟
ج/نعم.وهي خنادقٌ لمجموعات التطوير التي تهتم بمنع اللغات من التدهور والتراجع والبرودة ،وليست خنادق للدبابات والمدفعية الثقيلة بالتأكيد.
س:بعد أن كنت عضواً في تحالف المثقفين ضد الفاشية خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في إسبانيا 1936 ،هربت إلى فرنسا من الدماء .لمَ تخليت عن القتال مع الجمهوريين ضد الفاشست مفضلاً الهرب إلى ما وراء الحدود؟
ج/ ورّطني بابلو نيرودا بالفرار ، بعد أن تعهد بتهريبي إلى أمريكا .وهو ما أنجز ذلك فعلاً،حيث سافرت إلى الولايات المتحدة ومن بعد ذلك الإقامة في الأرجنتين .
س:ويا ترى كيف استطاع شاعر شيوعي مثل نيرودا التوسط لدى دولة رأسمالية لمساعدة شيوعي آخر باللجوء إليها ؟!!
ج/هو سؤال يثير الشكوك ويكسرُ الكثير من الأشياء في حواسنا .
س:هل للغة حواسّ برأي رافائيل ألبرتي ؟
ج/ لو لم تكن ثمة حواس للغة، ما كتبتُ جملة من الشعر في حياتي .ذلك أن نمو الشعر،لا يأتي إلا من خلال أعمال تلك المحركات الفسيولوجية- الفيزيقية .
س:في أية منطقة من جسد القصيدة،تكمنُ ذاتُ رافائيل ألبرتي ؟
ج/أظنُ إنها ذاتٌ مطاردة على خيوط كثيرة وطويلة من الآمال التي تمتدُ من متاحف النساء وحتى الماركسية التي تكمن فيها الحلول .
س:حلول الماركسية ما بعد البيريسترويكا تقصد؟
ج/كل ما تأكله النيران،يمكن إعادة صياغته من الرمال من جديد.فلا تخف .لن يطال الموتُ الشيوعية حتى في السموات هنا .
س: الصور الفوتوغرافية التي التقطها لك المنتج السينمائي الإسباني الشهير ((خوان ليبرون)) في نيويورك، أظهرت انبهارك بالبرجين التوأمين، أثناء الرحلة التي قمت بها إلى تلك المدينة في بداية الثمانينات. كيف وجدت نيويورك شعرياً ؟
ج/كانت نيويورك أشبه بديناصور عمودي من الزجاج .
س:وكتبت عنها ؟
ج/كان لابد من الكتابة عن تلك الحديقة الجوراسية التي كانت مقدمة لسلسلة أفلام أمريكية من إخراج ستيفن سبيلبرج .
س: هل يمكن بناء حديقة جوراسية في ناطحات السحاب برأي رافائيل ألبرتي ؟
ج/ذلك ما يفعلهُ الشاعرُ المُثمرُ بالضبط،لأنه يقدس أعمال التخيل ومخلوقات المخيّلة عبر التاريخ.
س:والنساء.هل هنّ من أعمال التخيل أو من مخلوقات المخيّلة ؟
ج/لا أعتقد ذلك.فالنساء من صناعة أنفسهنّ في المجرى العميق للجينات ولمرايا غرف النوم .فما من امرأة ،إلا وتتمنى أن تكون جملةً ولو عابرة في قصيدة.
س:ألا تعتقد بأن الشعر، يتحوّل دونهنّ إلى صحارى تهيمُ فيها الأفاعي والعقارب ؟
ج/ ذلك ما أراه.فكل احتكاك بامرأة،لا يولد ناراً وحسب،بل يُحسنُ من ظروف كتابة الشعر على جلودهنّ بموجاتٍ من ذلك الماء الفوّار والسحري والنادر.
س: هل يذهب رافائيل ألبرتي بشعرِه إلى النساء،أم هنّ من يقتحمنّ قصائده؟
ج/في أول العمر،كانت النساء تأتي لتمزج شعري بروائحهنّ،إما فيما بعد،فقد كنتُ أرسلُ لهنّ قصائدي بزجاجات من النبيذ الفاخر.
س:ولمَ النبيذ دون الورود أو سواهما من الهدايا الأخرى ؟
ج/لأن تفاعل الثلاثي هو الأقوى تأثيثاً لمشروع الغرام .
