حسين عبدالعليم: كاتب مسلم.. وعائلة قبطية

فاروق عبد القادر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فاروق عبد القادر  

نواصل الحديث عن حسين عبدالعليم وأعماله الثلاثة الأخيرة. واضح أن بين هذا الكاتب وقواعد اللغة العربية وداً مفقوداً وخيطاً مقطوعاً، فهو قادر علي أن يكتب – بجرأة لا يحسد عليها – عبارات مثل: «تَدَّخَل أبيه..» و«صَمَتَ أبيه» و«لاحظ عبدالحكم أن عيناه..» و«ثمة سراً غامضاً..»، ومثل هذا الكثير، وأنني – عادة – لا أطيق مثل هذه الأخطاء، ولا حيلة لي، فهي –

والتعبير ليحيي حقي – تقلقلني مثل السيارة في مطب!. ولعله – لذلك – كان يسبح في مياه أليفة حين كتب «بازل Puzzle» بالعامية المصرية. ولن أعيد وأزيد في قضية كتابة الأعمال الأدبية بالفصحي أو بالعامية، بتنا نحفظ دعاوي الطرفين عن ظهر قلب. تكفي ملاحظة واحدة: إن المجري الرئيسي للإبداع العربي يضم الأعمال المكتوبة بالفصحي في أي من البلاد العربية، ومن ثم تبقي الأعمال القليلة المكتوبة بالعامية (وهي قليلة فعلاً، فلعل أعمال العامية المصرية التي تحقق مستوي معقولاً من الاستواء الفني لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة!) خارج المجري الرئيسي، ولكن ما الضرر في الاستمتاع برافد من روافد النهر لو كان جميلاً ومفيداً؟ إذا لم تكن من أهل «الحذلقة» أو «الفيهقة» أو «السنوبزم» – والعياذ بالله – فسوف تستمتع بصفحات كثيرة في هذه الأعمال. وعند الكاتب عذر فني واضح، فالعمل كله «مونولوجات» لخليط من الرجال والنساء:

موظفين صغار أو عاطلين، ربات بيوت أو عاهرات، يجمع بينهم أنهم يعيشون في تلك الأحياء التي ندعوها بالعشوائية، تلك المستلقية وراء «إمبابة» وسواها من قري الجيزة (حيث يعيش الكاتب ويعمل بالمحاماة)، يجمع بينهم كذلك أنهم رجال ونساء «صغار»: أبطال القصص القصيرة بامتياز، يضطربون في واقع قاسٍ، وعليهم أن يحتالوا كي يوفروا ضرورات الحياة اليومية وشيئاً من الأمان للمستقبل، ولأنها «مونولوجات» فلا بأس في أن تقول لنا «منصورة» التي اعتادت أن تنتقل من مكان لآخر: إن فسدت العلاقة بينها وبين زوجها: «اتلميت علي كريمة واشتغلنا سوا في البطَّال لحد ما عملت قرشين وفتحت بيهم دفتر توفير في البوسطة..»، وطمحت لأن تتخلص من القلق بأن تستقبل زبائنها في بيتها، وقد فعلت. وفساد العلاقة بينها وبين أزواجها ترده لسبب واحد: إسراف الرجال في تعاطي «البانجو وبرشام أبوصليبة والصراصير وجميع أنواع المخدرات» وليس أزواج منصورة فقط الذين يتعاطون البانجو، كل الرجال الذين نراهم كذلك. هذا الشاب «حسين» في مونولوجه يصحبنا منذ يصحو من نومه حتي ينتهي يومه في الساعات الأولي من الصباح التالي، حين يحصل من أمه علي خمسين جنيهاً يسعد بها كثيراً..

«نزلت.. ضربت بانجو وشربت خمرة وكنت آخر انبساط..»، وهو بطل مراقب لذاته، يحلو له أن يتصور وهم عظمته، وتصوره أن رغباته وأمنياته حقائق في الواقع، ويحلو له أن يلعب لعبة صغيرة مع صاحب البار: «قعدت علي ترابيزة وكتبت ورقة لصاحب البار أقول له فيها: سلفني خمسين جنيه… ورحت باعتهاله مع الجرسون، بعد شوية جالي واحد شكله زي بتوع العلاقات العامة وقال لي: – بس انت ماتعرفوش وهو مايعرفكش. قلت له: – وايه يعني افرض أني متوسم فيه مساعدة الناس.. فراح ماشي..». وإن فرغت جيوبه سيعود لأمه ويحصل علي خمسين جنيهاً أخري وينزل إلي بارات الظاهر والفجالة.. فضلت أشرب في سوائل غريبة وسم هاري وأناكف في خلق الله حُثالة المجتمع لحد الساعة ما بقت واحدة ونص صباحاً.. قمت.. (..) طلع في مخي السكران اني اروَّح مشي..»، وسوف نصحبه في رحلة عودته من الظاهر إلي مصر القديمة، بما يصحبها من هذيانات وهلاوس.. «الساعة أربعة ونص دخلت بيتنا ونمت بهدومي زي الحمار..». إن «حسين» – أو «حسني» كما يدعوه عارفوه – في أزمة، فهو متبطل منذ عاد من الأردن، وقد أوشكت نقوده علي النفاد، وهو يفكر في طريقة يستخرج بها جواز سفر جديداً ويبحث عن فرصة عمل في السعودية، ومن ثم فليس أمامه أو وراءه شيء سوي أن يشرب الخمر و«يضرب بانجو» ويدخن الحشيش في قهوة شارع الصحافة ويتحكك بالنساء!

وكثيراً ما تردك مادة هذه المونولوجات إلي صور مألوفة في أدبنا الحديث. واكتفي بمثالين: في هذا المونولوج نفسه ينقل إلينا الراوي صورة أصولها عند نعمان عاشور، ويردنا مونولوج تالٍ إلي نجيب محفوظ. هذه الصورة الأولي: حسين يدخل محلاً لتناول قطعتين من الجاتوه..» وأنا جوه واقف في المحل استرعي انتباهي بنت صغيرة.. واقفة بره المحل.. لازقة وشها وعنيها ومناخيرها في القزاز بتبص علي الجاتوهات بانبهار تام.. عنيها فيها رغبة غير عادية انها تدوق أي حتة جاتوه…».

 وهذا أصل المشهد عند نعمان: يحكي الرسام عزت أحد أبطال «الناس اللي تحت»: «فت علي شملا.. كانوا عارضين هدوم أطفال وملبسينهم لعروستين في الفترينة، وكان واقف قدامهم طفلين صغيرين، ولدين حافيين من بتوع السبارس،.. البني آدمين المقطعين المبهدلين بيضحكوا للخشب اللي لابس هدوم..». الثاني أكثر صلة بأصله: هل تذكر قصة نجيب محفوظ «دنيا الله» (في مجموعة بالعنوان نفسه صدرت في ١٩٦٢)؟ إن بينها وبين مونولوج الشخصية رقم (٨) أكثر من شبه لافت للنظر: كلا البطلين موظف صغير ضائق بمطالب حياته، يختلس من جهة عمله أموالاً ليست له.. عند نجيب: هو ساعٍ في إدارة حكومية يختلس مرتبات الموظفين لكنه لا ينسي أن يترك مرتب أكثرهم فقراً واحتياجاً، وصاحب هذا المونولوج يقول لنا: «الخزنة في الشركة ورا ضهري وأنا المحاسب المسؤول عنها، وبعد تلات تيام هيتورد لينا شيكات بتلات تلاف.. ها خدهم..»، ثم هما يشتركان فيما يفعلان:

 يصحب كل منهما رفيقته غير الشرعية ويذهب معها إلي الإسكندرية، وإلي سيدي بشر علي وجه التحديد، ويقضي كل منهما أياماً ممتعة في طعام وشراب وجنس، قبل أن تأتي الشرطة للقبض عليهما، نقطة الالتقاء الأخيرة أن كلاً منهما يبدي الدهشة للسرعة التي يتم بها القبض عليهما. هذا نجيب: «.. ولما أخذ يبتعد عن الجامع فاجأه صوت ينادي: «عم إبراهيم» فالتفت مندهشاً بلا إرادة، فرأي جباراً يتقدم منه في ظفر وتشف فأدرك من منظره أنه مخبر فتوقف مستسلماً، قبض الرجل علي منكبه وهو يقول: أتعبتنا في البحث عنك.. الله يتعبك..»، وهذا صاحبنا: «ع الفجر كده سمعت خبط علي باب الشقة.. لقيت السمسار ومعاه أمين شرطة وظابط.. (..) كنت مستغرب قوي.. قوام كده ياولاد الكلب.. دا أنا كنت عامل لهم خمس ست أيام.. ازاي عرفوا؟.. إيه النشاط ده.. إلخ».

«فصول من سيرة التراب والنمل، ٢٠٠٣» يلفت النظر فيها استخدام الراوي للزمن (أرجو أن تتذكر الملاحظة السابقة عن تأثر الكتابة الأدبية بالكتابة للفنون المرئية)، فهي كلها – كما يقول أصحاب السينما – رجعة للماضي أو «فلاش – باك Flash-Back»، تبدأ بنعي بطلها المنشور في ١٩٩٨: «انتقل إلي الأمجاد السماوية الدكتور عزيز بشري فانوس.. إلخ»، ثم تأخذ في التراجع، وتصبح عناوين الفصول المتتالية تواريخ السنوات التي تقع فيها، بدايتها «الموضوعية» في ١٩٤٠ حين تقدم عزيز إلي أخيه الأكبر وأعلنه برغبته في الزواج.. «كانت قد مضت أكثر من عشرة أعوام علي عمله كطبيب في الفيوم، حر في أغلب الوقت، مرضاه من القري المحيطة»،

 وكان في الثانية والثلاثين، اختار له أخوه الفتاة «عايدة»، ابنة عائلة حسنة السمعة في جرجا، تم الزواج في العام التالي، أنجبا «فؤاد» في ١٩٤٥، ثم «فاروق» بعده بثلاث سنوات.

وجه الامتياز الثاني في هذا العمل القصير (تسعين صفحة من القطع الصغير) أن صاحبه نجح في أن يقدم لنا – هو المسلم – عائلة قبطية نموذجية (typical): الأب طبيب ناجح وشخصيته مرموقة والأم درست في مدارس «الفرانسيسكان»، كانت تهوي جمع الصور وقصاصات الصحف وتنسيقها في ألبومات تحتفظ بها كسر من أسرار حياتها الخاصة، وسوف يرث ابنها فاروق هذه الهواية فيجمع قصاصات عن ١٩٦٧ و١٩٧٣، وسوف ترحل باكراً في ١٩٧٧، وسوف تداهم ذرات التراب وأسراب النمل البيت بعد رحيلها. سار فؤاد علي خطي أبيه وشاركه في عيادته قبل أن يرثها عنه، أما الثاني فكان مهندساً، ترد في مستدعياته دائماً مظاهرات الطلبة في ٦٨ ثم في ٧١/١٩٧٢، التحق أثناء عمله مهندساً في كهربة الريف، وحين دارت الأيام دورة معاكسة هاجر إلي لندن، لكنه لم يعمر طويلاً، قضي عليه الإفراط في الشراب. تنعكس وقائع التاريخ المصري المعاصر علي شاشة حياة هذه الأسرة القبطية الهادئة، أفرادها منصرفون إلي همومهم الخاصة لكنهم لا ينعزلون عن الآخرين، بل يقيمون بينهم وبين مَن حولهم علاقات المودة والاحترام المتبادلين.

هذا كاتب مسلم، يقدم عملاً متقناً ومنصفاً عن عائلة قبطية تعيش في هذه المنطقة اللينة من الصعيد الأوسط، يضطرب أفرادها فيما يضطرب فيه المصريون جميعاً، ويصيبهم ما يصيب الجميع من خير وشر.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم