نزل من المنصة، وسط ذهول الحضور و تصفيقهم و صفيرهم. بعضهم راح يطبطب على كتفيه مشجعاً، في حين أطرى عليه البعض الآخر بكلمات التعظيم و التفخيم : عبقري، مذهل، رهيف، مبدع، عظيم، هائل، كبير. وصفوه بالشاعر القدير، الألمعي، المخضرم. حتى أنه سمع أحدهم يطالب بأن يقام له تمثال بجوار تمثال بدر شاكر السياب على ضفة شط البصرة. كان يظن أن كل ذلك يحدث من باب السخرية، و ما هي إلا دقائق، حتى ضجّت القاعة باللغط، و صار الكل يتحدث عن تلك القصيدة العجيبة. فأحس الشاعر العجوز، بينما هو يتلمس طريقه وسط الحشود، بخيلاء ديك نكح دجاجاته العشر للتو و خرج ليستعرض على هوائي التلفاز، شامخاً بعرفه، نافشاً ريشه من الشبع و السعادة.
و بينا هو كذلك، و إذا بأحد المحررين الثقافيين اللجوجين يعترض طريقه، و يطلب منه إعطاءه القصيدة التي ألقاها، لينشرها في جريدته. عندئذ، انتابت الشاعر فرحة طفولية غامرة، فهذه هي المرة الأولى التي يطلب منه أحدهم قصيدة لنشرها، هو الذي طالما شعر باللا جدوى من وقوفه لسنوات عديدة على أبواب مكاتب الصحف من أجل نشر إحدى قصائده. و لم يمضِ المزيد من الوقت، حتى أحاط به محررو الصفحات الثقافية الآخرون، و شرعوا بالتودد إليه لكي يحصلوا على نسخة من قصيدته الصمّاء. لكنه كان يعرف إلى أي حدٍ سيكون الموقف مضحكاً و كاريكاتورياً إذا ما أعاد مشهد الصمت الذي افتعله على المنصة. فأنّب نفسه قائلاً في سرّه :
” حسناً.. هذا ما لم أفكر به ! ”
و كما لو أن ثمة صمت يقبع هناك، دس الشاعر العجوز يديه في جيوبه، وراح يفتّش فيها، لكنه لم يجد سوى الثقوب التي طالما عبّرت عن إفلاسه المزمن و فقره المدقع.
وسط كل هذا الضجيج، استطاع الشاعر أن يستل نفسه من بين الأجساد المتعرقة و الأيدي الممدودة التي كادت تخنقه. فعل ذلك بصعوبة وغادر القاعة مسرعاً إلى البيت، و كل ظنه أنه تخلّص من تلك الورطة. لكنه اكتشف في منتصف الطريق، حين التفت وراءه، أن جيشاً من الصحفيين يتبعونه، لاهثين كعادتهم خلف كل شاردة و واردة، يسألون عن اللقيط من هو أبوه، و كانوا يتدافعون فيما بينهم من أجل الحصول على السبق الصحفي، فقد ذاع صيت القصيدة الصمّاء و وصل إلى أبعد مما كان يطمح إليه طوال عمره الفائت، وهو مكتب أحد محرري الصحف الأجلاف.
و مرة أخرى، استطاع الشاعر الستيني التملّص من أولئك الصحفيين المزعجين، و وصل إلى بيته بشق الأنفس. وجد زوجته بانتظاره هناك، و قد تورّد وجهها و تلاشت منه صفرة الفقر و شظف العيش. عانقته قائلة :
” سنصبح أغنياء، أليس كذلك يا زوجي العزيز ؟ ”
لم يجد الشاعر ما يرد به على تلك الزوجة، التي كانت قد سمعت عبر المذياع أن شاعراً ابتدع قصيدة عظيمة لم يسبقه إليها أحد، و صارت تعلم الآن أن صاحب هذه الدرّة الشعرية العظيمة هو زوجها.
” أرجو ألّا تنكر يا زوجي الحبيب ” قالت له : ” أعرف أنك كتبت تلك القصيدة التي ستدر علينا الكثير من المال. سمعت ذلك في الأخبار ”
“لكني لم أكتبها يا امرأة ! ” قال لها الشاعر بنبرة يائسة ومحبطة : ” أنا صمتّ فحسب.. صمتّ!”
و حين لم تفهم المرأة ما قاله، مثّل المشهد نفسه الذي سبق و أن أداه على المنصة، فعلمت أن لا خير يرتجى من تلك القصيدة، و راحت تندب حظها لأنها تزوجت من شاعر فاشل و معدم مثله، و ليس بقالاً أو حداداً أو حتى عامل تنظيف.
لم ينم الشاعر المسكين في تلك الليلة. كان يتقلب في فراشه كسمكة على اليابسة، و يلوم نفسه، و يلعن الفكرة التي قادته إلى الوقوع في هذا المأزق. و لم يزل كذلك حتى أشرقت شمس اليوم التالي، فارتدى ثيابه وخرج من البيت ليُفاجأ بمجموعة كبيرة من الناشرين والعاملين في مجال الاستثمار الثقافي و الفني. هكذا تكالبت على الشاعر عشرات العروض من قبل دور النشر لطباعة قصيدته الصمّاء و تسويقها. في حين أبدى العديد من أرباب المسارح رغبتهم في تمثيلها على خشبة المسرح، فضلاً عن شركات الانتاج الفني التي سعت بشدة إلى الحصول على حقوق تحويلها إلى قصيدة مغناة.