س:تقصد أن التفاعل الثلاثي ما بين الخمر والشعر والورد ،هو المولّد الأعظم للجنس ؟
ج/لا شك بذلك.بل وهو تفاعل أبعد من الجنس ذاته.
س:وما هو حسب معرفتك ؟
ج/لا يمكنني تفسيره بشكل عابر،لأن مشروع التكامل الجنسي للنشوة،يختلف من امرأة لأخرى.وهو داخل العملية الشعرية،يمكن اعتباره إضافة جديدة للتفجير الشهواني لتلك القنابل التي تقودنا إلى الانفجار الشمولي داخل السرير.
س:هل يعتبر رافائيل ألبرتي النساء مستوطنات للشهوة فقط؟
ج/لا أبداً.فبالإضافة إلى إنهنّ من مخلوقات حدائق الشيطان وبنات أرصفة طريق الحرير، إلا أنهنّ الخيط الواصل ما بين النهار والليل.
س:لذلك سلّمت كلّ شؤون حياتك لهنّ كما قال عنك الكاتب الإسباني غونزالو سانتونخا ؟
ج/أجل.فأعمال الشعر لا تلتقي مع أسواق التجارة بالتأكيد.
س:هل يشمل كلامك هذا ((حب في الهواء)) ذلك الكتاب المُهدى من قبلكم لعشيقتك ((بياتريس أمبوستا)) وغير المنشور حتى الآن؟
ج/ذلك الكتاب يحتوي على قصائد كُتب لبياتريس وحدها.لذا وضعتها في الخزنة وأغلق الباب على رافائيل ألبرتي .
س:هل يمكن اعتبار الشعر السريّ جزءاً مفقوداً من مؤلفات الشاعر ؟
ج/لا أعتقد ذلك.ولكن مثل تلك الكتب المُعَشقّة بقصائد الغرام الاستراتيجي،هي أعظم ضرائب الحب التي يدفعها العاشقون في تاريخ التناغم .
س:وماذا كتبت لعشيقتك بياتريس أمبوستا من شعر يا رافائيل ألبرتي؟
ج/لم أحفظ من تلك القصائد شيئاً،وذلك لأمرين اثنين:أن بياتريس كانت مايوه بقطعتين ،ولأن شعري كان مقاطعة مياهٍ تحرسُها أعينُ التماسيح.
س:هل عشت حياة التماسيح في سرير مع النساء ؟
ج/ومن أين لي أن أعرف شيئاً عن ذلك؟
س:هل كلّ النساء مررنّ بك، وأنت فاقد للذاكرة كما يُستشفُ من ذلك .أم أكلتك إناثُ التماسيح ؟
ج/أجل.فعندما يجتمعُ الخمر بالجمال،سرعان ما تُمحى ذاكرتي،أو تسقط من رأسي، فتذهب طعاماً منهوباً للصقور أو للقطط أو للتماسيح.
س:هل كنت تحبُ المرأة على صورة قطة يا رافائيل ؟
ج/نعم.فذلك أفضلُ من أن تراها دبابةً تحتلُ كامل السرير ، مستنفرةً تساقطُ من فمها القُبلُ قطعاً من مختلف المعادن.
س:ولكن بعض النساء يمتهنّ الشراسة والقتال وإشعال الحرائق في خرائط العمر، حينما يخربطنّ في الساعات عقارب الزمن .أليس كذلك يا رافائيل؟
ج/ أجل.توجد نساءاتٌ يجعلنّ من الحبّ ثكنة ،يتهيأ كلُ أعضاء الجسم فيها للقتال في هذا الخندق أو ذاك،بعيداً عن فكرة الجماع الشهواني الذي هو الأصلُ في معجم الجينات.
س:سأطرح عليك سؤلاً عن كتابك المخطوط “حب في الهواء” الذي أهديته لعشيقتك بياتريس..
لماذا ترفض تلك المرأةُ نشره، حتى مقابل مبالغ ضخمة من المال التي عُرضت عليها من أهم دور النشر؟
ج/ربما لأنها تعتبر ذلك المخطوط منزلها الأخير الذي تريد أن تقضي بقية أيام الحياة بين أوراقه، ولا تريد بيعه أو مغادرة ذكرياتها.
س:هذا فقط ؟
ج/قد يوجد لديها أمر آخر، ومع ذلك فأنا أعتقد أن الذي يكمن وراء رفض بياتريس نشر قصائد ذلك المخطوط، هي إنها ما تزال تشم فيه رائحة جسدي، ولا ترغب أن تضيّع تلك الرائحة أو تُسفحها على ورق المطابع.
يمكنك طرح السؤال عليها ،فقد تكون لها إجابة مختلفة.
س:برأيك،هل تُولّدُ بعض القصائد الهواجس الجنسية ؟
ج/ بالتأكيد.فيوم تعرفتُ على امرأة في نيويورك، مررتُ بكل ما هو هائل. كانت نديمتي الحارّة في حلقات الخمر. تسرق مني بعض القصائد وتختفي من الحانة. وعندما ألتقي بها في اليوم التالي وأسألها عن الغاية من وراء تلك الأعمال، كانت تخبرني بأن حرارتي الشعرية في الورق أكثر بكثير من حرارة جسمي .
س:تقصد إنها كانت تمارس الحب مع قصائدك، وتهملك في الحانة للشراب ؟
ج/ بالضبط.ذلك ما كانت تفعلهُ . حتى إنها تستعمل أسماءً مستعارة، فتختارُ لكلّ ليلة اسماً جديداً.يا لها من امرأة رائعة.وكنت سعيداً بكلّ ما كانت تفعله بي وبقصائدي .
س:كيف كان خط سيّرك داخل قصائدكَ يا رافائيل ألبرتي ؟
ج/مثل انفجار أغنية عاطفية بأذن فتاة مراهقة.
س:ومن أية أمكنة كنت تجمع حروفَ مؤلفاتك ؟
ج/ من الحطب.
س:ومتى كان الحطبُ لغةً يا رافائيل ؟
ج/قبل بدء الخليقة كما أظن .فالاحطاب هي من قامت بتكوين النار التي بدورها ،تمنحُ اللغاتَ كلّ ما تظن انه فاعل وينفع أرحام الكلمات.
س:بعيداً كتابك ((عن الملائكة )) من هم هؤلاء الذين كتبتَ عنهم المقاطع تأليفاً وسبراً ؟
ج/الملائكة شخوص مؤلفةٌ من قبل القساة،لإظهارها كأنداد من حاملي قلوب الرحمة.وأنا عبثت بتربة الجينات،لأثرثر قليلاً عن تلك الأوهام المتعلّقة بالملائكة .
س:تعني بأن روحك مثل أرض ت. س. إليوت خراب يباب بلا معنى لا على الكرة الأرضة ولا على الورق ؟
ج/أنا أحاول تبديد كل غموض يحيطُ بالآلهة وبالأساطير والخرافات التي أنزلتها عليها الأديانُ ،لنرضع منها الحليب وتنتفخ فينا معضلات مواجهة نار جهنم.
س: أنتَ حاولت الكشف عن ذلك في كتاب مذكراتك ((الغابة الضائعة)) ولكن ليس بالقدر الكافي من الشجاعة ،خاصة في – الملائكة القساة – فهل كنت تخشى الرب من جرائم قتل العصافير أم كنت تمارس الكذب على ذات غير بريئة،سرعان ما وجدت نفسها غارقة بمذبحة طير تغطى جثثه تحت الثياب تلافياً لقوانين الصيد الممنوعة ؟
ج/ لم تكن المسألة بذاك الحجم.
س:هل تم إعدام الشاعر لوركا نيابة عنك، حينما ظن فرانكو بأنه كاتب تلك القصيدة المضادّة لحكومة الفاشيست في إسبانيا؟
ج/بالضبط.لقد أكلها المسكين فريدريكو لوركا كما لو كنت قد خططتُ للتخلص منه.
س:وتعترفُ علانيةً بأنك من قدمهُ ضحيةً لفرقة الإعدام في حكومة فرانكو في أثناء الحرب الأهلية ؟
ج/الشعراء مثل الثيران في حلبة مصارعة مفتوحة.لكن فرانكو وحكومته الفاشية لم توفر المسالخ لذبح الثيران والخراف والماعز والأيائل وكل شئ بما في ذلك العصافير والعنادل وطيور الحب والفراشات.
