امرأة تحمل رائحة البيّاضة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد اللطيف الحسينى

 كنتَ تعرفُُها, إنها هي التي سقتك ماءً مثلجاً حين طرقتَ بابها قبلَ عقدين في مدينة حمص وكنتَ تنزفُ عرقاً تموزيّاً, بل دعتك إلى بيتها حين عرفتك غريباً: (غريب الوجه واليد واللسان), وها هي المرأةُ نفسُها تطرق بابكَ وابنُها خلفها يجرجرُ انكسارات مدينة حمص كلها, هي امرأة المعنى وصورةُ الانتهاك والفقر و المجاعة ولوعة الغياب: غياب الزوج والأخ والأب والجار.ماذا ستقدّم لها وهي التي سقتك زمزماً فيّاضاً وكنتَ بحاجة إلى قطرة ماء (ولو

مسمومة)؟

 

لم تسألْها عن مدينتها, وماذا تفعل هنا في هذا الشمال الشرقيّ البائس والمطعون؟ ولم تسألها عمّا وعمّنْ أتى بها إلى شمالنا الآمن والمغيّب؟

تعرفُ تفاصيل تلك المرأة مجازاً وحاضراً وسابقاً, وتعرفُ (فتحة حمص) حين تهبُّ صيفاً وشتاءً ومشاوير الفتيات والنسوة المرحات في شوارع مشجّرة وحدائق غنّاء, هذا ما تعرفُه عن هذه المرأة التي تحمل رائحة مدينتها, وكان يجب أنْ تكون في نفس الشارع والشجر والحديقة في هذا الوقت بالذات.

لكنْ مَنْ سيعيدُها إلى مهبط روحها؟ ومَنْ سيعيدُ شهداءها: الزوج والأخ والأب والجار؟.

المرأةُ – السوادُ تطرقُ باباً خشبيّاً منهاراً.. فمحلّاً خاوياً.. فشارعاً مزدحماً بالفراغ …فمدينةً غادرتْها الأرواحُ.

هل تقبلُ امرأةُ السواد منكَ: مرحباً بكِ يا مَنْ دخلتِ ذليلةً, فأقيمي بيننا كريمة المعشر, طيّبة رائحة الشهداء وهي تفورُ من يديك؟

……..

سألتُ الصبيّ الذي يرافقها وهو مهلهلُ الثياب والملامح والروح: من أين أنت؟ أجابني متقطّعاً ومشتاقاً: ح – م – ص – البياضة. لا أملك يا أيّها الصبيّ النقيّ ويا أمَّه إلا أنْ نقول: فيا ويلتاه علينا يا امرأة أتتنا: غريبة الوجه واليد واللسان.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد اللطيف الحسينى

سوريا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم