حوار مع الشاعر الأمريكي عزرا باوند

عزرا باوند
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

على وقع أصوات المارشات العسكرية، كان الرجلُ منتشياً دون كأس.إحساسه الداخلي بتلك النشوة التي تفرزها الغددُ الصامتة في جسده، كان أشبه بمجموعة هائلة من الأسهم النارية التي تملأ فضاء عقلٍ صُممَ وفقاً لآليات الخيال والمغامرة.

أنه الشاعر عزرا باوند(1885-1972).الهارب من أصوله الأمريكية. المتحد مع اللغات الحارّة.المُصحح لنصوص كبار شعراء التاريخ.الهائم غراماً بالفاشية.العاشق الفاشل المبتلى بالجليد وبمتانة البراعة الشعرية المُتظللة بالسياسة وإعلانات الحرب.

رجلٌ يدركُ ما تعنيهِ جملةُ،  أن تعتمر رأسَ الشاعرِ قبعةٌ، وهو ينخرط في مجرى العاصفة؟

وجدناهُ يخرج من أحد المطاعم، حاملاً راديو ترانزستور مُغطى بجريدة قديمة، تشبه جسده النحيل المتدثر بذلك المعطف الصوفي الرمادي، ومتجهاً إلى حديقة الأمطار العذراء في شمال السماء الرابعة.

أوقفناه لطرح الأسئلة.لكنه رفض، معتذراً ومرتبكاً بسبب الوهن وفقدان الوزن.

عندما اشرنا إليه بوجود مصطبة على قارعة الطريقة، وإن بإمكانه التقاط الأنفاس والتريث قبل بدء الحوار،  وافق على مضض.جلسنا بهدوء وسألناه:

■ لا نريدُ أن نسألكَ عن أسباب القلق الذي ينتابك الآن، ولكن هل تعتبرهُ مادةً أو خطاً فاصلاً ما بين ما هو شعري وبين ما هو غير شعري؟

ـــ ليس لكلّ قلق ما يمكن تبريره.إلا ان الأمر مختلف في الشعر، لأن القلق هو الرحم الأول للاضطرابات التي ترافق بنية الشاعر وتكوينه منذ الصغر.أي تلك التي تنقله من الرحم الأول إلى غرف الزمن وأفران الحياة الأخيرة المختلفة بسعراتها الحرارية.

■ ألا تعتقد بأن في هذا إسرافاً، يضع الشاعر بالزاوية الميتة؟

ـــ لا خوف على الشاعر من الإسراف بالاضطرابات النفسية، فهي عادةً ما تجعل منه كتلة انفعالات،  سرعان ما تتحول إلى نصوص يستحيلُ تجنب آثارها الجمالية المُحْزنَة إلى حدّ ما.

■ هل تُشبهها بتلك الأنابيب التي تُزرعُ في جسد الشاعر من أجل تغذيته على سبيل المثال؟

ـــ بالضبط.فالشاعر ليس جسداً وحسب، بل مستودعٌ لأعظم بضائع الكون من أنجم ورياح وخرائب وغيوم وسجون وآلام وحيوانات وأحلام ومشاعر ومسروقات متعددة، عادة ما لا يؤنبُ عليها نفسه،  كونها من المواد المُستَعملة في بناء القصائد.

■ برأي عزرا باوند، أين يحدث بناء الشعر بالضبط.هل داخل المخيّلة وحدها وفقط؟

ـــ لا.ليس إنتاج الشعر يتم في غرف المخيّلة فقط، فالنسبة الأعظم من الشعر يأتي من مواقد الشارع وكهوف القاموس ووشائج العلاقات العاطفية المراهقة.كذلك فهو  منتجٌ يُصنع صناعةً عند الكتبة الشعريين على التوليف والمونتاج ما بين المكتشف الشعري القديم، وبراعة التحايل بالصناعات المحلية القائمة على التناص دون الشعور بذنب ما.

إلا إننا نجد طرازاً آخر من الشعراء بمنشأ خيالي بحت.بل ويرغب هؤلاء الاحتفاظ بالمخيّلة كمصنع شعري غالي القيمة واستفزازي، حتى وإن اضطروا إلى الاستغناء عن بقية الحواسّ الموجودة في أجسادهم.

■ هل يمكن تشبيه المخيلة مع القصائد بماكينة فقس البيض ؟

ـــ المخيّلةُ هي الرحم الشعري الأول، فيما هناك العديد من الأرحام المُزَوّرة، أو تلك التي تنتج نصوصاً خافتة أو متناسخة بلا أثر سيذكر في روزنامة التاريخ الأدبي.

■ كنتَ حسب ما كتبه –حنا عبود- (( تجيد اليونانية واللاتينية والفرنسية والإيطالية والألمانية والإسبانية والبروفنسالية والأنكلو سكسونية بكل تفرعاتها،  إلى جانب المعلومات الموسوعية والدقيقة عن الأدب الإنكليزي وقواعد لغته إلى حد يسمح لنا بالقول إنه كان يجمع في شخصيته ابن المقفع والفراهيدي وسيبويه في اللغة والأدب،  وكان أشبه ببشار بن برد في افتتاحه نهجاً جديداً في الشعر الحديث )).ما تأثير ذلك على حركة الشعر في رأسكَ؟

ـــ كلّ لغة إضافية، هي مفتاح لعالم آخر، يمكنكَ اقتحامه كما دبابة.أو يمكنك التسلل إليه مثل نملة في مقتبل العمر.اجتماع اللغات في مجرى واحد، ربما يشكل نوعاً من التجاذب الجميل ما بين لغة وأخرى، وهو في نهاية المطاف،  امتحانٌ لكلّ لغة من تلك اللغات للصمود أمام اللغة الأخرى.هذا بالإضافة إلى العدوى الفنية والجمالية التي تحدث ما بين اللغات المتصارعة في الرأس.

■ هل برأيك أن تلك العدوى التي تتحدثُ عنها، يقود النصوص إلى الاختصار والتشدد على ضرورة عدم الإسراف بالكلام الشعري؟

ـــ هذا ما أدخلنا الشعر إلى مجاله اللغوي في ((حركة الصوريين )) عندما جعلنا الصورة بمثابة المركز العصبي للتأليف الشعري. فالصورة برأيي “ليست وصفا بصرياً،  وإنما هي مركّبٌ ذهني وعاطفي في لحظة من الزمن،  وإنّها ملموسةٌ وليست مجرّدة”.هي تراكيب قد تبدو عبقرية الصنع.

■ ولكن العبقري حسب اعتقاد – هارولد بلوم- إنسان قويّ أما عصره فضعيف.وقوّته لا تستنزفُ صاحبها، بل أولئك الذين يأتون من بعده !!

ـــ لا يمكن أن يكون الشاعر مطمئناً على نصوصه بغياب الصورة المحمولة بقلق الزمن وعاطفة الريح، تلك التي تستأثر فتح مجرى النيران داخل المجتمعات اللغوية.فالقارئ الضعيف، ليس بسبب قوة العبقري وحدها، إنما لأن ذاكرته ليست بذات الارتباط الوثيق مع المخيّلة.

■ هل نستطيع افتراض ((المخيّلات )) بالنسبة للشعر، أشبه بمزارع تربية الدواجن؟

ـــ لا تكمنُ لذة النص إلا داخل الصورة.أنها بمثابة السرير الذي تفرغ فيه المحركات طاقاتها الكامنة،  ليتخلص الشعرُ من أمراضه، وتالياً ليتمتع بحركته في الفضاءات التي يرسمها لنفسه دون أدنى عناء.

■ أمن أجل ذلك ساقتك قواك إلى تغييّر (شكل الشعر الأميركي كجزء من الحركة الحداثية والتصويرية وما سمِّي بالحركة الدَّواميَّة -عُرفت باسم «جماعة لندن- وضمّت العديد من الفنّانين التشكيليين والأدباء وفيهم مؤسِّسها لويس وندام،  وهي نموذج لم يكن ناضجاً يقترب في رؤيته كثيراً مما يُعرف الآن بـ: الحركة المفاهمية) حسب تعبير البعض؟

ـــ لم أكن وحيداً في ذلك العمل.فقد شاركتني نخبةٌ مدهشةٌ من الشعراء وفي مقدمتهم ويليام ييتس و جيمس جويس،  فورد مادوكس فورد،  ويندهام لويس على تحسين الشروط لإنتاج كتابات شعرية لا تنتمي إلى حركات القطعان في أمريكا وعموم أوروبا.كان طموحنا منصباً على فتح النوافذ نحو المستقبل على الرغم من الأهوال المحيطة بالأرواح بالأقلام وبالمشاريع الفنية التي كانت تتنفس أدخنة الحرب العالمية الأولى.