س:ما أوجه الشبه ما بين الشاعر الأندلسي الملك المعتمد بن عباد وبين رافائيل ألبرتي ؟
ج/ كان الشاعر الملك المعتمد بن عباد طيراً مغرداً بالحنين للأندلس من منفاه المغربي حيث قضى نحبه هناك.فيما أنا ،فقد قضيت نحبي على السطور في بلادي التي ما تزال أغانيها تنبعث من رماد جثتي المنتشر في الآفاق وصولاً إلى أعالي السموات
س:وصديقك الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي .ماذا عنه وعن شعره ؟
ج/كان الشاعر البياتي مخلوقاً ليلياً لطيفاً مستغرقاً بصناعة الخرافات والقصص حول نفسه.كان يعجبني جداً،لأنه يحاول التعويض عن ضعف الشعر بقوة الحياة.
س:هل هو موجود في فردوس من الفراديس هنا ؟
ج/سألت عنه الشاعر أبو مُلَيْكة جرول بن أوس بن مالك العبسي المشهور بـ الحطيئة. وهو الشاعر المخضرم ما بين الجاهلية والإسلام، دون أن أحصل منه على ردّ واضح.أخبرني فقط، أن صديقه البياتي في رحلة صيد الأفاعي في التلال الواقعة فيما وراء الخط الأزرق.
س:هل حاولت ممارسة هوايتك القديمة –الرسم- هنا؟
ج/ليس قبل أن تأتي ماريا كالاس إلى متحفي الذي أنتهيت من تأثيه قبيل أيام .
س:تنتظرُ قدومها إلى هنا ؟!
ج/ أجل.فلا يمكن أن تكتمل لوحات الفن التشكيلي دون أن تكون لها مرجعية أوبرالية مهووسة بالشعر .
س:هل يقصدُ رافائيل بأن رأسه منطقة متنازع عليها ما بين ثلاثة من الأقوياء :الشعر والرسم والموسيقى ؟
ج/لا أعترف بهذا التقسيم الديكتاتوري،لأن العناصر الثلاثة متداخلة،وقد تصير جميعها في وحدة تفيض بالحنين المشترك الذي تتمازج به العناصر كلها ،لتنتج لذّة قصوى،ربما تغطي كامل الحواس بطيفها الشبيه بقوس قزح.
س:كنت مغرماً بالمصارحة ،ورغبت على أن تكون مصارعاً على الأرض.ألا توجد حلبات لمصارعة الثيران في السموات هنا ؟
ج/نعم.فالكثير من الموتى القادمين من الأرض إلى هنا،سرعان ما تتغير هيئاتهم، فيتجسدون بأشكال الثيران ،ويمنحون بطاقات عضوية في نادي (( السهام والشفق الأحمر)) حيث يخوضون أشرس المعارك مع ثيران الأساطير .
س:وهل أصبحت مقاتلاً من نمطهم هنا ؟
ج/لا أعتقد ذلك ،كي لا يبقى في ذهني من إسبانيا سوى سهام الديكتاتور الفاشي فرانكو ،وسهام المصارعين القساة ،وهم يخترقوا رقاب تلك الحيوانات بآلات القتل الجنوني.
س:قرأت إعلاناً عنك يشير إلى رغبتك بإعادة إصدار مجلة ((بدلة العمل الزرقاء)) التي سبق وأن كرستها أنت وزوجك ((ماريا تريسا دي ليون )) ضد طغمة فرانكو العسكرية .لمَ إعادة إصدار المجلة هنا ؟
ج/لأن فرانشيسكو فرانكو لم يكف عن اللعب بذيله بعد ،فهو يقوم هنا بتجنيد المرتوقة وبعض الشياطين للانضمام إلى حزبه الجديد في الفردوس .
س:لمَ تضع نفسك بمقام الحاكم بأمر الله. بدلاً من أن تسأل ربكَ عن طفولتك الضائعة؟
ج/فعلتُ ذلك وأشار إلى قرية بويرتو دي سانتا ماريا في الأندلس .
س:متى يصبح حنين المرء بارداً يا رافائيل ؟
ج/في حالة واحدة،حينما يصبح جسد الشاعر زجاجة كوكاكولا .