حاميد اليوسفي
يؤدي عبد السلام صلاة الصبح في المسجد كل يوم. عندما يخرج من البيت في ظلام الفجر يدعو الله ألا يعترض سبيله أحد اللصوص، ويرميه بقطعة حجر، أو يضربه من الخلف بعصا على رأسه، فيتسبب له في عاهة مستديمة. يمشي بحذر، ويلتفت يمينا ويسارا تحسبا لأي طارئ.
منذ كان طفلا وهو يسمع الناس تقول بأن الاستيقاظ باكرا يُشترى بالذهب، ويرتفع السعر أضعافا إذا رافقته صلاة الصبح. بعد الصلاة لا يحب العودة إلى البيت. يُفضل الذهاب مباشرة إلى الدكان. يُردد مثل والده نفس اللازمة، وهو يُدير المفتاح في القفل:
ـ باسم الله يا فتاح.. يا رزّاق.. يا وهّاب..
الناس تقول (يا فتاح يا رزّاق)، أما هو فقد أضاف إليها عبارة (يا وهاب) لأن أحد الفقهاء أسرّ له بأن الهبة أحسن من الرزق، وأسهل منه.. لكنه فضّل الحفاظ على عبارة يا رزّاق خوفا من اتهامه بالكسل، وبأنه يسعى للحصول على الخبز باردا من غير مجهود. عليه أن يضع يده في النار ليعيش.
أشعل الفرن، وغلَّى الماء، وعمل إبريق شاي. تناول كأسا مع كسرة خبز أتى بها من البيت. لا يستطيع اقتناء طعام الفطور، فقد أصبح مُكلفا، وفوق الطاقة، ويُؤثر على ميزانية البيت.
هذه الصنعة التي ورثها عن والده بدأ مدخولها يجف منذ زمن بعيد. لكنه لم يتعلم غيرها. عندما فشل في المدرسة ألحقه والده بالدكان. الناس كانت تقول في ذلك الوقت (صنعة بوك لا يغلبوك)*.
في نهاية الستينات كان والده يبيع عشرات الوحدات من الغرابيل في اليوم، والحياة تسير معه بيسر. ورغم ذلك كان يتطلع إلى أن تجود عليه المعارضة بعشرة دراهم في اليوم، نصيبه من الفوسفاط والسمك كما أسرّ له أحد الطلبة عندما فاتحه في موضوع السياسة التي سينهجها بنبركة ومن معه إذا استولوا على السلطة. اغتالوا بنبركة وتحول الوعد إلى وهم، لم يتحقق منه شيئا. ها هم اليوم يأخذون منه أكثر من ذلك..
بعد قليل سيأتي ابنه سعد حاملا معه القفة. وعليه أن يقتني له القليل من الخضر.. لو كانت ميسورة معه لترك لزوجته تدبير مصروف البيت. لقد فعل ذلك في البداية، فخشي أن تغرق السفينة. الكثير من النساء أيديهن مثقوبة. لو تركتَ لهن مال قارون لصرفنه كله.
قال لنفسه وهو يسأل عن ثمن الخضر:
ـ لا. ليس معقولا. الأسعار تحرق وتسرق، وجيوبنا مثقوبة أصلا.
عندما عاد إلى الدكان اضطرب عقله وسأل نفسه:
ـ يا عبد السلام! ليس معقولا أن تعيش حياة أقل من الكلب، وتقول الحمد لله! وهل يحب الله أن تحمده، وأنت تعيش خنوعا ذليلا؟! لا أظن أن الله يرضى بذلك.
لو استطعت أنت وأمثالك من الفقراء أن تحصلوا على حقكم من السمك والفوسفاط لرضي الله عنكم، وأدخلكم الجنة حتى قبل أن تنتقلوا إلى العالم الآخر.
تخيل أن الدولة مدينة لكم بعشرة دراهم للواحد في اليوم منذ الاستقلال إلى الآن. لو استطعت أنت وأمثالك من الفقراء الحصول على كل هذه المستحقات بأثر رجعي لأصبح اليوم كل سكان البلد من الأثرياء..
الهامش:ـ (صنعة بوك لا يغلبوك): مثل شعبي قديم يُحيل على أن نجاح الابن في الحياة رهين بتعلم حرفة والده. وهكذا ظلت الحرف والمناصب تتوارث أبا عن جد.
مراكش 20 فبراير 2025