■ هل كان سفرك إلى إيطاليا مرتبطاً بالمشروع الشعري وحده؟

ـــ لا لم يكن الأمر على تلك الصورة بالضبط.فعلى الرغم من أن الشعر كان بمثابة رغيف على طاولة عسكرية مشتعلة بالنيران، إلا إننا كنا نبحث عن سند سلطوي قويّ، يستطيع أن يجعل من الشعر طاقةً غير معزولة عن حركة الكون.

■ ولكن بعض النقاد من يقول يأن عزرا باوند(( ارتكب أكبر خطيئة في حياته عندما اعتقد أن الدولة الفاشية التي أسسها موسوليني في إيطاليا هي تجسيد لهذه الدولة المدنية التي حلم بها كونفوشيوس )).أليست تلك فكرة مأساوية :الجمع ما بين الكونفوشيوسية والفاشية؟

ـــ لم تكن الأمور بمثل ذلك السوء.فمثلما دمرت الحربُ العالمية الثانية الحدود ما بين الدول، دمرتْ العقول، ولم تعد تنتج أية حكمة إلا من أفران جهنم.بعبارة أعظم، خلقت المدافعُ رموزها، فمنهم من سقط في الهاوية ميتاً، ومنهم من بقي معلقاً في الهواء، وهو يقرض أناشيد النصر الميت.

■ هل كان موسوليني شاعراً؟

ـــ لم يَنقصْ موسوليني الشعر أبداً.كان الرجلُ عازفاً موسيقياً وكاتباً لنوع من الشعر بواسطة أصابع قدميه.ففي الحرب تتحرر الحواس من مفهوم الأخلاقيات، لتنجز إرادة سحق الآخر.وموسوليني واحد من أولئك الذي شدّوا انتباهي إلى قدرة الدمى على قيادة الدبابات، والمضي بها إلى عمق الظلام.

■ كنت محظوظاً. فقد نجوت من حكم الإعدام بعد اتهامك بالخيانة العظمى، عندما ألقي القبض عليك من قبل قوات الحلفاء، وتسليمك لأمريكا.كيف كنت ترى الموت في تلك اللحظات؟

_ لقد فشلت المحكمة بإدانتي.اعتبرتني مجنون حرب. لذلك قضيت 12 عاماً سجيناً في  «مستشفى سانت إليزابيث العقلية». وكانت أهم فترة خصبة في حياتي الأدبية.لقد أنتجت كل الثمار التي كانت في بستان الرأس.

■ ألا تعتقد بأن تهمة معاداة السامية التي لُصقت بكَ، كانت تمهيداً للَجْم جماح خيالك الذي ذهب بك بعيداً في فضح الرموز الرأسمالية وسلطة المال اليهودي في العالم؟

ـــ كنتُ مُعَبراً عن ثلاثة أرباع البشرية حول خصوصية أعمال سكين شايلوك في لحوم بشر الأرض.

■ وهل وجدت لشايلوك أثراً في السموات ؟

ـــ لم أر وجهه بعد، ولكنني وجدت له الكثير من الشركاء هنا ممن يتعاملون بأوراق البنكنوت الأرضي، دون أن أعرف كيف تم تهربها لهم في هذه المناطق؟!!

■ هل كنت صاحب نظرية أدبية تدعى ((الايماجية- Imagism )) أم داعية سياسي يقدم الهّم السياسي على الموضوعات الشعرية؟؟

ـــ أنا مثل قطار مزدحم بحشود من ركّاب بمختلف الهويات والانتماءات والميول.ليس في دماغي غدة تدعوني للصبر على شئ.كلّي مستنفرٌ للتأليف، وكأن ألآلاف المحركات تعمل برأسي في وقت واحد.فأنا هو الواحد الذي يستفرد بنفسه في غرفة،  لا ضوء فيها إلا على ما يدلُ أصابعي على الورق والأقلام في لحظة هطول المطر.

