د. رضا صالح
كان يوما عاصفا؛ تغير لون الجو فجاه وأصبح اللون الأصفر هو الغالب علي الأشياء؛ من النافذة تابعت الاهتزاز العنيف لشجره الكافور، ازداد اهتزاز الملابس المنشورة علي حبال الغسيل لدي الجيران؛ كنت في ذلك اليوم مكلفا بالعمل في إحدى القوافل الطبية، عاده تكون في أطراف المدينة، وخصوصا في الأحياء الفقيرة المزدحمة.
***
عندما اقتربت من الموقع؛ طالعت لوحات إرشاديه، كانت تقع داخل كردون المدينة، بالقرب منها وعلي بعد خطوات فقط، يوجد مركز طبي كبير، ياالله !
سمعت صوت الميكروفون “الكشف مجانا لجميع التخصصات، والتحاليل والأشعة والعلاج مجانا”.
عندما وصلت إلى المكان رأيت سرادقا مهيبا وقد وضعت سجاده طويلة في المدخل، وقفت مجموعات من الناس مصطفين علي الجانبين، البعض يحمل أجهزه لاسلكية، عرفت أن السيد المحافظ علي وشك الوصول.
في الداخل سلمت علي البعض، ورأيت صفين من سيارات العيادات المتنقلة متراصة على الجانبين وعلى كل سيارة لافتة بالتخصص؛ صعدت سيارة تحمل تخصصي، بالداخل وجدت ممرضتين حييتهما ودخلت في الممر الضيق وارتديت البالطو الابيض وأخرجت جريده وكتابا وبدأت أتصفح الجريده في انتظار وصول المرضي.
استمرت العاصفه الترابيه تعمل في داب، قلوع السرادق الكبير بلونها الزاهيه، كانت تصدر أصواتا وقرقعة تكاد تطير بنا في الهواء.
- ●●
في مجلسي بالسياره سمعت طرفا من الحوار دار بين الاثنتين…
قالت إحداهما وهي تحمل الجوانتيات إلى مكانها: دا نوع كويس مفيش منه في المستشفي !
ردت الثانيه:موفرين هنا كل حاجة
ـ اسمك إيه؟
ـ أنا؟…..اسمي سامية
ـ أهلا وسهلا و أنا اسمي فايزة.
ـ أهلا يبكي…القافلة دي فرصه سعيدة…انتي شغلك فين؟
ـ في قسم المسالك في المستشفي العام…وانتي ؟
ـ أنا في المركز الطبي، بس حاليا بيهدّوه.
ـ بيهدوه !!وانتم قاعدين فين؟
ـ نقلونا الإسعاف لغاية ما المركز الجديد……أمسكت فايزة مجموعه من الأوراق وتحركت في الممر الضيق؛ وقدمتها لي:
ـ الأدوية الموجودة يا دكتور…
باعدت الصحيفة عن وجهي ونظرت اليها:شكرا؛ شكرا
ـلقيت نظره عابرة علي الأوراق ووضعتها امامي وتشاغلت بقراءة الصحيفة.
- ●●
كان المكان ضيقا، يدعو إلى الألفة والحوار،أخرجت فايزه من حقيبتها كيسا به سندويتشات وأعطت سامية أحدها فأخذته بامتنان
قالت عبر الممر:
ـ تفضل يا دكتور
ـ شكرا يا مدام فايزه، فطرت.
بدأت في قضم السندويشات وتبادل الحوار، بدأت فايزه الكلام..
ـ هما لسه ماقطعوش التذاكر؟
ـ باين لسه..
ـ أحسن..علشان نفطر الأول، ببقولوا في غدا
قالت فايزه:طبعا..انتي أول مره تحضري القافله
ـ أيوه
ـ أنا حضرت المره اللي فاتت، صارفين فلوس كتير اوي…انا سمعت ان الخيمه دي ب كذا الف جنيه
ـ اشتروها؟
ـ لأ ايجار…نصب بس
ـ ياسلام!!
ـ كمان الكافتيريا عاملنها ب كذا الف
ـ فيها ايه ؟؟
ـ أبدا شاي و قهوه و حاجه ساقعه، وليكي مشروب بارد، وواحد سخن!!
ـ فين الكافتيريا؟
ـ هناك جنب دوره المياه
ـ والشغل هنا عامل ايه؟
ـ أبدا…اي كلام…بذمتك حد يعرف يعمل هنا عملية؟ واحد كان جاي عاوز يشيل كيس دهني سامع الميكروفون طول النهار عمال يقول الكشف والعلاج مجانا جميع الحالات.
ـ عمل إيه؟ ضحكت فايزه وقالت:
ـ الدكتور حوله الستشفي…الراجل بصّ له وقاله:
ـ امال انتوا بتضحكوا علينا؟ طيب عاملينوا ليه مدام بتحولني علي المستشفي؟
- ●●
قالت ساميه:عاوزه آخذ تليفونك، انتي لذيذه قوي !
ـ تليفوني؟مرفوع من الخدمه وابتسمت
ـ ليه
ـ قالوا فيه انحلال
ـ انحلال ايه كفا الله الشر!
ـ انحلال في الكابل ولا باين في الشيكه..
ـ قصدك إحلال..
ـ أنا ربك والحق أنا لقيتها فرصة أصل علينا مبلغ كبير، الولاد بيكلموا زمايلهم، وابوهم متوفي وانا اللي شايله الهم كله
ـ ياسلام…انتي زي حلاتي !
ـ ازاي ؟
ـ انا جوزي متوفي من سنتين، بس اهله في حالهم
ـ يعني ايه؟ مابيسألوش عن العيال؟
ـ ساعات..اما يجيلهم مزاج
ـ والنبي ياختي الواحد مش عارف الدنيا جرا لها ايه
- ●●
بعد قليل هلّت أعداد من الناس، يحمل كل منهم تذكرته “المجانية”؛ وجدت بعض الحالات المزمنة، وقد تصادف مناظره بعضها، هدأ الجو، أمسكت بالكتاب “مذكرات طبيب”حاولت أن أقرأ، ولكني فوجئت بعدد من الشباب يتقاطرون، سألت الاول:ما شكواك؟ ابتسم وقال: حب الشباب
وجدت الثاني والثالث واكثر من عشرين طالبا يكررون نفس الكلمات وهم يبتسمون، سألت أحدهم:انتم في أي مدرسه؟
ـ إحنا جنبكم في مدرسه العاشر..
ـ وخرجتم ازاي؟ رد احدهم..ابدا المدرس ضحك علينا، وقال لنا روحوا القافله… انتم بتوع النظام وحتاخدوا جوايز و فلوس، أما جينا هنا ما كانش فيه ناس، والمحافظ موجود؛ قالوا لنا نقف فى الطابور وقطعوا لنا تذاكر وقالوا لنا روحوا اكشفوا وقوقوا للدكتور كذا كذا..
يعنى إيه كذا كذا ؟
ابتسم وأكمل:
ـأى حاجة يعنى حب شباب مثلا..
ـ إنت بتاحد دروس؟
ـ طبعا..كلنا بناخد دروس
ـ فى إيه؟
ـ فى جميع المواد.
***
بعد قليل توافدت أعداد لا بأس بها من البشر؛ ازدادت بشدة مع اقتراب آذان الظهر، الغالبية من الأطفال والنساء؛ عدد من العاطلين وأصحاب المهن؛ كانت فايزة تنادى بأعلى صوت على المرضى
ـ سلسبيل..
لم ترد
أعاد أحد الواقفين النداء بلهجة صعيدية:
ـ سلسفيل..
ـ ابتسم البعض
أكمل آخر:
ـ سلسفيل أبوها
ضحك البعض حتى ضحكت أنا..استمر الناس فى الضحك، وشعرت بالتخفف من الضغط المتزايد، بعد حوالى ساعتين؛ هدأ الزحف؛ قالت فايزة:
ـ إحنا رايحين نجيب الشاى.
قلت:
ـ خليه بعد الصلاه
نزلت من السيارة؛ جموع من الناس تتحرك فى اتجاهات مختلفة، سيدة مسنة رأتنى بالبالطو الابيض قالت: قل لى يابنى: العصبية فين؟
نظرت حولى لأبحث معها..قابلت دكتور فهمى الجراح؛ وقال لى:
ـ الكلام ده تهريج
ـليه؟
نظر لى وقال جادا:
آه والله..ناس بتهرج..أنت عارف الخيمة دى مصروف عليها كم؟
ـ كم؟
50 ألف جنيه
ـ ياسلام!!
***
مر الوقت وتقاطرت الجموع مع سماع الميكروفون الكشف والعلاج مجانا لجميع التخصصات..
بعد العصر بدأ الارهاق والتعب على الوجوه..
” إن شاء الله لما أقبض فلوس القافلة حادفع الفواتير المتأخرة؛ وأكلمك فى التليفون”
قالت فايزة
ـ امتى؟ ردت سامية
ـ امتى إيه؟
ـ امتى نقبض فلوس القافلة؟
ـ انتى عارفة ياحبيبتى يوم الحكومة بسنة
ـ يعنى مفيش خبر؟
سمعت المدير بيقول إنهم دفعوا فلوس الخيمة قلت له: وفلوسنا؟
ـ قال لك إيه؟
ـ قال ‘نتم مقدور عليكم..إنما الفرّاش منقدرش عليه..
***
استأنفت فايزة:
ـ فيه عيادة أسنان؟
ـ أيوه
ـ والتعقيم حيكون إزاى؟
ـموش عارفة ده حتى مفيش حنفية.
ـ فى المركز الآلات بعدد العيانين..الحقيقة التعقيم ممتاز.
***
ـ شايفة الستات اللى ماشيين هناك
ـ مالهم؟
ـ جايين يعملوا شوبنج فى العيادات كلها..معاهم روشتات كتير والعيانة موش عارفة تشيل الدوا فين؟
ـ كانت تجيب معاها شنطة
ـ واللا تجيب شيال أحسن !
**
طويت الصحيفة وقلت رافعا صوتى:
ـ ياجماعة حرام عليكم؛ بلاش نم الله يخليكم؛ كل واحد يلزم حدوده ما تجيبولناش الكلام…
كانت السيارات التى أتت بالعاملين بالقافلة قد اختفت فجاة
سـلت فايزة:
ـ السواق بتاعنا راح فين؟
ـ عاوزاه ليه؟
أصل معاه تُرمس الشاى
ـ العربيات كلها راحت القرية تجيب الناس
ـ ناس مين؟
ـ ناس عشان يقفوا ويتصوروا ويكشفوا لما يحضر المسئولين.