القضية الفلسطينية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فاروق

هناك سبب آخر خاصٌّ جدًّا يمنعني من الزواج، يجعل الرجال يهربون مني. هذا السبب هو اسمي. اسمي يسبب لي مشاكل إضافية. اسمي ليس "نرمين" يا مصطفى، وقبل أن تتهمني بالجنون تفضل بطاقتي، مدون بها اسمي الحقيقي: اقرأ... نعم. لا تفرك عينيك... هذا هو اسمي الذي تقرأه: القضية الفلسطينية عبد الفتاح شكري، رقم قومي: 2109876- سجل مدني بولاق- تاريخ الإصدار 17-10-2005... هل صدقت الآن؟؟

أنا امرأة عادية تحلم كأي فتاة، بذلك الفارس الوسيم القوي الذي يعبر الصعاب ليخطف قلبها، لكنها كأي فتاة أيضًا، ستقبل أن تتزوج من رجل بدين، أصلع، عابس، تستيقظ في الصباح على رائحة فمه، ويقض مضجعها فساؤه الليلي تحت اللحاف- ويتميز أنه دائمًا ما ينسى سوستة بنطلونه مفتوحة في المناسبات الاجتماعية المهمة.

 

 كل مشكلتي، أني أريد الزواج؟ أريد أن أتخلص من هذا “النزناز”؟ أريد أن أرتاح؟ لماذا أنت مندهش؟ وهل عيب أن تعلن امرأة عن ذلك؟ لا ينقصني شيء لكي أتزوج، أنا جميلة كما ترى، ومتعلمة، وبنت ناس طيبيين، لكن الرجال يهربون مني بمجرد أن يعرفوا اسمي، سامحه الله أبي، قال إنه أسماني بهذا الاسم؛ لأنه يريد أن تكون القضية الفلسطينية حية في الوجدان!. طيب كيف ذاك، وكلنا سنموت يا مصطفى؟؟

أستحلفك بالله يا شيخ، لا تحملني ما لا طاقة لي به، لا تأخذ كلامي أنني أتحدث في السياسة – لا تعتبرني رمزًا للمقاومة، وللكرامة، والوطن السليب، وهذا الكلام الذي يسد النفس، أنا لا أحدثك عن مشكلة اللاجئين، بل عن امرأة لجأت إليك، تطلب العون. أنا لا أريد حصتي من الأنروا، أريد حصتي من الحياة، فهل هذا كثير، هل هذا كثير يا مصطفى؟ عاملني كأني إنسانة من لحم ودم، امرأة تريد أبسط حقوقها: أن تعيش بشكل طبيعي. هل فهمت يا مصطفى؟. أنا أحدثك عن مشكلة إنسانية- عن نفسي – عن القضية الفلسطينية الجالسة أمامك، وليس عن القضية الفلسطينية الحقيقية.

أنا عايزة أفضفضلك كصديق، ربما لا تتذكرني، لكني أعرفك منذ أكثر من عشر سنوات، لكن دعك من ذاك الآن، سأخبرك أين ومتى تقابلنا – فقط اتركني أعبر عن مشاعري، أريد أن أستلقي هنا على الكنبة، وأحكي لك، أريد من يسمعني- من يتعاطف معي، من يعطيني دواءً لحالتي. آه يا مصطفى، أنا امرأة عاشت مشاعر مبتورة، وقصصًا متشابهة غير مكتملة. كانت آخرها، وأقساها قصتي مع عادل.

“لا شيء سيقف في طريق حبنا يا نرمين، هذه الجملة التي نسمعها في الأفلام وتثير سخريتنا، يكون لها وقع مختلف عندما تسمعها المرأة، نظرت إلى عيني عادل، ورأيت لمعة الصدق فيهما، كان قلبه يقول نفس الجملة “لا شيء سيقف في طريق حبنا يا نرمين!”. فجاوبته سينمائيًّا أيضًا حتى أعيش تلك اللحظات الصادقة : “بجد يا عادل؟”..فضغط على يدي: بجد يا نرمين!

عادل يعمل موظفًا في إدارة التسويق في شركة كيماويات. شاب جاد، وطموح، ومتدين، ومن نفس مستواي الاجتماعي. تعرفت عليه عندما كنت أنشئ موقعًا إلكترونيًّا للشركة التي يعمل بها. آه نسيت أن أخبرك: أنا مهندسة برمجيات، أعمل في تصميم المواقع الإلكترونية. كان عادل يرسل إليَّ الإيميلات، يطلب تغيير شيء في التصميم، أو تعديل شيء آخر، ثم نجلس سويًّا نتحدث في كل تفصيلة، بعد شهرين انتهيت من إنشاء الموقع، وانتهى هو من إنشاء صورة له سلبت فؤادي. تقابلنا بعد ذلك كثيرًا، ثرثرنا، ضحكنا، صمتنا، حدثته عن كل شيء إلا عن اسمي، طلب مني أن أحدد له موعدًا مع بابا. فوجئت. لا أعرف لماذا هكذا نحن الفتيات بالرغم من التوقع، والتخطيط، فإننا نُفَاجَأ عندما نسمع هذا الطلب. كان عليَّ حينها أن أخبره بالحقيقة، “لو بيحبني لشخصي، مش هيفرق معاه موضوع الاسم”، أليس كذلك يا مصطفى؟

انتهزت فرصة الحرب على غزة لأفتح الموضوع – موضوع مستقبلي – مستقبل القضية الفلسطينية عبد الفتاح شكري – قلت له ما رأيك فيما يحدث في غزة يا عادل؟ – ولم أكد أكمل السؤال حتى انفجر في نوبة حماسة وطنية، لعن النظام الذي يحاصر غزة، شتم حركة فتح، وكان متحفظًا في تحميل حركة حماس المسؤولية، قال أنهم أنضف من حركة فتح، على الأقل دول متديِّنين- لكنه قال: لكن هذا إلى زوال إن شاء الله، والنصر قادم، وسنهزم إسرائيل، ثم قال: ليس بأيدينا الآن سوى أن ندعوا لهم، في المساء أرسل لي رسالتين الأولى تقول : حبيبي ماشي حافي الأرض بتلسعه يا ريتني كنت شبشب كنت أقدر أنفعه ورسالة الأخرى تقول : أحبتي في الله – أدعوكم إلى صيام يوم الاثنين، وتوحيد الدعاء عند الإفطار لأهلنا في غزة – حتى تنال الثواب، ويتحقق النصر.

لم أكن أعرف أن عادل لديه هذا الشعور النبيل نحو القضية الفلسطينية، أو لديه أي اهتمام بالشأن العام. لم أعرف أبدًا أنه له آراء سياسية، لم يقل لي من قبل على سبيل المثال: هبة أنا نفسي أحرر القدس، بل قال “فاطمة” أنا نفسي أشتري عربية هيونداي- من بنكCIB. لكن وطنيته الجميلة أذهلتني، لهذا صارحته بكل ثقة بعد أن اكتشفت هذا الجانب من شخصيته، وقلت له: عادل أنا ماسميش “نرمين” أنا اسمي القضية الفلسطينية.

بالطبع بدأ الأمر بنوبة ضحك، ثم ابتسام، ثم أمام ملامحي الجادة تحول إلى وجوم، ولما شاهد بطاقتي الشخصية، تحول الوجوم إلى غضب، والغضب إلى ثورة، لكنه قال ببرود وتلامة، وباقتباس سخيف من فيلم سينمائي لا أذكره: إذا كنت خبيتي عليا اسمك، يا ترى مخبية إيه تاني؟

حاولت أن أشرح له، أن أخبره، أن اسمي كان سيبعده عني، أقسمت أني لم أخف عنه شيئًا آخر، صمت، هجرني فترة، ثم عاد وقال لقد فكرت كثيرًا في موضوعنا، بصراحة إن اسمك سيمنعني من التواصل معك، فلا أتخيل مثلًا أن أقول لك: أحبك أيتها القضية الفلسطينية، أو شفتاك جميلتان أيتها القضية الفلسطينية. ثم أردف أن قناعته تمنعه من الزواج بامرأة تسمى القضية الفلسطينية. قلت له: كيف؟ فقال لي: لا أستطيع أن أتخيل أني، أضاجعك. الحقيقة أنه لم يقل ذلك قال شيئًا آخر، ولكن يمنعني الحياء.

حاولت أن أقنعه أنه لا علاقة لي بالقضية الفلسطينية الحقيقية من قريب أو بعيد، بل هو مجرد تشابه أسماء، فصمم على رأيه. قلت له أن يناديني نرمين، هويدا، فاطمة، مريم، فرفض، شعرت بإهانة بالغة من توسلي له، صرخت فيه: اذهب إلى الجحيم لا أريدك، لن أموت بدونك. ومضى، وبعد أن غادر بكيت… بكيت بكاءً مُرًّا، ولكنه ليس بمرارة الألم الذي تركه في نفسي.

عشت أيامًا كئيبة، تركت العمل، تسكعت في الشوارع التي شهدت حبنا- أتذكر أيامنا الحلوة معًا، هذه التسعة شهور التي مرت كلحظات خاطفة في حياتي، أقرأ الخواطر التي كنت أكتبها فيها- كنت أجهش بالبكاء بصوتٍ عالٍ، ولم أنتبه إلى أنني كنت أجلس في نفس المكان “سيلانترو” جامعة الدول، إلا عندما قال لي النادل: اتفضلي يا أفندم، الموكا والتشيز كيك اللي حضرتك طلبتيهم.

هكذا نسيني، فقدت الأمل، ومن ثم استبدت بي الشهوة. تقضي علي، وأتوهم أني أقضي عليها، فهي لا تنطفئ بالعبث بجسدك، فالخيالات تسبب الضجر بقدر ما تفرز السوائل، تثبط انتفاضة أعضائك، لكنها لا تريح القلب.

لو ولدت في زمن آخر، لبُذل فيَّ أغلى المهور. لهذا استسلمت لكلام أمي، ومررت كغيري على زواج الصالونات، فغشيني منه ما غشى غيري، فلا داعي للتذكير بما هو مكرر، إلا أنه كان أقسى عليَّ، وأشد على نفسي، يتركني الرجال بمجرد أن يعرفوا اسمي، يهربون، ويتذرعون بالنصيب. بكت أمي، حزن أبي، وقال ” مفيش حل لازم تغيري اسمك”. لكني رفضت بشدة، لقد صار الاسم جزءًا مني، لن أتنازل عن اسمي، رغم نصائح صديقتي ياسمين: “القضية مش في الاسم… لابد أن تفكري بشكل براجماتي وعقلاني”، لقد جاوزتِ الثلاثين، وفرصتك تقل في الزواج ” صدقيني اسمك ليس بهذه الأهمية… خالص”.

أرأيت، إن لي من اسمي نصيبًا، يا مصطفى، إلا أن القضية الفلسطينية الحقيقية أوفر حظًّا مني. القضية الفلسطينية ستحل إن عاجلًا أو آجلًا، نحن في آخر الزمان، وسيأتي فارس يخرج من هذه الظلمة، يقود الجيوش وينشر العدل، سيأتي المهدي المنتظر، ويحررها من اليهود، هذه قضية إيمان، ألستَ بمؤمن يا مصطفى؟

أما أنا فمن ينتظرني؟ لا أحد يريد أن يطبع العلاقات معي، أريد التطبيع يا مصطفى، التطبيع لا أكثر ولا أقل، لكن الوقت ليس في مصلحتي. القضية الفلسطينية لن ينقطع عنها الطمث يا مصطفى، لكن أنا سينقطع عني الطمث.

هيا امسك يدي، قبـِّل وجنتي، ضمني، راقصني يا مصطفى… راقص القضية الفلسطينية، أنا معجبة بك جدًّا، تزوجني يا مصطفى- أنا أحبك، أنا لست غريبة، أنت تعرفني. لقد التقينا من قبل كما أخبرتك، ألا تذكر؟ منذ عشرة سنوات. ألا تتذكر اليوم الذي وقعت فيه أمك من أتوبيس 4 بشرطة، ألا تتذكر الفتاة التي حدثتك في التليفون فأتيت  وأنت مضطرب، “بالأمارة” كنت تقود سيارة ريجاتا بيضاء، وحملتها معك إلى مستشفى، هل تذكرتني الآن؟. كنت ألبس بلوزة خضراء، وجيب جينز طويلة، أنا الفتاة الشقراء، أنظر تحت الطرحة، نفس الخصلات الذهبية الطويلة.

نعم… أنا الفتاة التي جمعت حبات الخيار، والطماطم، وكيس المكرونة، والفرخة التي كانت تحملهم أمك قبل أن تسقط من الأتوبيس. أنا التي أمسكت بيد أمك، وأجلستها على كرسي السيارة، أنا التي وضعت الأكياس في شنطة السيارة، ألا تذكر يا مصطفى، شنطة السيارة كانت بها سجادة صلاة قديمة، وشبشب بني، وكانت مفروشة بالجرائد، ألا تذكر مانشيت الجريدة يا مصطفى: فوز الأهلي على مزارع دينا 3 صفر، كان يوجد أيضًا كتاب التشريح للفرقة الثالثة في كلية الطب، ألا تتذكر يا مصطفى، ألا تتذكر كتابك؟… أرأيت الآن أني أعرفك، وأعرف طنط سميرة، عرفتك عندما وجدتك استأجرت هذه العيادة في شارعنا منذ شهور، هيا يا مصطفى، أنا لم آتيك بصفتك طبيب نفسي، أنا أتيتك بصفتك رجل، أحضني يا مصطفى أرجوك، قبِّلني، لا تخف، لا تحدثني بالإنجليزية، أرجوك، لا تقل لي كما قال عادل :-

I cannot fuck you? I cannot fuck the Palestinian issue!

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محمد فاروق

قاص – مصر

النص من مجموعة: “سينما قصر النيل” – دار ميريت – القاهرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اللوحة للفنان: عمر جهان

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال