العطر وتعويذة البقاء.. قراءة في رواية “عطر شاه”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. مروة مختار   

تمنحنا الكاتبة نسرين البخشونجي في روايتها "عطر شاه" سرآ من أسرار ارتباط الأنثى بالعطر، فالعطر في روايتها هو تعويذة البقاء،العطر هو سر بقاء الساردة /شذى على قيد الحياة حتى الآن.

في العطر احتمال للواقع الثقيل ومواجهته بأنفاس  مصبوغة  بصبغة اختيارية تعطر أجواءه غير المحتملة، تلك الأجواء الناجمة عن إرثالعادات والتقاليد المرتبط بالمرأة ، وفكرة السعى للغربة من حياة أفضل، وإرث  تقييد الحريات داخل وطننا العربي.

تحاول الساردة استخدام  حريتها في الاختيار فلا تجد أمامها غير العطر…….ينسحب هذا الاختيار على نكهات الطعام فتستمتع بإضافةالنكهات الطبيعية لطعامها ليكون مختلفا،وأحيانا تعد بنفسها خليطا من النكهات المختلفة ليكتسب طعامها /واقعها مذاقآ مختارآ ومختلفآ.

يغلف العطر الرواية من بداياتها حتى نهاياتها، العطر مشارك في حركة خيوط السرد بالرواية، بداية من فصلها الأول ومكانالساردة /شذى المفضل “مقهى البستان” واستمتاع الساردة بعناق رائحة القهوة بالشيشة، ومرورا بحالة البهجة من رائحة الكتب،الساردة /شذى تتذكر الناس بالروائح ،فالدنيا رائحة بالنسبة لها، تلك الروائح التى ألقت بظلالها على أسماء بعض فصول الرواية“ريحان، ياسمين…..”، شذى بطلة الرواية تتذكر والدها برائحته،ترتبط الثورة لديها برائحة الدخان ورائحة صلاة التراويح في ميدانالتحرير.

تتعدد أصوات الشخصيات في الرواية، منها ماهو مؤثر على سير أحداثها، ومنها ما رسم لطرق مشكلة لاترغب الساردة/ شذى فيمناقشتها، ترغب في الإشارة إلى وجودها في واقعنا فقط.

أبرز الشخصيات تأثيرا على حركة السرد هي الأم/كريمان، الأم هى الصوت الذى يحمل معه أعراف وتقاليد مجتمعنا العرب ،كريمان التي تحاول باستمرار قولبة شذى المحلقة دائما ووضعها داخل إطار.

كريمان/الأم تحمل جينات الأم العربية التقليدية ،هى مصدر الحنان والأمان ل”شذى” ولكنها في الوقت نفسه صوت  العقلية  البائدة التي تكبح حريتهاوتحليقها،فترفض العيش داخل عباءة الأم  قائلة: “رائع أن نرث عن أمهاتنا شيئا آخر غير الأمراض والأفكار الغريبة غير القابلة للاندثار” ص 20. كريمان/الأم واعية تمامتً لأثر العطر على ابنتها، فتداويها بكوب من الماء المعطر بماء الورد، الأم التي نحل قوامها بعد نزولهامعترك الحياة للعمل بسبب غياب الأب، وأبت أن يراها مجتمعها تكدح  حيث تتعلم ابنتها فارتدت النقاب.

كريمان هى صوت المجتمع الذى لا يطمئن على الفتاة إلا في بيت الزوجية: “أريد أن أطمئن عليك قبل وفاتي” ص38، وإن بدت حانية في موضع ،صرخت في وجهها في موضع آخر معبرة عن المجتمعونظرته لفتاة تعدت الثلاثين ولم تتزوج: “من هن في عمرك لديهن أطفال دخلوا المدرسة،أنت مازلت وحيدة يا خائبة”ص79 ومتى أعربت شذى عن خوفها من تقييدحريتها وإبداعها بالزواج تردها قائلة :” القصص موجودة ،لكن الزواج لا “ص38 . الأم /كريمان لم تترك شذى تواجه ضغوط الحياة الزوجية وتعارضها مع الإبداع دون أن تكون عونا وسندا لها “ربما هذا مصدر إزعاج لأنه جديد، ربما ستتمكنين يومآ من استغلال فترات نوم دانية لتكتبي ….عليك فقط موازنة حياتك وإعادة ترتيب أولوياتك” ص38 .

