شوق الدرويش .. الحزن نبي آخر الزمان!

شوق الدرويش .. الحزن نبي آخر الزمان!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مصطفى السيد سمير

يبدأ حمور زيادة روايته بمقطع مقتبس لمحيي الدين بن عربي، ويختتمها بمقطع آخر لنفس الشيخ. يطعّم حمور فصول الرواية بمقاطع من كلمات المسيح، كما يستضيف الحلاج مرة واحدة، يلقي فيها علينا السلام ويخبرنا أن البلاء والعافية من الله، والنهي والأمر لله، كأنما الكلمات الأربع كواكب تدور حول الذات العليا. ماذا تحتاج - كقارئ - أكثر من مصادفة هذه الأسماء الثلاثة، كي تعرف أنك تقرأ كتابا مقدسا للحزن. إننا نعرف جميعا كيف عبر الرجال الثلاثة على الأرض في أزمنة متباعدة، وكيف صُلب أحدهم وأُعدم أحدهم بينما عمّر ثالثهم، وكيف أضاعوا أعمارهم في محاولة إسالة أرواح البشر المحتجزة في قوالب افتراضية، قوالب تذيقهم الحروب والاغتراب والتباهي، وكيف غادروا وقد تركوا إرثا روحيا عظيما للأرض، كأنهم نفخوا بعض الهواء في قلبها، فانتفخت كبالون - تلك الأرض المتغضنة الضئيلة عديمة الملامح - وحلقت.

يمكن وضع هذه النماذج الثلاثة في مقابلة البطل غير المعلن للرواية، محمد المهدي، قائد الثورة المهدية، الإمام المنتظر الذي ادعى تطبيق الإسلام ونشر العدل وتحقيق الحلم، وأعلن مقدم آخر الزمان وخلاص البشر. لكنه لم يفعل من الإسلام سوى أن سمى نفسه “الإمام” وأتباعه “الأنصار” وحروبه “الجهاد”، ثم ارتكب كل ما يلوث الروح من قتل وتجويع وسبي وجعل أهل السودان أبعد ما يكونون عن الخلاص. هكذا قُتل المسيح والحلاج، وأصبح المهدي صاحب دولة، كما سارت سنن هذا العالم من قبل ومن بعد، حيث حصل أهل السلام على الموت والتكفير والإبعاد، وحصل أهل القتل على الممالك والانتصارات والمؤيدين، وحصلنا نحن على ما حصل عليه بخيت منديل.

والانتقام كتابه المقدس

خرج بخيت منديل من السجن ليطارد المجموعة اللي شاركت في قتل حواء: الدليل وقائد القافلة وقائد الجماعة التي طاردتهم، القاتل ومن شاركه ومن تفرج عليه. بخيت يطارد العالم بأكمله، العالم يداه ملوثتان بالدماء، العالم ميت من الداخل، حتى أنه لا يعطي فرصة لنمو نبتة حياة واحدة. عَشق بخيت حواء، الراهبة الشقراء التي هبطت كقطرة مطر من أعلى الخريطة إلى أسفلها، من اليونان فالإسكندرية فالخرطوم، كي تموت هناك في بالوعة الأحلام كلها. نبتة الحياة الهشة التي أرسلها أبوها إلى السودان خوفا على شفتيها الوحشيتين، فذبح هو على باب بيته في الإسكندرية وذبحت هي أمام سيدها في الخرطوم. ما رأيك اﻵن أيها الأب العزيز في شفاهنا نحن.

يحمل قتل حواء دلالة شديدة الوضوح، فـ “حواء” بخيت تماثل “حواء” آدم، هي النصف اﻵخر للوجود، والفرصة الوحيدة لاستكمال الحياة وإعمار ما تبقى بعد كل هذا الخراب. ومن هنا يبدو منطقيا رغبة بخيت العمياء في تتبع قاتليها، لم تكن تلك مجرد أوجاع عاشق، وإنما كانت شعورا بفناء العالم الذي يعرفه، فناء لا رجعة فيه

ما تيسّر

– الإنسان كائن وحيد. مهما أحاط به من البشر. لا يمشي معه درب وجعه سواه.

تقول ثيودورا

– بايعوني على قص الرقبة.

يقول محمد المهدي

– الحب لعنة الرجال يا سوداني، لكنه للمرأة راحة.

يقول يوسف أفندي سعيد

– أنا لست هاربا يا ابن العرب. أنا الموت. مني يهرب الناس.

يقول بخيت منديل

– يا رب، عجِّل بخروج المهدي فإن العالم أصابه الجنون.

تقول “فضل العزيز”

– ما لقي الأنبياء شرا من غباء المبشرين.

يقول الحاج تاج الدين المغربي، المسيح السجين

– من لم يمضغه الحزن في هذه المدينة لا روح له.

يقول الحسن الجريفاوي

شوق الدرويش ومصيره

وهب بخيت نفسه للحرية، وهب الحسن الجريفاوي نفسه للإيمان، وهبت ثيودورا نفسها للسلام، وهبت أم درمان نفسها للحلم. كانوا جميعا دراويش بشكل أو بآخر، عشاقا مكسورين، حملة للأمانة وحافظين للسر. سارعوا إلى المصاعب، وخاضوا معارك لا قبل لهم بها، واستعذبوا الوحشة والغربة وكتم الألم في سبيل ما أحبوا. وكما جرت العادة مع كل الدراويش فقد مضغ الحب أرواحهم حتى الفناء. فالحسن الجريفاوي أفناه القتل، وثيودورا أفناها الرق والاستغلال الجنسي، وبخيت أفناه القتل والرق والاستغلال الجنسي والسجن، وأم درمان أفناها الحَسن وثيودورا وبخيت والمهدي، أفناها الحالمون والمعذبون والغزاة.

ربما كان أفضل معادل موضوعي لهم جميعا هو شخصية “يوسف أفندي سعيد”، الذي وهب نفسه لعشق امرأته والصبر على تدللها حتى هجرته مع عاشق آخر. يوسف أفندي الذي كان يصف الحب باللعنة، وقد كان الحب بالفعل لعنة له ولسائر الدراويش، عقابا لهم على ارتكاب الحب في الزمان الخطأ، وعلى وضعهم للحلم محل العقيدة في عالم كافر تماما.

دوران الزمن وقيامته

حتى الزمن، كان شخصية أساسية من شخصيات الرواية، ومثل الشخصيات الأساسية كان درويشا هو اﻵخر. فحمور زيادة لم يرو حكايته بالتسلسل الحقيقي، وإنما جال في الأزمنة صعودا وهبوطا، واستخدم اللقطات المتقطعة كومضات في سرد سير الشخصيات. تلك اللقطات المتقطعة المتناثرة أصابتني كقارئ بالكثير من الارتباك، وكأن الزمن لا يسير إلى الأمام بل يدور مرتديا تنورة الحب مارا على الأشياء، فالمدن تحترق وتعود للازدهار، الحروب تنتهي لتبدأ، الأبطال يظهرون ويختفون، يتقدمون في السن ويتراجعون، يموتون ويعودون إلى الحياة، تطعنهم الحكاية ثم تسحب خنجرها منهم وتختفي جروحهم ليسيروا كأن شيئا لم يحدث.

كم هو مخيف أن تعلم مسبقا كيف سيموت ذلك الرجل المفعم بالحب، وكيف سيثبت خطأ تلك الخواطر المتفائلة في ذهنه، وكيف ستنتهي معاناته بالهزيمة الكاملة. هكذا تتحول الشخصيات والأحداث إلى ثقوب في جسدي – أنا القارئ المحايد الذي لا ذنب له – يتسلل منها الندم العميق إلى داخلي، في كل مرة تزهر وردة في مجال الرواية، وقد أخبرني الراوي قبلا أنها ستموت ميتة بشعة. ما أقسى تلك العدمية التي أواصل الخوض فيها باستمراري في القراءة، وما أقسى تلك اللعبة التي يلعبها الزمن معي / معكم داخل الرواية، قسوة جعلتني أظن أنني سأقرأ في آخر صفحاتها “صَدَقَ الدرويش، وكَذِبَ شوقُه.”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 مصطفى السيد سمير

 قاص وناقد مصري

 صدر له ديوان (صحيان بطيء من حلم جميل)

 ومجموعة قصصية (حارس ليلي للسماء) عن دار اكتب 2013  

مقالات من نفس القسم