الايماجية التي تحدثتَ عنها أنتَ، بدأت فكرة في مديح شاعرة أمريكية تدعى ((هيلدا دو ليتل)) في مطلع القرن الثامن عشر، وكانت تخص مكانة محترمة لهندسة الجماليات في العمارة الشعرية التي كنا مشغولين بصناعة السلالّم لها لتصعد نحو القمقم.

■بقدر ما كنت شاعراً تجريبياً، بقدر ما كنت من صناع الحرف في الجملة.كيف يمكن للشاعر أن يكون مهندساً، وهو المهووس بالخروج عن الأنظمة والقوالب؟

ـــ الشعر مختبر تجريبي.وحتى الموت، فهو عند الشاعر تجربة تستحق الكتابة.

■ هل يمكن اعتبار الموت تجربةً عند الشاعر؟

ـــ أجل. فمثلما يعثر الموتُ على الشعراء بالصدفة، فعليهم أن يدخلوا الموتَ من باب التجريب، ليؤلفوا حوله النصوص والقصائد.لم يكن الموت بمعزل عن كل نصّ شعري.

■ ألا ترى الموتَ جزءاً من تراب الشاعر؟

ـــ لو لم يكن الموت موجوداً هنا وهناك، ما كان ليوجد شعر مطلقاً.لذا فمن حسن الحظ، أن يتعامل الشاعر مع الموت من الورق وحتى التراب.فالشعر بالمعنى اللغوي الأعمق، إنما هو مقبرة مجازية، لا يستطيع الشاعر التخلي عنها أبداً ً.

■ أمن أجل تلك الفكرة، ساهمت بتصحيح قصيدة ((الأرض اليباب)) لتوماس إليوت؟؟

ـــ ليس تصحيحاً بالمعنى اللغوي، بل أكثر من ذلك، عندما حرثتُ في لحم ت.س.إليوت ليكون مقبرةً لغويةً فائضة القيمة.وذلك ما فعلته مع الشاعر(( ييتس )) وجيل طويل من الشعراء المولودين حديثاً،  ممن كانت مصابيحهم لا تنضحُ بالزيت المكثف أيضاً.

■ ولكنك فشلت بالتأثير على حركة شعراء فرنسا، بخاصة الدادائيين.فما مردّ ذلك برأيك؟

ـــ لأنهم كانوا شعراء بلا أدمغة قابلة للإخضاع أو السيطرة.أنا اختلفت معهم، لأنني كنت أمتلك فتافيت عقل.، فيما هم جماعة تعيش في مدار سماوي آخر.بعيد.ودون ملابس.

■ هل لأن عزرا باوند من الجيل الضائع، كما أطلق البعضُ ذلك عليك؟

ـــ أنا لا أرى ضرورة للإيمان بشاعر يملك خريطة واضحة لهذا الطريق أو ذاك.الشعر في الجوهر، هو أرض مقلّوبة داخل روح الشاعر.وليس لديه من مهمة إلا البحث عن نفسه في التيه المتلاطم ما بين أزرار الكيبورد وما بين جزر الذات المترامية الأطراف المتعددة اللغات المتصاعدة الأصوات.

فالتيه هو الأوبرا التي يحينُ وقت جنون الشاعر بها.

■ بعد اجتماعه بحضرتك ذات يوم،  كتب عنك الناقد هوف كبينير قائلاً: ((  لقد شعرت فجأة بأني في حضرة الحداثة الشعرية والفنية! إنها متجسدة كليا في شخصه تماما كبقية المغامرين الذين يلقون بأنفسهم في متاهات التجريب الخلاق». هل كنت حديثاً إلى درجة الحمى؟

ـــ الكثير منهم يحاول تضخيم الأمور والنفخ بالأوداج. وقد يصل بعضهم إلى ممارسة الكذب، عندما يكتب عن بعض الحوادث أو الأشخاص خارج السياق المنطقي، أو أبعد منه بشوط طويل.

فالحداثة التي كنت أنتمي إليها، لم تكن طوق نجاة للشعر من الغرق في الضحالة أو العدم، بل كانت برأيي لحظة من لحظات الجلوس على حافة جبل أثناء مرور عاصفة.

■ تقصد أن الفكرة الأساسية عندك- على حد تعبير أحدهم-  هي أن العلاقات الكائنة بين الأشياء أهم من هذه الأشياء بالذات ؟

ـــ بالضبط.انظر إلى العلاقة التي تجمع ما بين الأشياء الثلاثة : الشخص الجالس على الحافة والجبل والعاصفة؟ العلاقة بين هذه العناصر هي القنبلة التي ستنتج الحدث العظيم داخل النصّ.

■ ألا يُشكل الاعتماد على علاقة العناصر الشعرية ببعضها، نوعاً من الامتثال المفرط بأمل يمكن أن لا يتحقق على سبيل المثال؟

ـــ كل شاعر هو بمثابة رئيس طُّهاة في طّبخة القصيدة، وصولاً إلى احتراقها ودخول كافة المواد المجال العدمي.فكيميائية الشعر، غالباً ما تميل إلى الحرق من أجل الاضاءات الحاسمة التي تجعل النصّ،  ليس برقية تلغرافية يمكن إرسالها إلى الجمهور، بل يمكن أن يكون النصّ ذاته عبارة عن انفجار لا يخلف سوى اختلاط العناصر بعد إعادة تكوينها من جديد.

■ عندما تذهب إلى الشعر، فما عليك إلا أن تضبط طفولتك.ما رأي الشاعر عزرا باوند بفكرة كهذه؟

ـــ الطفولة تنشأ في الشعر، وتدوم فيه للأبد.إنها ليس بتلك المَلابس التي تفرض على الشاعر القيام بتغيّرها، كلما وجدَ الحاجة لذلك.

أنا أجدُ في الطفولة عاملاً حيوياً لدعم الشعر في زمن الشيخوخة وما قبلها وبعدها كذلك.فالطفولة مذهبٌ شعريّ يعتمد على تراب الجسد بالأساس.وهي الصَكّ – شيك – الذي يدخل مع الشاعر إلى جوف قبرهِ، دون أن يتمكن بالتصرف به.

■ هل كانت لك طفولة متميزة؟

ـــ ليس كثيراً.فكأنما خرجت من رحم أمي، لأسقط في حضن الشاعر (والت وايتمان).

وقت ذاك، كنت مثل ضفدع يصنع نقيقاً شعرياً في مياه ذلك الشاعر الذي وجدت نفسي مفتوناً به.وأنا قلت فيه : ( إن وايتمان بالنسبة لبلادي.. بمنزلة دانتي لإيطاليا.)

■ أنت قلت مرّة: ( كنتُ أحطّم الأشياء لانبثق في انطلاقة عملية التحول التي تجري فيها “أي الأشياء” في حين كنت ألعب بالرمز على مستويين،  وهو ما ساهم جيداً في عزل الدّال عن المدلول،  وفي فصل البادرة الشعرية “الكلمة” عن المسافة المسجلة فيها،  لا ما وراءها في دائرة التأملات النظرية !إذاً ينبغي أن يكون القارئ خاضعاً للنصّ الذي لم يعد يتعلق الأمر بتفسيره،  وهي عملية غالباً ما يكون مشكوكاً بها.فالكرة الأرضية،  ليست أكثر من غلطة سقطت من القمر،  ولهذا،  لا يمكن السيطرة على الكلمات،  ولا يمكن أن يوفق الإنسان بين الصوت والصدى!

ولا يمكن لصوت الحشرجة أن يساوي ذلك النصف الواضح من الأصل!.) فهل أنجزتَ ذلك التحول برأيك؟

ـــ أنا تعلمت أن أكون زائراً لشعري، وليس مقيماً بمنزل من منازله.وعليك أن تدرك أهمية ذلك. فالتحولات، لا تتم بالسكن أو التساكن أو السكون، بقدر ما هي رحيل برحيل.

