عمار علي حسن يفرض مكانه وسط الزحام

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فرج مجاهد عبد الوهاب

-1-

  أن يفرض مبدع ملَكَ كلَّ ما يؤهله لأن يلج ميدان الإبداع في مكان واسع ومزدحم بكل ما يخطر ببالك من المبدعين الأصلاء والدخلاء وأنصاف الكتبة، ويفرض نفسه ويشير إلى حضوره ويؤسس لنفسه مكانة مرموقة وسط هذا الزحام الشديد إنما يفرز حقائق وإشارات ما اجتمعت إلا من أجل تأصيل ذلك التمايز الذي عرف به ذلك المبدع على المستوى الإنساني الحضاري، والثقافي التعددي المعرفي، والمستوى الإبداعي الذي انسابت روائعه في فضاءات السرد العربي رواية وقصة وفي فضاءات الدراسات المنهجية والنقد الأدبي المنحاز دائماً إلى الحق في كل ما كتب ونقد، فكان الأمين والمؤتمن  على رسالة الإبداع الذي عرف طريقه إليه فاندمجا في وحدة التسابق في إنجاز منتج إبداعي لا يخلو من إمتاع ومؤانسة وتطوير وتأصيل وإضافات جديدة ترفد المكتبة العربية كما ترفد الإبداع بكل ما يدعمه ويطوّره. 

 لو اجتمعت الصفات السابقة في مبدع معاصر أخلص لإبداعه كما أخلص لرّبه ووطنه لن يكون غير المبدع الدكتور “عمار علي حسن” الذي اختار الإبداع توأماً لحياته فتفرغ له ومنحة عمره ووقته وجهده وعرقه فأوفى لما أوتمن عليه وقدّم عدداً من المنتجات الإبداعية في الرواية والقصة والدراسة والنقد.

 وإن كنت خصصت دراستي في هذا الكتاب المتواضع عما أبدعه في مجال السرد فلا يعني إلا أن أمنح نفسى فرصة أكبر لدخول عالمه النقدي لأنه يستحق وقفة تأمل ودراسة لابدَّ لها من العمق والتعمق، وهذا ما سوف أحاول الاجتهاد عليه في كتاب تالٍ بإذن الله.

-2-

 عمار ابن القرية المصرية الطيبة التي ما عرفت المدرسة إلا في مطلع سبعينيات القرن الماضي، دخلها لأول مرة وهو حافي القدمين وعندما طرده المدرس لأن اسمه غير موجود في الجدول عاد إلى البيت باكيًا، وطلب من أبيه أن يعيده إلى المدرسة ولم يستطع العودة حتى توقف حرب 1973، ودخل الفصل وطرده المدرس وعاد إلى الصراخ والنحيب مما اضطر والده لأن يلجأ إلى عضو الاتحاد الاشتراكي وطلب مساعدته فوعده خيراً وتتحقق أمنية الطفل ويدخل المدرسة وبفضل قوة إرادته تغلب على إقالة عثرة لسانه مع حرف الراء كما تغلب على مرض عسر الكتابة ويتابع دراسته ويحصل على الثانوية ويلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية .. القراءة كانت هوايته الأولى ولا تزال بل صارت وظيفة أيضًا، أيام الدراسة الجامعية تحمل جوع الصيام بالنهار والليل على ذل السؤال متعلماً من الصوفية الزهد في الطعام، في حياته الجامعية وفترة خدمته العسكرية وما بعدهما، وربما حتى الآن، “وضعت أيامه الأولى في القرية، بصمات في نفسي وعقلي انطبعت بها شخصيتي، وصارت تلازمني فهما تقدم الزمن”، وعزة الحرية والكرامة، فقد جُبل عليهما وكان يعزو ذلك إلى ما ورثه من أبيه الذي أورثه إضافة إلى ذلك التعفف والكبرياء. 

 أما الخضلة الثالثة التي تمتع بها مبدعنا، فقد كانت الميل إلى مجالسة الكبار، بدرجة لم تجعله يلقى أية صعوبة في مشاركتهم عملاً سياسياً جسوراً فيما بعد.