لم يجد الشاعر وهو يتلقى كل تلك العروض سوى أن يحك رأسه و يطلب مهلة كافية للتفكير و اختيار الأنسب له. و ما أن انصرف الجميع حتى دخل إلى البيت و بدأ بالضحك. راح يقهقه بعلوّ صوته، و لم يكن يعرف في حينها ممن و على من يضحك، على نفسه أم على هؤلاء الحمقى الذين يريدون طباعة الصمت في كتب، وتحويله إلى مسرحيات وقصائد مغناة.
” و من يعلم ” قال وهو يضرب على فخذيه و يضحك : ” ربما يأتي أحدهم غداً و يعلن عن رغبته بشراء حقوق تحويل الصمت إلى السينما ! ”
و كما لو أنه لم يفعل ذلك منذ سنوات، استمر الشاعر العجوز بالضحك، فظنت الزوجة أنه جُنَّ. ضبت ثيابها في بقشة وغادرت البيت مسرعة، في وقت كان زوجها الشاعر قد انتقل من الضحك إلى البكاء، و من البكاء إلى الصمت. قضى النهار و هو على هذا الحال، مستلقٍ على سريره في غرفة النوم، محدقاً بالسقف، بعينين غائرتين بالكاد ترمشان. كان يفكر بحل لمعضلته عندما سمع جلبة في ساعة متأخرة من الليل. لكنه لم يتحرك من مكانه. وحين ازدادت الجلبة ظن أن ثمة لص يحاول فتح الباب. فقال مع نفسه :
” هذا ما كان ينقصني ! ”
وكان حدسه في مكانه، فها هو الآن يسمع خطوات ذلك اللص تقترب، وإلى أن رفع رأسه كان باب الغرفة قد فُتح على مهل وأطل من وراءه رأس ألبسه صاحبه جورباً نسائياً شفافاً. ولكي يوفر عليه عناء البحث عن شيء ذي قيمة، قال الشاعر للص :
” عزيزي اللص، أرجو ألا تتعب نفسك، فليس ثمة شيء في هذا البيت يستحق السرقة. اذهب إلى حال سبيلك أو أبلغ عنك الشرطة ”
وفعلاً، أغلق اللص الباب وغادر. لكنه سرعان ما عاد ليطل برأسه من جديد قائلاً :
” أنا أعرف أنكم، معشر الشعراء، كذابين. لهذا، أنصحك بأن تصدق معي، افعلها لمرة واحدة في حياتك وأخبرني عن مكان القصيدة “
فقال الشاعر، وقد اصطنع قهقهة ضئيلة أراد منها السخرية :
” وإن لم أعطك إياها ؟ ”
” حسناً ” رد اللص بعد أن دخل إلى الغرفة وأوصد الباب خلفه : ” سأنتزعها منك بالقوة ”
فقال الشاعر :
” فليكن، أمامك ثلاثين ثانية لتنزعها. تفضل.. هاك ! ”
اقترب اللص من الشاعر الذي ما زال مستلق على فراشه، وقف على مقربة منه وقال بلهجة تهديد ووعيد :
” لا تتذاكى عليَّ أيها الشاعر العجوز، كل العالم يتحدث عن قصيدتك العظيمة، وإن لم تخبرني أين تخبئها، سأغمد سكيني هذه في خاصرتك ! ”
” نعم ” رفع الشاعر رأسه قائلاً : ” وهكذا لن تحصل على شيء ! “
” هكذا إذن ؟ ” أردف اللص بعد أن جلس على طرف السرير، عند قدمي الشاعر، وقال بنبرة محبطة ومليئة بالخيبة : ” يبدو أنك في ورطة يا صديقي الشاعر ”
إلا أن الشاعر لم يقل شيئاً. فقد شبك أصابع يديه على صدره، وعاد ليحدق بالسقف، قبل أن يغلق عينيه ويغفو. رأى نفسه في المنام على شاشة تلفاز وهو يمثّل مشهد المنصة في أحد الأفلام الصامتة. كان فيلماً قديماً من زمن الأبيض والأسود، وكان هو يرتدي ثياب وقبعة شارلي شابلن، وبعد أن انتهى المشهد انهال عليه الجمهور بالأحذية والطماطم والبيض الفاسد.
استيقظ الشاعر من حلمه فزعاً، متعرقاً وينادي على زوجته. تذكر أنها غادرت البيت، وأن ثمة لص يحمل سكيناً كان معه في الغرفة. افترض أنه رأى حلمين في الوقت نفسه، وحاول النهوض لكنه لم يستطع. ألفى نفسه وحيداً مع الصمت المطبق من حوله، الكثير من الصمت الذي لم يستطع أن يعبّ منه ورقة صغيرة كان بإمكانها أن تجعل منه ثرياً وسعيداً بقية حياته.
عندئذ، لفظ الشاعر أنفاسه ومات.
مات بصمت.