■ تقصد أن الشاعر نسخة من الذهاب لا الإياب؟

ـــ لا أظن بأن التذمر أو التظلّم يصنع نصّاً يستحق القراءة.لذا فالذهاب بالشعر إلى القراءة، تعني أنك حامل صخرة السيد سيزيف إلى رأس الجبل المعمول من البلاغة والأفعال غير الناقصة في كل الأحوال. أنا لم أستطع أن أكون إلا منافساً شغوفاً لشعري في أثناء الكتابة.

■ ألا تَعد ذلك مرضاً؟

ـــ ولكنه أفضل من تناول القُرْبان المُقدّس في كل الأحوال.فالأمراض الشعرية، وفي مقدمتها العُقْد النفسيّة، ترجمةٌ نادرة لحركة الكلمات ونموها في مجرى الدم، من أجل أن توقظ الجملة العصبية، بحيث تجعلها نافرة ومستنفرة على الدوام.فليس أسوأ من خمول اللغة.

■ هل كنت يائساً يا سيد عزرا؟

وإلا فما طعم كلام مثل كلامك: (لم أكن شاعراً أبداً كي أضع قصائدي في سراويل الفقراء،  فأفضل شيء تركته،  أو سأتركه،  هو دمي،  أيها الأحبة،  لقد مات العالم؟! )

ـــ لقد شربت من جميع المعادن، ووجدت أغلبها فارغاً من الفيتامينات، عدا اليأس الذي دفع بي بشكل مبكر إلى التفكير بالنزوح عن أمريكا.فيتامين الاغتراب عن الوطن الأم، هو الذي منحني القدرة على فكفكة اللغة، والتفتيش عن شوارع للتسكع بين شقوقها.

■ ما نسبة الوثنية في طقوس عزرا باوند؟

ـــ قد يكون التعلق بالوثنيات،  جزءاً من المنطق الحيويّ للشعر.فالأخير، يستفيد من الرعد والبخار والبرق والصراخ، وكذلك من سموم العاشقين أيضاً.الشاعر مثل قارب يُرمى في عرض صحراء، ويكون عليه البحث عن مجرى نهر، لينهض ويتنفس المياه.الوثنية صندوق بريد الأساطير.

■ في أي قسم من جسد عزرا باوند يقع الحب؟

ـــ الحب، ربما هو آخر مسمار دُقّ في جلدي.

■ هذا جواب مرعب.أليس كذلك يا سيد عزرا؟!!

ـــ ليس من هَوْل فيما ذهبت إليه.فأنا لم أنشغل بالحبّ ولم أدخله من جميع الأبواب.اعتبرتهُ أحد أنواع المَزّة أو المُقبّلات على طاولة الزمن.

■ تقصد أنك مررّت به دون أن تجنّ، أو مرّ بكَ دون أن يستفيق الحبُّ أو يشتعلُ؟!!

ـــ لقد تزوجت دورتي  ابنة الروائية أوليفيا شكسبير عام 1909.وربما هذا يكفي.

■ هل فعلت ذلك مقابل تصرف انتهازي خاص بنيل عضوية  ندوة الاثنين التي حققتها لك أم العروس  أوليفيا شكسبير؟

ـــ لا.لم يكن الأمر بذلك السوء.ولا أنا أيضاً.ربما لأنني لم أُخضع الأدب للحبّ وقصصه الدراماتيكية للوصول إلى غاية أو قصد ما.

■ هل غطت الثلوج حبكما على سبيل المثال،  وفقط؟!!

اسمع ما كتبه الناقد -نويل ستوك- في  سيرة حياتك قائلاً: 

(( تتّسم بالجدية والصراحة والصبر،  فهو لا يشير إطلاقاً إلى أي علاقة أنثوية،  يظهر باوند كما لو لم يكن أحسّ -أي باوند- يوماً ما بالرغبة،  وكما لو قصر اهتمامه ونشاطه على القضايا الذهنية،  وهو ما جرى بالفعل.

ويقدم –ستوك- حول هذه النقطة،  ومن دون أن يدري،  ملاحظة تعزّز هذا الافتراض الأولي.

يقول:

استقلّت السيدة شكسبير القطار باتجاه البندقية،  بصحبة باوند،  وفي الطريق استمتعا بملاحظات جيرانها الذين تساءلوا: إذا كان باوند ودورتي شقيقين أو خطيبين. إذ لم يكن يظهر من سلوكهما ما يسمح باكتشاف علاقة غير أخوية !

ـــ ليس ذلك مهما بالنسبة لي.فطقوس الجسد، هي من يقرر صلاحية برامج الحب الجوانية بالضبط. وأنا لم أنظم حياتي وفقاً لبرنامج عاطفي مكثف،  أو يملك سيرة ذاتية مثيرة للاهتمام.

■ ولكنك قفزت الجدار الزوجي في المرة الثانية، لترتبط بعازفة الكمان(( أولغا رودج )) وتنجب لك ماري.هل تعتبر ذلك سهواً؟!!

ـــ بالتأكيد.هو سهو متعمد.فالحب نظرية تقوم على ركيزة الانقلاب الجسدي المعتمد أصلاُ على الاستخدام الفوضوي لمجمل الحواسّ.وهذا ما يجعل التاريخ الغرامي عاصفاً على الدوام، لأنه جسر يربط ما بين الفشل السريري الذريع جداً، وما بين المراهقة التي لا تتوقف حتى في ذروة الشيخوخة.

■أنت قلت في الماضي: “حسناً. لقد كنت مخطئاً. مخطئ بنسبة 90%. لقد فقدت صوابي في الإعصار ))

هل تعتقد بأنكَ مسحتَ أخطاء الحياة القديمة التي سبق وأن اعترفت بها؟!

ـــ أنا لم أرتكب أي من الأخطاء من قبل، ولكنني قلت ذلك تحت تأثير تلك الأدوية التي كنت أبتلعها بالقوة يوم كنت في مستشفى المجانين.جنون العصر، لابد وأن يقابله جنون الكتابة.وما يزال التفوق مرتبطاً بالثاني:جنون الكتابة.

لذلك،  فعندما صرخت بوجه العالم:بأن حياتي ((كانت فشلاً ذريعاً،  لكنه أثمن من كل نجاحات العصر)) فإنما كنت أريد النوم ولو قيلولة، بعد أن رأيت أعصابي، وكأنها تمتلئ بالإسمنت..

■ هل عشت أم مت بالأقساط؟وماذا تريد أن تعمل هنا بين طبقات السموات؟

ـــ أريد أن أرتدي بذلة مضادّة للحرائق، لأكون وزير النار هنا.

■ هل عندك حطب كثير؟

ـــ أنا أملك الأصول الثبوتية لرموز الشعر في التاريخ الأرضي.وعليه، فيمكنني التعامل مع النصوصّ تعامل العرافين مع تجلّياتهم الشيطانية المُريحة للعقل، والمُكَمِلة لجمال اللغة.

■ والحلم الأمريكي، هل بقي مرافقاً لحلم رعاة البقر بتنظيم شؤون أوروبا؟

ــ لم أر نفسي راديكاليكياً في حلم ما، كل النوم الذي مررّتُ به، كان عبارة عن انحراف شبه كامل عن رحم الأرض التي جئنا من ترابها في تلك الساعات الضريرة القاسية المُستولى عليها من قبل جنرالات النصوص، أولئك الذين يحاولون إخراجنا من كتاباتنا، وتركنا كالقوافل التائهة على صفحات صحراء.

■ هل التقيت بشاعرك المفضل والت ويتمان؟

ـــ ليس بعد.فقد قيل لي بانت ما زال يتعثر بالوصول إلى السماء،  جراء كثافة الأعشاب التي كانت تتساقط من جسمه، ويتزحلق بها.

■ كم حوريةً ستكون من نصيبك في هذه المقاطعة الشبيه بالغيمة؟

ـــ لا أردكُ تماماً ما تَعنيهِ كلمة ((حورية)) في سياق هذا السؤال.إلا أنني أفهم من السياق العام بأن حوض السباحة عادة ما لا يكون خالياً من الأسماك.

مقالات من نفس القسم