حارسة الحكايات!

إبراهيم فرغلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

كالعادة، قبلت الأمر بلا تردد أولاً، ثم بدأت التفكير. وكإنسانة متهورة، كثيرا ما كانت التبعات تلاحقني بعد ساعات أو أيام. أبدأها بالصيحة الشهيرة التي أصبحت تلازمني: “أووبس!”، وربما تُختتم بفاصل من البكاء ثم ضحكات هيستيرية في آخر اليوم على تسرعي المبهر في اتخاذ القرارات.

لم أعد أذكر متى بدأت قدراتي الباهرة تلك في التسرع والتهور واتخاذ القرارات العجيبة في سرعة البرق. لكن يبدو أنها كانت وسيلتي في عمر المراهقة لإعلان انتمائي لمعسكر النساء القويات، وربما لإثبات قدرتي على العناد لأمي. وبعد تكرار سلسلة أخطاء فادحة تتعلق باختيار رجال أبعد ما يكون أي منهم مناسباً ليس لأن أعيش معه، بل حتى لأمضي معه ساعة في حوار طبيعي بين رجل وامرأة، أو اختيار بعض الرجال المناسبين في الأوقات الخاطئة، استسلمت وأخرجت اختيار الرجال من دائرة التهور، والنتيجة أنني لم أدخل علاقات من أي نوع خلال العام الأخير كله.

على أية حال، لم أعد مشغولة بما إذا كان ذلك حسناً أم سيئاً. العمل يأكل وقتي ولا يترك لي فرصة للتفكير حتى في هذا الشأن.

عملت في مهن عديدة قبل أترك بلدي وأحضر إلى بلاد لم أكن أعرف حرفا من لغتها، بل وتعلمت لغة أخرى قبل أن أتعلم لغتها، لأن فتاة من عمري نصحتني بتعلم الفرنسية قبل الإسبانية ليصبح تعلم الأخيرة أيسر. وأدركت فداحة القرار بعد مضي عامين، لولا أن عملي نادلة في مقهى أنقذني بتعلم اللغة من زملاء المهنة.

ورغم قراراتي السريعة، فغالباً ما كنت أصل إلى أهدافي متأخرة، حتى أنني لم أعمل في السياحة في مدينة سياحية كهذه إلا بعد مرور ثلاث سنوات من الإقامة بها.

تداعت هذه الذكريات جميعا لذهني وأنا اتناول إفطارا خفيفا وأشرب القهوة في المقهى القريب من البيت، قبل ساعات قليلة من موعدي مع السيد خوزيه لاصطحابه إلى المنزل الغريب الذي طلب مني أن أذهب به إليه، بما يشبه الرجاء، لدرجة أنه عرض أن يكون ذلك الأمر بمقابل إضافي.

تعرفت على السيد خوزيه عن طريق جمعية خدمات اجتماعية بين خدماتها توفير متطوعين للقراءة لضعاف البصر أو المكفوفين. وكالعادة، ورغم أن لديّ لكنة واضحة في اللغة الإسبانية إلا أنني تطوعت للقراءة، والمدهش أن الرجل قبل خدماتي على الفور.

سألني عن سر اللكنة، فقلت له أنني في الأصل عربية. وهمست له باسم مدينة مولدي. ابتسم، وقال إن اللكنة أمر مقبول جدا في مدينة أندلسية وأن نبرة صوتي جميلة وجذابة، وأثنى على مخارج الألفاظ واصفا إياها بالوضوح. كل ما طلبه وحاول أن يدربني عليه هو إيقاع القراءة المناسب، وبعد جلستي قراءة كنت قد بلغت الهدف بيسر.

ولأنه طلب يوما إضافيا ثالثا في الأسبوع فقد عرض مبلغا مقابلا له، وقبلت لأنني كنت في حاجة لهذه النقود.

وجدت في القراءة للسيد خوزيه وسيلة غير مباشرة لثقافة عامة رغم غرابة الموضوعات التي كان يفضل القراءة فيها، التي تراوحت بين وسائل الزراعة في زمن الأندلس إلى قراءة ترجمات إسبانية لمخطوطات الإعداد الحربي والخطط العسكرية للحروب في العصور الوسطى، وصولا إلى أسس العمارة ما بعد الحداثية في إسبانيا.