تختلف حدة هذا الصوت من بلد عربي لآخر،وإن اتحدت في منطلقاتها ،فالمعلمة/الأم الثانية التي تدرس لشذى في بلد عربي أسفرتعن الوجه المظلم في الفكر العربي متى نهرتها قائلة:  “أنت قليلة  الأدب أهذا ما علمته لك أمك” متى أعترضت تلميذتها شذى علىفكرة كثرة الإنجاب قائلة:”الرسول لن يتباهي بأمة لاتفكر إلا في المال والنساء ،طفل أو اثنان ملتزمان دينيا أو أخلاقيا،ومتفوقان علميا أفضل من عشرة فاشلين”ص 80تخشى الساردة الصدام أو المواجهة،  فتتعرض على استحياء لبعض القضايا الشائكة ،من خلال شخصيات الرواية ،فالصديقة  التي حملاسمها رائحة الورد/عبير المسلمة تزوجت عرفيا من شاب  مسيحي، وقبض عليهما وأجبرالشاب المسيحي  على إشهار إسلامه حتى  لايدخلا السجن في  قضية آداب ، وسندس الصديقة المقربة التى تحولت بعد أعوام لواحدة ممن يستفيدون منها فقط، قررت شذى بعدها معانقة الوحدة.       

حاولت الساردة منح الذكور في رواياتها أسماء تضفى عليهم صفات نبيلة،ولكن الرواية كشفت عن كونهم مصدرا رئيسا لآلامها.تكمن المفارقة في اسم الحبيب “رحيم”الذى لم يرحمها بسبب علاقته النسائية المتعددة،وكريم المحب الحنون سخى المشاعر حال بينهماكونه بهائيا، والزوج /نبيل الذى تمتع بأخلاق نبيلة لكنه كان نموذجا للزوج العربي التقليدي .                                        

الأب الذى لم نعرف اسمه ،ظهر في بداية الرواية بوصفه مصدرا للأمان ،المشجع الحقيقي لإبداعها ،تحول فكره تدريجيا بعد سفره لإحدىالدول العربية…انتهى به لأمر لاعتقاله فأصبح مصدرا للقلق وعدم الاستقرار الأسري.

لعب المكان دورآ بارزا في الرواية، فالحرية والإبداع ارتبطا بمقهى البستان وميدان التحرير، والانغلاق  الفكري ارتبط بالسفر لدولة عربية ، والهروب للعالم الخاص ارتبط بالمطبخ.

تظهر أيقونة الحلم في الرواية معبرة عن لاوعي الساردة،تعبر من خلاله عن هواجسها تجاه أسرتها الكبيرة/الوطن:“أحلم احيانا بأني أركض خائفة وخلفي من يريد قتلي ،تفاصيل الحلم تختلف كل مرة،بعضها يحمل طابعا سياسيا أو طائفيابينما النتيجة دائما واحدة ،غارقة أنا في بركة من الدماء”ص74، وتجاه أسرتها الصغيرة أيضا: “أحيانا أخرى أحلم بأن قدمي لايستطيعان حمل جسدى ،الذى أشعر به ثقيلا جدا، أحاول المقاومةكي أعود إلى البيت،أركب سيارة أجرة فتبتعد بي رغم أن البيت يكون خلفي تمامآ”.                                            

تحاول شذى أن تجد متنفسا من واقع يحاصرها ولكنها تصحو مرهقة مهزومة الروح حزينة متطلعة إلى السماء.

تكثف الكاتبة لغتها في مفتتح معظم فصول الرواية…فتلعب مع القارئ لعبة القبض والبسط ليستمر في القراءة دون ملل، مفتتحة الروايةبقولها”لمن عرفوا أن في قلب الحرف سرآ ،لايدركه سوى أصحاب النفوس الطيبة الناصعة قلوبهم” مؤكدة على حبها لأمومتها عبر فصول الرواية التسعة/الحمل والميلاد الجديد،وإهدائها الرواية لابنها الأول /يوسف: “صانع توليفة الأمل وتعويذة المحبة”. إنها رحلة بدأت بالغربة وانتهت بالعودة للوطن مع ميلاد فجر جديد يكسوه رائحة نهر النيل .   

…………..                   

*ناقدة مصرية

مقالات من نفس القسم