أما الخصلة الرابعة فقد كانت الصرامة في الحق، بحيث لم يقبل طيلة حياته إعوجاجا ماً.

وعندما قامت ثورة يناير ونجحت في تحقيق أهدافها عاد لدوره القديم مساندًا ونصيرًا ومحرِّضاً على التغيير من خلال دعم التيار المدني، واستمر هذا الدور مع انتخابات الرئاسة لسنة 2012م

ومن أهل قريته تعلم فن الخطابة مما دفع إيمان والده بأهمية التعليم وتشجيعه على مواصلة تعليمه وعن طريق معرفة دلالة اسمه في اللغة عرف أن اللغة كائن حي ينمو ويطوّر، فتخرج الكلمة من سياق إلى سياق لتأخذ معاني جديدة قد تكون مغايرة تماماً، فكلمة الشاطر في العصر المملوكي كان معناها اللصّ، أما في أيامنا تلك فهي الطالب النجيب الأريب.

لعبت الحكايات التي كان يسمعها من والده دوراً مهماً في نمو ذائقته الإبداعية كما شاركت خالته الصغرى بذلك، حيث كانت مولعة بحكي ما تسمعه من حكايات شعبية يتداولها أهل الصعيد كما لعبت خالته الأكبر دوراً آخر يخص اللحن الشجي الذي كانت لا تكف عن ترديده من أغاني من الفولكلور وأخرى حفظتها من المذياع، كانت متوحدة تجلس ساعات واضعة إياه على حجرها الليْن وعيناه على فمها وهي تغرد مما عزز شغفه بالموسيقي التي تشكلها الحروف المتتابعة.

 ثم بدأ يعتمد على نفسه في صيد الحكايات فتابع إذاعة الشعب حيث كان يشدو شاعر الربابة -جابر أبو حسين- بسيرة بنى هلال ورواية الأبنودي، تابع الرواية من أولها إلى آخرها في شهر رمضان وإذا كانت علاقته مع التذوق سامعاً ثم قارئًا قد بدأت في سن مبكرة فإن علاقته بها كاتبًا لها قصة أخرى، فقد كان معروفاً أيام الجامعة بنظم الشعر الذي منحه ضرورة الاهتمام بالبلاغة والجمال والمفارقة وصناعة الدهشة والقدرة على الخيال والتخييل.

 ويظن كثيرون أن كتاباته الأدبية قائمة على انشغاله بالبحث في العلوم الإنسانية عامة، والاجتماع السياسي علي وجه الخصوص لكن العكس هو الصحيح، فأول ما نشر له كان قصة قصيرة احتلت الصفحة الأخيرة من جريدة الشعب وأول رزق كسبه من الكتابة كان عن قَصّةٍ فازت بالمركز الأول في مسابقة جامعة القاهرة 1988م وكانت أول محاولة لنشر مجموعته القصصية الأولى التي ذهب بها إلى سلسلة إشراقات أدبية التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب إلا أنها لم تر النور إلا أن أول كتاب صدر له كان بعنوان “الصوفية والسياسة في مصر عام” 1997م  لينشر بعده مجموعته القصصية الأولى “عرب العطيات” 1998م وبعدها بثلاث سنوات صدرت روايته الأولى “حكاية شمردل” 2001م ولشغفه بالأدب وحبه له جعل موضوع رسالته للدكتوراه  “القيم السياسية في الرواية العربية” مدفوعًا بالرغبة في معرفة الرواية بنصِّها ونقدها أكثر من معرفة السياسة بتصاريفها وأحوالها، ليتوازى بعد ذلك منتجه الإبداعي بين السرد والدراسات والنقد وقضايا الإسلام السياسي، حيث ألقى صوت السياسة الزاعق غباراً كثيفاً على تجربته الأدبية، ويرى في نفسه أنه أديب درس السياسة وكتب فيها وبحث، ومارسها على الأرض، ومن خلال انخراطه في حركات سياسية واجتماعية عدّة على مدار السنوات الفائتة متكئاً على ما قاله “نجيب محفوظ”: “لا يوجد حدث فني، إنما هو حدث سياسي في ثوب فني” أو كلام “توني موريسون”:”السياسة كامنة في كل نصوصنا شئنا أم أبينا”.

 ومبدعنا في رحلته لم يكتب الأدب فحسب، بل كان يسعى دائماً إلى ألا يكتفي بقراءة أعمال الأخرين، وإنما كان يتناولها بالدراسة والنقد وفي كتابه “النص والسلطة والمجتمع” نلمح القيم السياسية في الرواية حيث حاول أن يبحث من خلاله عن قيم الحرية والعدالة والمساواة في الرواية السياسية المعاصرة من خلال نماذج اختارها بعناية وفق معايير محددة، متأثرًا بما ورد من مضامين معمقة في علم الاجتماع والأدب وعلم اجتماع الرواية.

ولأنه كان يعتبر أن الموهبة غير كافية من دون دأب وإصرار وأن الجوائز لا تضع كاتباً فقد آل على نفسه الاجتهاد المتواصل والحرص على التجويد والتجديد، ومع ذلك فقد نال جوائز عديدة في الأدب والعلوم الإنسانية عربية ودولية وغالباً ما كان حريصاً على أن يجلس إلى بعض القراء، يتناقش  معهم حول أي كتاب أو رواية ولذلك كان مقتنعاً إلى أهمية التفات النقاد والباحثين إلى ما نكتب، لأن هذا يسعدنا ويزيد شعوراً بأهمية ما نكتب، ويساعدنا على تفادي المزالق والأخطاء والنقائص.

وفي هذا المجال بالذات تعّلم من قراءة الكتب القديمة، كيف يناضل حتى لا يكون على الهامش ، ووقعت بين يديه أعمال روائية وقصصية رائعة لم يأخذ أصحابها حظهم من الشيوع والذيوع، ولو بالقدر الذي يجعل ما كتبوه متوفراً لقراء أجيال جاءت إلى الدنيا بعد رحيلهم.

وفي كلّ ألوان الكتابة كان وما زال يؤمن أن المثقف الحقيقي هو الذي يمشي أمام السلطان ليقوده ويرشده، وليس خلفه ليبرر له ويحميه ولا حتى إلى جانبه ليقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان، المثقف منحاز إلى الناس، يحمل أشواقهم الدائمة إلى التقدم والحرية والعدل، وهو معارض بطبعه ليس حبًا في المعارضة وإنما لأنه يجب أن يتمسك بالأفضل والأمثل لمجتمعه، وبالتالي تتحول الثقافة إلى قاطرة تسير إلى الإمام.

 هذا جانب مختصر ومضيء في الوقت نفسه، لمبدع انتصر على التوحد وقهر المرض وشق طريقه في التعليم إلى نهايته، مواجهاً الفقر واليأس والغربة ومشارف الموت مرات، وكذلك تجاربه في الأدب والحياة والعمل في الفلاحة والصحافة والبحث العلمي والكفاح من أجل الحرية والإبداع والترقي في العيش حتى احتل المركز المرموق الذي يستحقه عن جدارة في الحراك الإبداعي المؤتلف والمختلف، وصاحب بصمة فنية ستبقي مقرونة به مع كل منتج إبداعي جديد يقدم لقرائه المتعة والفائدة والتجديد والجديد .

-3-

مبدعنا الدكتور عمار علي حسن: عضو اتحاد الكتاب ونقابة الصحفيين ونادي القصة، أعدت حول أعماله الأدبية اثنتا عشرة أطروحة جامعية، وترجمت بعض أعماله إلى لغات عدة، نال عدة جوائز منها:

1-جائزة الدولة للتفوق. 

2-جائزة الشيخ زايد للكتاب.

3- جائزة اتحاد كتاب مصر في الرواية.

4- جائزة الطبيب صالح في الرواية.

5- جائزة جامعة القاهرة في القصة القصيرة. 

أما ما صدر له من كتب فقد توزعت بين الرواية والقصة وأدب الأطفال والدراسات الأدبية والاجتماع السياسي والتراجم فقد جاءت كما يلي: 

أولاً: في الإبداع الروائي: 

1-حكاية شمردل 2001 

2-جدران المدى 2006

3-زهر الخريف 2009

4-شجرة العابد 2012

5-سقوط الصمت 2013

6-السلفي 2014

7-باب رزق 2015

8-جبل الطير 2015

9-بيت السناري 2016

10-خبيئة العارف 2017

ثانياً: في المجموعات القصصية

1-عرب العطيات1998

2-أحلام منسية 2012

3-التي هي أحزن 2013

4-حكايات الحب الأول 2014

5-عطر الليل 2016

ثالثاً: في أدب الأطفال:

1-قصة بعنوان: الأبطال والجائزة.

رابعاً: في الدراسات الأدبية والنقدية

1-النص والسلطة والمجتمع.

2-القيم السياسية في الرواية العربية.

3-بهجة الحكايا: على خطا نجيب محفوظ

4- أقلام وتجارب

 رابعاً: في التراجم: 

1-فرسان العشق الإلهي.

خامساً: في الاجتماع السياسي

1-التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر

2-التغيير الآمن

3-تقريب البعيد

4-القرية والقارة

5-شبه دولة .. القصة الكاملة لداعش

6-ممراث غير آمنة.

7-المجتمع العميق

8-التحديث ومسار البنى الاجتماعية التقليدية. 

9-أصناف أهل الفكر

10-الفريضة الواجبة

11-العلاقات المصرية الخليجية

12-عشت ما جرى: شهادة على ثورة يناير

13- انتحار الإخوان

14-الطريق إلى الثورة

15-أمة في أزمة

16-حناجر وخناجر

17-وزارة العدل: سيرة مؤسسية

18-الأيديولوجيا: المعنى والمبنى

19-العودة إلى المجهول

20-الخيال السياسي

-4-

عشر روايات أبدعها الروائي عمار علي حسن ما بين 2001 و 2017 حصد خلالها جائزة الطبيب صالح عام 2016.

ومن يقرأ هذه الروايات بتسلسلها الزمني لابد أن يكتشف مدى التطور على مستوى كل من البناء الشكلاني لمعمار فن الرواية الذي بدأه من فضاءات التجريب في روايته القصيرة “حكاية شمردل” عام 2001م التي يشير مؤلفها إلى أنه كتبها في وفقة واحدة ويروي من خلالها حكايات متفرقة عن الكادحين الذين مروا بحياته ليؤسس لتجربته الروائية أول معمار فني سردي في الفضاء الروائي الذي أخلص له، وفي عتمة أقل ظهرت رواية جدران المدى التي كتبها في الغربة ومن بعدها “زهر الخريف” إلا أن خروجه من العتمة إلى الضوء المبهر كان مع رواية “شجرة العابد” 2012 الني رأت النور بعد ثورة يناير مما يجعلها النقلة المبدعة من التجريب إلى التأسيس ومن الدوران حول الموضوعات الحياتية والمجتمعية الضيقة إلى الفضاء الأكثر شمولية واتفاقاً على العالم الحياتي والمجتمع، يقول مؤلفها عن زمن كتابتها: “كتبت هذه الرواية في زمن طويل، إذ كنت أهجرها وأعود إليها، فأقرأ ما تركت وأهملت ثم أضيف إليه، وقد كتبت أغلبها في مدينة “دهب” بسيناء لتشكل علامة بارزة على المستوييْن الشكلاني والموضوعي في مسيرة إبداعه الروائية ليقدّم بعدها روايته “سقوط الصمت” 2013م التي أثارت جدلاً كبيراً بين القراء والنقاد فحين بدأ بكتابتها حاول إجلاء الجوانب الإنسانية والجمالية والنفسية والاجتماعية التي أحاطت بثورة 25 يناير حيث كان يسيطر عليه أمران: الخوف من أن يفقد طزاجة حدث شارك هو فيه بقوة ومن ثم يقينه من أن القوى المضادة للثورة ستلفظ أنفاسها وتبدأ في ممارسة لعبة التشوية، ثم تكتب تاريخ ما جرى على هواها فجاءت الرواية لترسم ملامح الحدث فنياً خارج ما يخصه وحده في مراوحة الآني والآتي: ثم جاءت روايته “جيل الطير”2015م والملاحظ أن روايتي “سقوط الصمت” و”جبل الطير”  كانتا قائمتان على السرد الامتدادي الذي يتجاوز دور الحكي الذي أطال في رصد الخلفيات وسرد التفاصيل ووصف البيئة وطبائع الناس ونوع الأزياء وشكل الطقوس ومضمونها والأساطير الشعبية المتداولة والرموز الدينية الراسخة وكل التبريرات التي قدمها المؤلف لإطالة زمن السرد ومراوحته بين الحكي والسرد لا يبرر ضيق نفس القارئ الذي من الممكن أن تفقده صبره ويرمي الرواية الطويلة جانباً، مع أن الإطالة صارت موضة! وأصبح التنافس بين الروائيين ليس على الجودة والتقنية والتقانة، بل على من يقدم الرواية الأطول حتى وجدنا روايات تجاوزت صفحاتها الستمائة صفحة.

بيد أن هذا الجدل أخذ بالتراجع مع ظهور روايته “باب رزق” 2015م ومن بعدها “بيت السناري” 2016م اللتين حفلتا بتجربة صوفية وعجائبية بل وغرائبية ، فرواية “باب رزق” بطلها التهميش الاجتماعي، أما “بيت السناري” فكانت عودة إلى التاريخ بطريقة أخرى حيث حاول من خلالها أن يجعل التاريخ خادماً للنص أكثر منه مخدوماً وفي هذا الإطار حقق تمايزاً واضحاً في تغيير أسلوب التعامل مع التاريخ في خدمة النص الروائي.

لقد اشتغل المبدع على رواياته العشر بإحساس الفنان المشارك للأحداث والمتفاعل مع كل حركة بطل من أبطاله بين مساحتي زمن السرد وزمن الحكاية في نقلات فنية بين المشهدية والتصويرية والتعبيرية والواقعية المجتمعية والسياسية في إطار تناول على الرغم من إطالته لم يفقد عنصر الإدهاش والمفارقة وجمالية التناوب بين الضمائر الساردة التي شكلت أصواتاً معزولة بشكل فني وتقني أشار في المحصلة الأخيرة إلى روائي ذكي صاحب خيال مجنح وقدرة حرفية قادرة على رسم مخطط هندسي بارع لبناء رواية تملك كل المؤهلات لأن تكون صاحبة صدى وطيف يدفعانها إلى السيرورة الجيلية والانتقال إلى الحراك الروائي مشفوعة ببصمة مبدع لا ينسج خيوط روايته من فراغ وإنما لتصور وتعبر وتعالج وتقدم الإضافة المطلوبة لنجاح سرد روائي كبير بمضمونه عظيم بأهدافه ، ضامن لكل العناصر الفنية والتقنية واللغوية التي تضمن للنص الروائي نجاحه ولمبدعه تفوقه وتمايزه.

لما كانت القصة القصيرة قائمة على حدث ومسار ضيق وبطل ولغة ومساحة زمنية ضيقة ومساحة سردية قليلة الصفحات، فإن كل من ينظر بعين الناقد الحصيف لمجموعات مبدعنا الست التي كتبها ما بين 1998 و2019 ، يلاحظ أن الكتابة القصصية سبقت الرواية وأنه في مجموعته القصصية الأولى “عرب العطيات” 1998 التي شكلت أول ملامح مبدعها القصصية التي تعثر موضوع نشرها في البداية ، كانت المجموعة تضم كل القصص التي كتبها في مرحلة بعد التنكير لمجموعته الأولى التي لم تر النور ، حيث عمل على قصص هذه المجموعة بوعي أكثر نضجاً والدليل على ذلك أن من بين قصص المجموعة ثلاث قصص فازت بجوائز تعد مهمة لشاب في أول الطريق، أما أجواء القصص فإنها لم تكن بعيدة عما كان الفلاحون يكابدونه في القرية خلال الليالي المظلمة حيث كانوا عرضة لمهاجمه لصوص البهائم والقوت.

ويصمت الهاجس القصصي في أعماقه حتى يستيقظ عام 2012 مع مجموعته القصصية الثانية “أحلام منسبة” ليحقق من خلالها قفزة في اتجاه السرد المتقن بعد أن تجاوز خطابية المجموعة الأولى وتخطى مراحل التجريب ليقدّم قصصاً ناضجة تعبر أكثر عما تحكي ، وتجسد أكثر مما تصور ، تعلن وبقوة عن قامة قصصية جادة تقتحم الحراك القصصي بقوة وثبات أكدتها مجموعته الثالثة “التي هي أحزان” عام 2013 حيث بدأت البراعة السردية في التناول وفعل الكتابة يكشف عن قدرات جديدة تعرف كيف تعمل على صياغة قصة ناضجة في زمن يحاول فيه الدخيل ليبعد الأصيل عن الحراك الذي ينشد التأصيل لفن قصصي واعٍ ومتميز، لعل ما دعم هذا الرأي وعزّزه فناً وتقانة ، ما حوته قصص مجموعته الرابعة “حكاية الحب الأول” 2015 الذي نقل القص إلى رحاب وجداني فياض باللغة الشعرية العذبة والتداخل بشكل ملفت مع العلاقة التبادلية القائمة بين الرجل والمرأة داخل العلاقات الأسرية والوجدانية لتأتي بعدها النقلة الأكثر جرأة وقوة وهي انتقاله من القصة القصيرة ذات الأجواء السردية المتعادلة مع حركة الشخصيات وإيقاع الأحداث إلى فضاء القصة القصيرة جداً من خلال مجموعته القصصية “عطر الليل” 2016م.

وإذا كانت القصة القصيرة قائمة على المفارقة والومض والإدهاش والاقتصاد اللغوي واختزال المشهد القصصي في جملة، فإن قارئ قصص هذه المجموعة الهائمة في فضاءات الـ ق.ق.ج- يدرك أن مصطلح هذا اللون الوافد ينقل إلى فضاءات القص المختزل لم يكن بعيداً عن فهم وتناول مبدعنا الذي حرص على أن تكون قصصه خارجة من معطف المصطلح دون مغالاة أو تساهل، فقرأت فيها قصصاً لا تبتعد عن الومض الخاطف للعين ولا تنأى عن شرعنة المفارقة التي تعتبر من أهم شروط هذا الفن وعناصره ، ولا تتجاوز الخواتيم الإدهاشية التي هي جزء لا يتجزأ من ثقافة الـ ق.ق.ج ، التي قدّم لها إضافات جادة ومفيدة لكل من يكتب هذا الفن القصصي الصعب لاحتياجه إلى مقومات خاصة به.

لقد أبدع عمار علي حسن في فضاءاته الروائية والقصصية لسبب بسيط جداً هو أنه حين يكتب يغوص في نفسه ليصنع بهجته العابرة وسط حزنه المقيم سواء بالتأمل أو الموسيقى أو مشاكلة الحياة.. حيث أن لحظة الكتابة حين تأتيه تأخذه من كل شئ ، ومن بعض نفسه إذ يتحوّل إلى شخص آخر يندمج مع العالم الذي يصوره على الورق حياة تتحرك وشخصيات تنطق وأبطال تدافع عن الحرية والعدل والمساواة فيحل بهم ومعهم ويصير واحداً منهم ، يحاورهم ويعيش مع أحلامهم المؤجلة يحس بما يتألمون به ويساعدهم على أن يعبروا عن أنفسهم ليعبروا الواقع المؤلم إلى واقع أكثر رحابة وحباً .. ثم أليس في هذا يكمن سرّ الإبداع العظيم؟

من كل ما سبق، وإن لم تكن الإحاطة كاملة وشاملة ، إلا أننا نستطيع القول: إن تجربة المبدع  “عمار علي حسن”  لم تكن مجرد عبور عن الفعل الكتابي إلى فضاء السرد الروائي والقصصي إنما هو تفعيل لفعل إبداعي وفاعلية إثرائية متكاملة فعل الكتابة الحرفية الواعية التي تسعى بشكل دائم إلى التجديد وتقديم كل ما هو جديد ومفيد ونافع على مستوى الشكل والمضمون، في إحالات واضحة إلى الوعي الفني الذي يمتلكه والإحساس عالي الوتيرة الذي يعيشه، والحدْس التقني الحاذق الذي يميل إليه، والذوق الدقيق في اختيار اللغة غير الحيادية المشبعة بالإيحاء الدلالي المركز.

وفاعلية إثرائية تثري الفعل وتخصصه للبناء السردي من الوجهة الرئيوية التي تجتاز كل ما هو محدود أو محدد إلى فضاء التجلي الذي يكشف نبوءاته التي آمن بها بالعدل والحرية والمساواة، في إحاطة كاملة إلى ما انتهى عنده الآخرون، فلا يكرر ما قيل، ولا يأخذ ما أتفق عليه من معلومات وحقائق سبقوه إليها، إنما يقف وقفة المفكر مستلهماً ما يمكن – هو – بقدراته وثقافته ومرجعياته أن يطيقه، حتى يواصل الفكر رحلته في وضع الأسس المبدئية حتى يعلو المنتج وتتميز غريزة اكتشاف ما لا يعرفه ، وتجلية ما غمض عنه، ومتابعة ما تداركه، وكل ذلك من أجل الوصول إلى الأفضل والأجمل وعلى كافة المستويات التناولية والإبداعية وتطويرها والأخذ بيدها حتى تتخطى المحلية إلى الإقليمية ومن ثم إلى العالمية.

هو مجرد جهد بسيط بذلته من خلال ما قدّمه كاتبنا المثقف من إبداعات سردية، معتمداً على المنهج التكامل لأنه الأفضل في مساعدة قارئ مثلي، يدفعه حبه وثقته وإيمانه إلى الغوص في مجاهل هذا المبدع العبقري الذي استطاع بقوة إرادته وتعميمه وثقافته أن يحفر لنفسه مكاناً إبداعيًا خاصاً به وسط الزحام الذي اختلط فيه الأصيل بالدخيل والمبدع الأصيل بالنصف مبدع غير المتهيأ فكراً وعلماً وثقافة، فإن حققت شيئاً ما فذلك بعون الله صاحب الفضل الأكبر وبما فتحه أمامي إبداع “عمار علي حسن” فطفت به ومعه في حالة إبداعية نشوى ربما ودون قصد مني وجدتني أقصر في جانب، وأضعف في جانب أخر فاللوم عندئذ يقع علي وحدي ، فالتداخل مع مبدع بقيمة “عمار على حسن” وقامته محفوف بالمخاطر حتى وإن كان العمل قائماً على مناهج أكاديمية مدرسية واضحة المعالم والوصول إلى الكمال المطلق في مثل هذه المجالات أمر صعب ومتعذر، لأن الكمال المطلق لله وحده، وما أنا سوى بشر يُخطئ ويصيب، ولكن المهم هو المحاولة ..

 وقد حاولت وأخلصت واجتهدت مع إبداعه حتى نهاية 2019، وكان هذا المنتج المتواضع أضعه بين قراء العربية وكلي أمل أن يلقى استحساناً ما، كما قال تعالى في محكم آياته:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} التوبة 105

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم