حسين عبد العليم.. الحياة بين السطور

بهيجة حسين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بهيجة حسين

كطفل يحتضن ملابس العيد  يحمل المخطوط الجديد لرواية أو مجموعة قصص قصيرة،  لوصف مصر التى يعرفها هو ويعشق ناسها. يضم الورق إلى صدره بحنان، ورقة من يخاف على طفل يتنفس أول نسمة هواء فى حياته. فالورق يعيش بين سطوره بشر من لحم ودم، والورق مرسوم عليه خرائط  للشوارع والأماكن وعلى ورق يكتبه حسين عبد العليم رائحة وصوت وقطعة من روح الطفل الذى كتب. وأعرف كم يعشق هؤلاء الذين يسكنون أوراقه ويسكنون عقله وروحه.

لاشيء فى الدنيا يسعده قدر الكتابة فالكتابة عنده تطهر، وصلاة، وحياة. ويكرر جملته مع كل مخطوط لعمل من أعماله: “أنا عايش علشان أكتب، ومش عاوز حاجة من الدنيا غير إني أكتب لسه عندى حاجات كتير قوى عايز أكتبها”.

ويضيء وجهه ببريق رائق وروح مسكونة بالرضا والسلام: “بعد أسبوع حأعدى عليكى تكونى خلصتى قراية ونتكلم” فقد اعتاد ولأكثر من ربع قرن أن يأتى إلىّ فى الجريدة حيث أعمل بمخطوطات أعماله الجديدة، ثم بالعمل بعد الطبع.

ومع فنجان القهوة السادة “الدوبل” وسيجارته التى لم يغيرها منذ أول مرة خاض فيها تجربة التدخين نتحدث عن أبطال أعماله، وكلهم ـ كما يراهم حسين ـ أبطال. أبطال فى صراعهم مع الحياة، أبطال وهم يختطفون لقمة العيش أوحتى وهم يرتكبون الجرائم، وهم يتحايلون ليفرحوا ويفرح معهم. هو يعشق البشر العائشة على صفحاته. وبفرح ودهشة وأحيانا متباهيا أنه أمسك بأسرار الشخصية ومفاتيحها. كأنه يتعرف عليها لأول مرة يفتح الصفحات ويقول وضحكته تجلجل سابقة كلامه: “لا استنى بصى شوفى دى بتقول إيه”، ويقرأ فقرة أو حواراً من العمل الذى بين يديه. يقرأ بعد أن كتب بلغة من يعرفهم من الداخل وبعمق. عرف الأحياء والشوارع وأحيائهم وبيوتهم  الفقيرة، ويدون أحلامهم البسيطة، كأنه يشهد الناس والدنيا على بساطتها.

ويقرأ سطور من حياة كتبها: “يا ختى… والله ساعات باقول فى نفسى احنا شرفا… أشرف شرفا… على الأقل مابنسرقش حد… ولا بنجبر حد على حاجة… الزبون بييجى لحد عندنا… ويدفع بمزاجه… بس ربنا يبعد عنا ولاد الحرام”.

يقرأ بعد أن كتب بصوت ولغة “فاتن” من رواية “بازل” وبعد أن يقرأ تسبقه ضحكته وهو يقول متحدثا عن “فاتن” التى تمارس الدعارة ونفهم ذلك من سياق الأحداث فهو لم يستخدم هذه الكلمة: “شوفتى كل اللى بتتمناه إن ربنا يبعد عنها ولاد الحرام، وشوفتى الشرف الحقيقى عند الناس البسيطة دى  أنهم مسرقوش حد”، ويواصل مسترسلا فى وصف هؤلاء الذين كتبهم وكم هم بشر طيبون ومقهورون ومع ذلك كم هم راضون و”رائعون”.

وأقول له على سبيل المشاكسة “إيه اللغة اللى أنت كاتبها دى والنبى حد يكتب أم بربور ولا تتشنهف ولا تسدقى مش تصدقى طبعا ده غير كلام تانى كتير خلينى ساكته”، يضحك ويحمر وجهه كطفل ضبطته أمه يكسر قمع السكر ليأخذ منه قطعة ويقول: “دى لغة الناس أنا مجبتش حاجة من عندى، طيب بذمتك مش دى لغة العيال فى الشارع سواء فى بولاق ولا الفيوم ولا السيدة زينب، ودى مش لغة الستات والرجالة فى الأحياء دى وهمه دول اللى أنا بكتب عنهم،  أنا بكتب لغة الحياة”.

ويكتب حسين عبد العليم لغة الحياة ولا يطلب من الدنيا إلا أن يظل يكتب وفقط، حتى لما أتيحت له فرصة السفر لدولة من دول الخليج للعمل وتحسين أحواله كما حدث مع غيره فى سبعينيات القرن الماضى، إلا أنه لم يستطع البقاء بعيدا عن مصر وعاد رغم احتياجه في ذلك الوقت لهذه الفرصة. عاد وقال ببساطة “لا مقدرتش أكمل أنا مرتبط بالأماكن بتاعتنا وبناسنا وريحة بلدنا، لا مش ممكن أسافر ومش مهم أى فلوس فى الدنيا”.

لقد قرر ببساطة شديدة فهو يتخذ قرارته ومواقفه ببساطه كأنه يتنفس ودون أى استرسال أو تبرير وشرح “مش مهم أى فلوس فى الدنيا” “مش مهم الشهرة ولا الصحف تكتب عنى” “مش مهم أبقى محامى مشهور” كثيرة هى ومتكررة الكلمة التى تعبر بدقة عن موقفه من الحياة “مش مهم” فهو ببساطة “مستغنى” هو لا يسعى ولا يصارع من أجل أى شىء يستلزم الصراع هو لايريد سوى مكتبه فى بولاق وبيت عائلته فى الفيوم هو لا يريد سوى الناس الذين أحبهم والأماكن التى تحمل رائحة وذكريات عمره: “يوميا أعود من عملى عصرا، أنام ساعتين، قبل أن أنام أفكر: أننى فى أجمل مكان فى الدنيا، أروح أتلمس الجدار برقة، أشعر به يبادلنى الحنان والفرح” ـ من رواية “التماع الخاطرة بالسيرة العاطرة”.

ولأنه يعشق الكاتب اليونانى “كازانتزاكس” فقد آمن بشعاره عاش به بصدق وبساطة: “لا أطمع فى شيء… لا أخاف شيئاَ… أنا حر”.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم