لكن، وعلى جانب آخر، أعتقد أن عدداً من قصص ماركيز لعبت دوراً أبعد من استثمارها روائياً أو تجريب عدد من شخوصها وأمكنتها وأحداثها فيها قبل توسيعها. أقصد القصة الماركيزية باعتبارها تمثيلاً لعدد من االقوانين الجوهرية التي يمكن، بتتبعها، العثور على مشتركات عميقة تخص البنية العميقة، الأكثر تجريداً، قبل أن تكتسي بالغطاء التجسيدي الذي يمنح «الرواية» ألقها وقدرتها على «الإيهام بالواقع». إنه «النحو» السردي الذي ينظم عدداً من أبرز روايات ماركيز، ويمكن الوقوف عليه وهو يعلن عن نفسه، بشكل أكثر وضوحاً في القصة، كون غابة التجسيد فيها، إن صح التعبير، تكون أشد خفوتاً لصالح الخطوط المجردة الواضحة والأكثر عرياً، وبحيث يمكن الوقوف على عدد من السمات العميقة التي حكمت طبيعة البنى الدرامية والحبكات وشكل العالم وتكوينه، وطرق تحريك الشخصيات الروائية كوظائف أو أدوار أو كتمثيلات للأفكار وإدارتها روائياً، بالاشتباك مع المكان الفني وشروطه بخاصة.
ومن بين قصص عديدة لماركيز، دالة في هذا الاتجاه، مثلت «رجل عجوز بجناحين كبيرين»، بالنسبة لي، «نموذجاً» يتعدى قوامه كقصة (بديعة في ظني) ليعمل كنص كاشف، يلخص عدداً من العناصر الأصيلة في العالم الماركيزي الروائي.
تنفتح القصة (التي اعتمدتُ في قراءتها ترجمة سهيل نجم) على أسرة فقيرة، يرسمها مثلث: الزوج «بيلايو»، الزوجة «أليسندا»، وطفلة رضيعة تعاني من الحُمى، مهددة بفقدان حياتها.
هذا المثلث، المهدد بفقدان ضلعه الثالث، يستقبل، لحظة ذروة الأزمة بالذات، ضلعاً جديداً (على مستوى التأويل الرمزي)، قد يضاف للأضلاع الثلاثة، أو يقلصها لاثنين، كونه أقرب لملاك قد يكون ملاك الموت. الطارئ هنا رجل عجوز ساقط من السماء بجناحين ضخمين. يأتي الضيف السماوي كنقيض كامل للطفلة الأرضية: إنه عجوز للغاية في مقابل سنها الصغيرة، ساقط من السماء لحظة اقترابها من الصعود لها كروح، معمر أمام حداثة عهدها بالحياة.
في الحقيقة، اتكأ ماركيز كثيراً كروائي على فكرة «المثلث» الذي يتوتر ضلعه الثالث مشبعاً بدلالات الغياب والموت.. ليشتغل على الثالوث الذي يواجه طارئاً يتسبب في تحوله لثنائية، أو لتكثيره.
(2)
في واحدة من روايات ماركيز المبكرة، وهي «لا أحد يكتب للكولونيل»، ينفتح العالم الروائي على الزوج «الكولونيل المغدور» والزوجة والابن الميت الذي يستعاض عن غيابه رمزياً بحضور ديك المصارعة. إنه مثلث أسري أيضاً، فقد ضلعه الثالث الذي يمثل، مثلما تمثل الرضيعة المهددة بالموت، فكرة الامتداد المبتسر. ويكون البحث عن مخلِّص، معجزة، هو الموضوع السردي الذي يكرس له النص سياقه المقبل. في القصة يأتي المخلص من السماء، بينما ينتظر الكولونيل في الرواية قدومه من البحر، ممثلاً في الرسالة التي ستعيد إليه اعتباره وستحل جميع مشاكله بعد أن أصبح وزوجته، كبطلي قصتنا، من الفقراء. هدية السماء ستأتي بالثراء قبل أن تختفي، بينما ستتبخرهدية البحر إلى سراب (لاحقاً سأتطرق إلى طبيعة دوري السماء والبحر في رؤية ماركيز للوجود).
العنصر الطارئ الذي يقلب شروط الحياة المستقرة ظاهرياً لتنطلق الحكاية المراد سردها من تدخله، متحولةً من حكاية عادية لأخرى استثنائية أو لا تُصدق: إنه دائماً ما يطرأ بـ«صدفة» غير متوقعة ليصير محركاً لحتمية ما بعده.
وإذا كانت رواية قصيرة كـ«الكولونيل» توقفت عند هذا المثلث ممسكةً عبره بأطراف المأزق الوجودي لأبطاله، فإن «مائة عام من العزلة»، أرست قواعدها عليه أيضاً منطلقةً من الأسرة الصغيرة التي تتحول بالتدريج إلى سلالة، فبمجيء الابن الأول، يرفض مؤسس سلالة بوين ديا مغادرة ماكوندو. ورغم مجادلة أورسولا بأن الأرض تصبح وطناً بوجود ميت تحت ثراها، إلا أنه يرد بأن وجود الابن أدعى للبقاء.. ليتحول المثلث إلى أجيال متعاقبة تتناسل مكرسةً للعنات متعاقبة. وهنا يحضر الغجر كتمثيل للحضور الطارئ، وهو دائماً حضور مفارق يصعب تصديقه، لتبدأ الرواية، عبر ملكيادس، الطارئ المؤثر، صاحب المخترعات السحرية، تكريسها لعالم يفارق الفكرة الاعتيادية لحلول أسرة في أرض شبه مهجورة.
كذلك يحضر المثلث نفسه في «الحب في زمن الكوليرا» بتركيبة مختلفة، فنحن هنا أمام المثلث الدرامي الشهير: الزوج والزوجة والعشيق القديم. بموت الزوج «أوربينو» يجد الطارئ «فلورنتينو إريثا» مكانه في الواجهة الروائية.. ليتحول العالم الروائي إلى علاقة ثنائية يصفو لها السياق. إن موت الزوج في «الكوليرا» يأتي، أيضاً، كمفاجأة عبثية، رغم الإمكانات المتاحة لماركيز في إماتته بشكل طبيعي خاصة أنه شخص ثمانيني، فضلاً عن حل أسهل، كان يُمكِّنه إن ركن إليه، أن يبدأ الرواية نفسها عقب موت الزوج.
وبدورها تجسد «سرد أحداث موت معلن» سرديتها من المثلث المتوتر: سانتياجو نصار، الأم بلاسيدا لينيرو، والأخوان فيكاريو. حيث يطرأ نبأ عبثي أيضاً، تسببت الصدفة وحدها في منحه مرارة الحقيقة، ويسرده ماركيز ببراعة عندما تراجع الأخت المتهمة في جريمة شرف قائمة بالأسماء التي تعرفها، لتنطق، في لحظة، وبشكل عشوائي، اسم «نصار» محولةً إياه في لحظة لضحية.
(3)
بدوره، يواجه مثلث الشخصيات مثلثاً آخر تبسطه الأبعاد المكانية التي يتوفر عليها عالم ماركيز السردي بوضوح: الأرض (سواء كانت بلدة غير مسماة على الإطلاق، كما في هذه القصة، أو بلدة مخترعة كماكوندو، أو مدينة قائمة في الواقع ككارتاخينا أو غيرها)، الماء (سواء تجسد كبحر أو نهر أو حتى كمستنقع)، والسماء. هذه العناصر الثلاثة كانت دائماً شغفاً لدى ماركيز، حد أنها لعبت أدواراً محورية في حبكاته الروائية.. فاليابسة، في الحقيقة، لم تكن أبداً البطل الوحيد مكانياً في أعمال ماركيز.
في هذه القصة تتجسد الأمكنة الثلاثة مجلوة، في طبيعة أدوارها التي تلعبها عادةً في العالم الماركيزي.
الأرض في القصة مجردة، بلدة صغيرة بلا اسم (وإن بدت متسقة للغاية مع صورة ماكوندو الروائية) لكنها تلخص أيضاً الشخوص الرئيسية التي طالما اتكأ عليها ماركيز في رسم عالمه: الهامشيون الفقراء الذين يستأثرون بالمعجزات (في العالم السردي لماركيز لا تأتي الهدايا للأثرياء أو رجال السلطة). هناك أيضاً «الأب» رجل الدين (وهو هنا أيضاً غير مسمى، في تعميق للمنحى الذي يجرده في دوره أو وظيفته)، إنه السلطة الكنسية التي يندر أن تختفي في أعمال ماركيز.. وهو الوسيط بين الأرض والسماء، لذا، توكل إليه مهمة تفسير الحدث الغامض والتعرف على هوية «الملاك»، حتى أنه يتحدث إليه باللاتينية. ومن جديد، سيخفق «الأب» في التعامل مع الكائن القادم من عالمه (عالم الميتافيزيقا) تاركاً أمر السماء لأهل الأرض.
السماء (كمكان تسقط منه المعجزات لتكتسب طابعاً أرضياً، أو ترتد إليه الشخصيات لتكتسب بعداً سماوياً يتحد بالخفي والمقدس)، تتجسد بحضورٍ طاغ وفاعل.. وبالتالي اكتسبت السماء عند ماركيز دوراً حقيقياً.. برز في عديد أعماله مثلما يبرز هنا. الملاك يسقط في بيت أسرة فقيرة بدلاً من الهبوط في أحد بيوت السلطة، ويحتسي طعامها في حين يفشل في العثور على لغة تجمعه برجل الدين. لقد تواصل مع الفقيرين في القصة عبر الغريزة «الجوع» فيما أخفق في التواصل مع السلطة عبر «الثقافة» ممثلةً في اللغة.
ورغم أن السماء مملوكة «رمزيا» للسلطتين اللاهوتية والسياسية، (حيث تحضر السلطة السياسية في النص الماركيزي باعتبارها سلطة إلهية، في سياقات لم تفصل بعد بالكامل بين السلطتين) إلا أنها في عالم ماركيز تتعاطف مع «الرعية». السماء مقابل الأرض، ثنائية دأب ماركيز على تقويضها، بحيث يصبح كل منهما وجهاً للآخر، وبحيث تصير السماء، في الأخير، مكاناً للبشر الهامشيين وليس لملاكها «الرسميين» أو المتحدثين باسمها.. حتى أنه في «مائة عام من العزلة» تتخلص ريميديوس ببساطة من الأرض بالتحليق. إنها أيديولوجيا يجري التعبير عنها بدمج الواقع بالخيال في سردية ماركيز، بحيث لا تتحول في النهاية لرمزيةٍ فجة.
هناك أيضاً الماء (يرسمه ماركيز على الأغلب مكاناً لحلول الغرباء). الماء (سواء كان بحراً أو نهراً) هو أيضاً، حسب سردية ماركيز، المكان الذي تعبره الرسائل من وإلى القاطنين على ضفافه. تتأكد دلالة الماء المحبطة على الدوام في العالم الماركيزي بالرسائل التي لا تصل، أو التي لا تحمل، إن وصلت، أخباراً مبهجة. الرسائل عند ماركيز تحمل دائماً أنباء الفقد والخسارة والضياع والحرب التي على وشك الاندلاع. (الغريق مثلاً، في أجمل رجل غريق في العالم يصل إلى البلدة فاقداً الروح، بينما يسقط العجوز في قصتنا هذه على قيد الحياة). في هذه القصة، يبدأ المشهد الأول من البحر، باعتباره سبباً رئيسياً في إصابة الرضيعة بالحمى: «بعد اليوم الثالث للمطر كانوا قد قتلوا الكثير جداً من السرطانات داخل البيت مما اضطر بيلايو أن يعبر باحته الموحلة ليرميها في البحر، ذلك لأن الوليدة الجديدة قد أصيبت بالحمى طوال الليل واعتقدوا أن ذلك بسبب الرائحة النتنة.
كان العالم حزيناً منذ الثلاثاء. صار البحر والسماء قطعة واحدة من الرماد ورمال الشاطئ التي تلمع في ليالي آذار مثل ضوء مطحون، وقد أمست مزيجاً من الطين والمحار». إن تحول البحر والسماء «لقطعة واحدة» هو نذير شؤم، كونه يجرد السماء من سياقها في الوعي الجمعي «الذي يتبناه ماركيز»، مثلما يتبني فكرة الوعي الجمعي عن البحر كمرادف للاغتراب والخسارة.