فوجئت يوما أنه أشار إلى كتاب وضعه قريبا منه تبينت أنه باللغة العربية، وطلب مني أن أقرأه له. كان عنوان الكتاب أليفا، “دون كيخوته” لكني لم أكن أعرفه. أدهشني أنه أكد حين سألته أنه لا يعرف شيئا من اللغة العربية. قال إنه يستهويه الإنصات إلى اللغة العربية، ومحاولة تخمين معنى الكلمات، ولهذا اختار نصا مترجما عن الإسبانية.

قرأت بحماس شديد، وشعرت بصوتي يتهدج، كأن اللغة أصبحت جسرا امتد بطول آلاف الكيلومترات بيني وبين بلادي، خالقة حنينا لم أعرفه بمثل تلك القوة منذ وضعت قدمي في هذه المدينة.

استعدت على جسر اللغة وجوها عديدة لمن مثلوا ذكريات عمري في بلادي، استعدت حياة كاملة. وبعدها شعرت بأن رابطا وثيقا يربطني بهذا الرجل، أعمق بكثير من كوني مجرد قارئة متطوعة لما يحتاج لقراءته. مع ذلك لم أجرؤ على سؤاله عن سر كف بصره، أو حياته الشخصية.

 كل ما كنت أعرفه عنه لم يزد عن المعلومات التي قدمتها لي الجمعية حين عرضوا عليّ قائمة المحتاجين لطلبات القراءة: السيد خوزيه فالكونيز، العمر 57 عاما، متقاعد عن العمل. ثم عنوان سكنه الذي يقع قريبا من وسط المدينة.

في شقته الأنيقة الواسعة، ثمة سيدة إسبانية تعمل طاهية تحضر لشقته ثلاثة أيام في الأسبوع لتعد له وجباته. وفتاة من بلد آسيوي تقيم معه كمديرة للمنزل ومساعدة شخصية له. تفتح لي الباب، وتطلب مني الدخول إلى غرفة المعيشة، حيث يأتي السيد خوزيه بعد دقائق مستندا على عصاه، يرتدي زيًّا رياضيًّا مريحا، وقد صفف شعره الفضي الخفيف بعناية، واعتلت أنفه اليوناني الذي يشبه منقار الطير نظارة سوداء أنيقة، فيما مرافقته تتمشى بجواره حتى تتلافى أن يتعثر أو يفقد اتزانه. أعلن له عن مكاني بالوقوف مرحبة، فيقترب ليصافحني ويطلب مني الجلوس ويسألني عما أود أن أشربه، ويجلس على الفوتي المجاور.

 أبدأ القراءة وفق ما يطلب مني قراءته، وأستمر لمدة ساعة، مع وقفات بحسب الظروف أو احتياجي لشربة ماء أو لطلب منه لاستيعاب مسألة ما أو طلب تكرار فقرة أو جملة. ثم أستريح بعد ذلك لمدة عشر دقائق يسمح لي خلالها بالتدخين وتناول مشروب دافئ، في الشرفة، ثم أعود لأستكمل الساعة الثانية على نفس المنوال وأنصرف. 

منذ قرأت له باللغة العربية وقد زال بيننا حاجز كبير، حتى أنه كان يصر بعد أن تنتهي فترة القراءة الرسمية، أن يطلب من الفتاة الآسيوية ألميرا أن تحضّر لي العشاء. ولكنه لا يتناول شيئا في حضوري، فهو لا يأكل أمام أحد. ويكتفي بتناول جرعات خفيفة من مشروب تعده ألميرا. لكنه، في أثناء ذلك يجلس قريبا مني ويسألني عن حياتي في الشرق كما اعتاد أن يقول مبتسما.

ولعل السبب الوحيد الذي جعلني أقبل عرضه السخي لاصطحابه إلى ذلك البيت التاريخي الذي طلب مني الذهاب إليه هو تجربة قراءتي بالعربية. أقصد أن سر ترددي الكبير في اصطحابه إلى هناك ليست له علاقة سوى بمدى قدرتي على الوصف.

كنت أخشى أن يطلب مني وصف المكان فأخفق. فالقراءة في النهاية لم تكن تقتضي مني سوى مطالعة نص جاهز أقرأه من دون أن أتحمل أي مسؤولية لها علاقة بالمضمون أو كفاءة الكاتب. أما أن أصف له مكانا يود زيارته، ومكان تاريخي لم يسبق لي أنا نفسي زيارته فقد كان أمرا يشعرني بالخوف والتردد.

ولحسم الأمر قررت القيام بزيارة خاصة للمكان بمفردي أولا، فليس لي أن أسمح لنفسي أن يستعين بي كفيف بينما أعاني أنا من العمى.

قررت الأمر بسرعة كالعادة، فأنهيت إفطاري وتوجهت إلى المدينة التاريخية قرب النهر. دخلت إلى باحة المنزل الأثري، فلم يكن المكان كبيرا ليوصف بالقصر. ولفتني مشهد فسقية مياه جارية تلتصق بجدار من جدران فناء يشبه الحوش يتوسط البيت الذي تطل من طوابقه الثلاثة شرفات داخلية.

 وتجلى لي أن الشرفات في كل طابق هي رواق طويل مسيج بالدرابزين تبدو أبواب الغرف جلية عبرها. لم أتمكن من معرفة مصدر المياه للفسقية التي راح ماؤها يخر في رقة.

تأملت عمارة الأثر الحجري الأنيق بانبهار. وحاولت أن أجد لنفسي الصيغ المناسبة لوصف هذا كله للسيد خوزيه حين يأتي الموعد المحدد لزيارتنا المرتقبة للمكان.

بدت الرسالة القادمة عبر الحجارة منذ نحو ألف عام دلالة حية، عابرة للزمن على نهضة معمارية لا تخطئها عين. رغم بساطة البناء بالنسبة لكثير مما يفيض به الجزء التاريخي من المدينة العريقة من قصور باذخة ومساجد شاسعة جمعت منافسات عباقرة في التصميم والهندسة وكفاءات تنفيذ دقيقة في صناعتها.

النباتات المتنوعة المزروعة على محيط الباحة غير المسقوفة، مع صوت خرير مياه الفسقية منحاني شعورا براحة نفسية خففت من توتري كثيرا.

سمعت فجأة صوت بكاء طفل رضيع فتلفت حولي لكني لم أجد أحدا، وقد كان البيت خاليا من الزوار على ما يبدو في هذا الوقت. وهذا ما جعل دهشتي أكبر. ثم خمنت أن الرضيع قد يكون ابنا لإحدى السيدتين اللتين تجلسان في الاستقبال لبيع تذاكر الدخول، ولعلها اضطرت لإحضار طفلها اليوم لظرف لا راد له.

دلفت إلى الغرف المحيطة بالحوش، الواحدة تلو الأخرى، وقرأت اللوحات الإرشادية عن تاريخ المكان وأنواع الأثاث، والحقب التاريخية المختلفة، وحاولت أن أتخيل الكيفية التي يتعاقب فيها أشخاص مختلفو الجنسيات والمشارب والهموم، بينما يجمعهم تعاقبهم على بناء واحد.

وزير مسلم، وزوجته أو زوجاته وجارياته وأبنائه وخدمه، ثم ربما ولاة أمر من بعده، وورثتهم، ثم إسبان مسيحيون من بعدهم. وكما يحدث عادة أمام الأطلال، استدعيت أزمنة تعاقبت على مكان واحد ظل متحديا الزمن، وحيوات البشر التي تعاقبت عليه.

جلست على أريكة خشبية في ركن، وأغلقت عيني أنصت لموسيقى المياه. وشعرت بالغبطة لأن السيد خوزيه قد أتاح لي زيارة هذا المكان. حاولت أن أرى في ظلام عيني ما تعلق بها من مشاهد ما رأيته في المكان، الأثاث العتيق، التحف الخزفية والخشبية، الفرش الوثيرة، الأزياء التي تعود لعقود، وبئر المياه العميق الذي رأيته في السرداب الذي كان سكان البيت يحصلون منه على المياه اللازمة لاستخداماتهم. بدت مساحة السرداب كمطبخ عتيق يعود زمنه لقرون مضت، لكن اللافت لي كانت تلك الممرات السرية للطوارئ، حيث شاعت المخارج السرية التي تتيح لأهل البيت الهروب في حال الخطر، كما سمعت.

 ثم سرعان ما انتفضت على صوت صرخة أخرى لم أتمكن من تمييز ما إذا كانت تخص الرضيع مرة أخرى أم أنها لطفلة أو امرأة، كان الصوت مشروخا بنبرة ألم عجيبة أصابتني بالحيرة. أقصد لم أتمكن من أن أحدد طبيعة الشخص الذي قد يطلق من حنجرته صوتا كهذا. شعرت بالتوتر، ونهضت من فوري متجهة للطابق العلوي الذي كنت أتكاسل عن الصعود إليه.

حين بلغت الطابق العلوي بدأت بالمرور على الغرف غير عابئة بما تحتويه من أثاث أو نماذج بشرية مصنوعة من الشمع أو البلاستيك، كأنها دمى استخدمت كتماثيل تماثل بعضا من سكان البيت في القرون الإسبانية. لم أعبأ بها إلا للتحقق من أن أيا منها لا تخفي شخصا أو بشرا ممن يطلقون هذا الصراخ الأليم. خرجت من الغرفة الأخيرة وأصخت السمع فلم يصلني سوى صوت خرير المياه في الأسفل.

انتابني إحساس بالقلق من عدم وجود أحد، فقررت المغادرة، وما إن بدأت التحرك حتى رأيت سيدة غريبة المظهر قادمة من الغرفة المجاورة، ينسدل شعرها الفضي على كتفيها مغطيا رداءها ذا اللون النبيذي القاتم، المحاط بشال أخضر حريري، ولم تلتفت إليّ، بل تجاوزتني ودلفت إلى الغرفة التي كنت أقف أمامها.

ثم جاءني صوتها من الداخل فوجلت. استدرت، وتوجهت بحذر إلى الغرفة. رأيت المرأة جالسة على الأرض بجوار فراش عتيق محاطا بإيوان خشبي، وبجواره تناثرت أبسطة ذات طرز أندلسية تعلوها صناديق عتيقة أشبه بصناديق المجوهرات.

راحت تحرك جذعها، أمامًا وخلفًا بشكلٍ عصبي متوتر، شاردة ومقطبة الجبين، كمن تهدهد نفسا لن تعرف الهدوء، أو كمن أصابتها مصيبة فشرد جسدها عنها يحاول أن يلتهي عن المصيبة بهذه الحركة الآلية الرتيبة.

سألتها إن كان هناك ما يمكنني القيام به لمساعدتها، فهزت رأسها نافية، ثم أومأت برأسها آمرة إياي بالجلوس. جلست بلا تردد. سألتني: “ما الذي تريدين معرفته عن هذا المكان؟”.

ولأنني لم أوجه لها سؤالا من أي نوع فقد بدا لي سؤالها غريبًا. لم انطق بشيء بسبب المفاجأة، فعاودت تسألني سؤالها بالطريقة المستفزة نفسها، الأمر الذي واجهته بقلة صبر واستهجان، وقد أثارت عصبيتي حركتها الرتيبة الموترة، مما خلق بيننا حوارا أخذ شكلا عبثيا، وتصاعدت حدته حتى انتهى الأمر بنهوضي محذرة إياها من إضافة كلمة واحدة، واتجهت لاستدعاء السيدتين اللتين تقفان في مدخل الاستقبال لكي أعلمهما بوجود مختلة عقلية في المكان.

لم أجد أحدا في الأسفل، وكان الباب الخشبي العتيق الذي يفصل بين مدخل القصر وغرفة الاستقبال التي يفد إليها زوار المكان موصدا من الخارج. طرقت عليه، وانتظرت فلم يُجب أحد، حاولت معالجته فلم يستجب. حاولت بكل السبل وانتهت محاولاتي جميعا بوقوعي أمام الباب خائرة القوى، وجلست أتنفس بسرعة وقلبي ينتفض من الألم والغضب معا.

سمعت صوت ضحكة غريبة ولم أشك في أنها تخص تلك السيدة غريبة الأطوار التي لم يكن أمامي إلا العودة لها، فوجدتها لا تزال في موضعها. وسألتني بنبرة ساخرة:

ـ ألم أقل لكِ؟

لم أعقب بشيء، فتأملتني للحظات ثم قالت:

ـ لن يمكنكِ الخروج من هنا وستبقين حتى تعرفين الحقيقة.

ـ أية حقيقة؟

ـ الحقيقة التي لا يود القائمون على القصر أن يعرفها أحد، والآن أخبريني عما تعرفين؟

قلت لها إن بإمكانها أن تخبرني هي بالحقيقة لننتهي، لكنها أقسمت ألا تنطق حتى أفضي إليها بما لدي. حاولت التكهن بما تود معرفته وتوقعت أنه بخصوص الأسطورة الشائعة عن قصة دارت في زمن الحاجب المنصور ابن أبي عامر في هذا القصر، فقلت:  

 “كان ياما كان في غابر الزمان، كانت هناك مدينة قريبة من هنا، يحكمها الحاكم جوزنزالو جوتسيوز، وكان له سبعة أبناء، وحين كبروا قليلا أولى مهمة تدريبهم على القتال لمعلم خبير في فنون القتال يدعى مونيو سابيدو، الذي دربهم بحيث كان لكل منهم دورٌ لا يستهان به في معارك استرداد الأندلس من العرب.

وفي يوم زفاف عمهم على سيدة من النبلاء تدعى “لامبرا” قام أحد الأبناء السبعة، وكان أكثرهم رغبة في استعراض قوته، باستفزاز أحد الضيوف وكان ابن عم تلك السيدة؛ إثر خلاف نشب بينهما خلال الحفل، وسرعان ما تحول الخلاف إلى تلاسن ثم إلى معركة أسفرت عن قتل ابن عم لامبرا الشاب، ما أدى إلى تحول حفل الزفاف إلى كارثة حقيقية وساد هرج ومرج، وتحول الحفل إلى مأتم”.

حاولت استدعاء مزيد من التفاصيل عما علق بذهني مما حكاه لي السيد خوزيه حين أعلن لي عن سر رغبته في زيارة القصر.  وكانت ذات الشعر الأبيض تحدق في عيني بنظرة غريبة تبدو فيها ملامح الشفقة ولا تخلو من القسوة، لكنني لم أتوقف وتابعت قائلة:

“بعد انتهاء أيام الحداد شاورت السيدة لامبرا زوجها في الأمر، واستقر رأيهما على الانتقام لمقتل ابن عمها، ولأنها كانت تتقن اللغة العربية، فقد كتبت كتابا إلى وزير ذي شأن في قرطبة آنذاك يدعى المنصور، أشارت فيه إلى رجائها بأن يقتل حامل الرسالة لأنه قاتل أثيم، وأنه يستحق القتل بمجرد أن يقرأ المنصور الرسالة. وكان الفتى الذي كلف بحمل الرسالة هو القاتل.

لكن المنصور بعد أن تلقى الرسالة، لم يقتل الفتى، بل اعتقله في القصر، وأبقاه سجينا حتى يرى ما سيفعله. أما خطة الثأر التي قامت بها لامبرا مع زوجها فاقتضت أن يتم قتل بقية إخوة الفتي، وهكذا أوصى العم أن تذهب رؤوس الإخوة ومدربهم إلى قرطبة لكي تعلق على الجدران القريبة من هذا المنزل، بحيث يرى الأخ ما حدث لإخوته.

وإشفاقا من المنصور لما حدث للفتى، خصوصا بعد أن رأى الرؤوس المقطوعة لإخوته، أوصى أخته فاطيما أن ترعى الفتى.

ورغم أن فاطيما لم تتحمس للأمر في البداية لأنها علمت أن الفتى ارتكب جريمة قتل في الأساس، لكن الفتى جونزاليس أوضح لها أن تلك الجريمة لم تكن مقصودة أو متعمدة، ثم حدثها عن إخوته، وعن أحزانه والغمّ الذي يسكن قلبه منذ علم بذبحهم. وبعد أن كانت فاطيما تعامله في حذر تسللت مشاعر أخرى بدأت بالشفقة ثم الإعجاب وتوجت بالحب، ووقعت في غرامه. وكان غرامها بجونزاليس بداية تغير مسار الأقدار، لأنها نجحت في إقناع المنصور بالإفراج عنه”.

أنهيت الحكاية كما سمعتها، والتزمت الصمت وأنا أتابع ملامح وجه ذات الشعر الأبيض بقلق، متمنية أن أكون قد أجبت الإجابة الصحيحة. فسألتني:

ـ هل انتهيتِ؟

ـ نعم، هذا كل ما أعرفه.

صمتت لوهلة ثم اعتدلت في جلستها وثنت ركبتيها وعدلت وشاحها، ثم قالت بصوت بدا لي كأنه يخص امرأة عمرها سبعة قرون، صوت مرتجف وشاحب وعجوز:

ـ أرأيتِ يا أختي كيف يزوّرون التاريخ ويشوهون الحكايات؟ من أجل هذا أقيم في هذا القصر ولا أغادر. فلم يحدث شيء مما حكيتِ، هذه كلها أكاذيب.

ـ لا بأس، هذا ما سمعته ولست متخصصة في التاريخ، والبعض يقول إن التاريخ كله خرافة.

ـ ربما، ولكني قررت أن أحمي الحكايات الحقيقية من غول الأكاذيب وشياطين الكذب والكذابين.

ـ كيف؟

ـ أنا هنا لكي أحرس الحكايات. في كل خطوة تخطينها في المكان تخطين فوق أثر حكاية ومصير. وإليك الحقائق، ولك أن تعلمي أن الأبناء السبعة لم يكونوا قتلة بل كانوا سبعة أطفال قتلوا غدرا في صباهم، ثم جيء برقابهم إلى المنصور هنا. وليس السجين إلا أباهم المغدور بقتل أطفاله. أما المنصور فهو الذي ساعد السجين جونزالوس على الثأر لأبنائه الرضع.

صمتت فلم أنطق، فجاء صوتها:

ـ هل تسمعينني؟

لم أنبس بحرف، فقالت: وفاطمة؟

قلت لها: ما بها فاطمة؟

ابتسمت وقالت: لم تكن فاطمة التي أغرمت بالأسير، بل هي التي شغفت به، فشغفها عشقا، وأنجبا طفلا.

هززت رأسي دلالة على عدم اكتراثي لاختلاف تفاصيل لحكاية من الحكايات، فقالت:

ـ قد يكون الأمر بالنسبة لك سيان، لكنه ليس كذلك. ليس الأمر بهذه البساطة، وإلا ما كنت حصلت على لقبي الذي يعرفني به كل أهل القصر.

ـ هل يسكن القصر أحد؟

ـ لم يغادره أحد من سكانه، كلهم موجودون.

وعلى سبيل محاولة عدم إظهار دهشتي مما تقول، خصوصا وأنني أصبحت متيقنة من أنها تعاني اختلالا عقليا جليا، سألتها:

ـ وما لقبك بالمناسبة؟

ـ حارسة الحكايات، ظننتك تتمتعين بالذكاء.

بلغت ذروة قلقي وتوتري، وكان أكثر ما يقلقني رغبة شديدة في البكاء. آلمني ذلك لأنني من المستحيل أن أسمح لنفسي بالبكاء أمام تلك المرأة البشعة، وأحسست بوجهي وقد التهب بالحرارة غيظا وكمدا. ولكني لم أمسح قطرات العرق التي انسالت من جبهتي على وجهي.  شعرت بالندم لدخول هذا القصر أو البيت الملعون أو أيا ما كان، ولكني لم أدر ما السبيل للخروج.

حدجتني بنظرة غضب وهي تأمرني بالإنصات، وتسألني بعدها: هل تسمعين الآن؟

 وبوغت بتصاعد صوت يشبه صوت بكاء الرضيع الذي سمعته حين دخلت للقصر، ثم سرعان ما تعالى صوت بكاء طفل ثان، وثالث، وتوالى بكاء الرضع، بشكل أثار في قلبي الرعب. بينما رأيت حارسة الحكايات وقد فاضت عيناها بدموع انهالت من عينيها كقطرات أشفقت عليها منها، وقبل أن أنطق بشيء رأيت الدموع تتكاثف وتتساقط من عينيها بشكل عجيب. كان الأمر قد خرج عن سيطرتها، وكانت تبكي وتصرخ.

وبينما كانت تمد يديها لي، لكي تصحبني لتريني الأطفال السبعة، بدأت أهرول هربا منها، مدفوعة بالذعر من الأصوات التي فاض بها المكان، وخوفا من تيار المياه العجيب الذي بدأ يتجمع أمام الغرفة ويتدفق. يتبعني فيما أفر منه ومن تلك المختلة عقليا ومن المكان كله؛ في طريقي بحثا عن النجاة أو باب الخروج.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون