عاطف محمد عبد المجيد
منذ أن يولد، تولد ﭽيناته وكروموسوماته الوراثية وهي مُحمّلة بحنينٍ غريب إلى كرسي السُّلطة، إذ تهفو مَقعدته إلى هذا الكرسي، تحديدًا، وليس إلى سواه.إذن ثمة أمر غريب!
مبكرًا يفكر في الكرسي الذي سيحط رحاله فوقه، ومِن فوقه ينظر شزرًا إلى أفراد رعيته أيًّا من كانوا، معتبرًا إياهم كائناتٍ حقيرة من الدرجة العاشرة، لا يساوون قشرة بصلة في سوق الكائنات الحية والميتة وسواهما.
هكذا ينظر إليهم، ثم تأتي في ما بعد معاملته لهم.معاملته التي لا فرق بينها وبين معاملة إقطاعي ” مُحْدثُ نعمة ” لا أصل له، لمن كانوا يخدمون في عزبة والده المرحوم!
وشيئًا فشيئًا..يحاول أن يسلبهم، هم رعاياه، كل حقوقهم في هذه الحياة مُحوِّلًا اتجاه كل ما هو من حقهم أن يؤل إليهم، إلى قاع كِرْشه العميق إلى أقصى حد، الذي يزيد اتساعه بازياد ما يُلقى فيه من أشياء.
إنه السلطوي الذي ما إن يُدْركْ، يُدْركُ أنه يفتقر إلى مؤهلات عديدة ومواهب شتى حُرِمَ منها ولهذا تنمو لديه وفيه تطلعاته وطموحاته إلى سُلطة أو سُلطاتٍ تُكمل لديه ما ينقصه، مُحْتميًا في حصانتها الغجرية من كل شيء، مُتخذًا إياها دَرْبًا، على مقاسه، للوصول إلى نفوذٍ وجاهٍ يصنع بهما ما يريد، مُشيّدًا مملكته الهشة على أنقاض رعاياه، مالئًا أمعاءه الغليظة من قوت رعيته الثكلى، تاركًا لها، تفضلًا وكرمًا حاتميًّا منه، الفتاتَ وربما ما هو أدنى.
هكذا يولد هذا السلطوي فقيرًا فقرًا مدقعًا، أبيض الأيدي من كل شيء ” لا أقصد نظافة اليد ولكن أقصد أنه أبيض آخر حاجة “.لذا تتبلور بوصلته الشيطانية وتتجه عقاربها إلى قارة السلطة دولًا ودويلات، التي عبر امتطائه لظهر جوادها سيحقق ما لم يستطع الآخرون أن يحققوه من أحلام وأمنيات، على الرغم من امتلاكهم لكل مقومات النجاح في ذلك المجال. يعزف مقطوعته السلطوية منفردًا، مستخدمًا عصاه الثعبانية التي يسمح لها آخرون، يسامحهم الرب، بأن تفعل ما تريد.
من هنا تهفو روح السلطوي إلى عرش السلطة وكرسيها المريح الذي يجلس عليه فيشم رائحة نعيم الجنة من بعيد.وما أن تستقر مقعدته الغليظة والثقيلة على جلد الكرسي الذي أُعِدَّ خصيصًا لهذا الغرض ” محتويًا على أجود أنواع الغراء الذي لا أمل في فصْلِ أي مُلْتصقيْنِ به أبدًا”.
يجلس فوق الكرسي فتنغرس مقعدته في حَشْوهِ فيصبحان واحدًا، وبهذا لا يتمكن أحد من انتزاعه منه سوى واحد ” ودائمًا ما يأتي متأخرًا على أمثال هؤلاء وهو عزرائيل الموت! “
يصل السلطوي إلى السلطة / إلى ما كان يتمنى، بعد مروره على كل الطرق التي توصل إليها، ثم يقوم بتجميع حاشية تبني خيامها بالقرب منه، وتعيش حول حوض مائه العذب الرقراق وتظل مُلازِمةً له، مُلازَمةَ النقاط لحروفها، ما لزم الكرسي. ينتقي السلطوي حاشيته على مقاسه تمامًا، مُفضَّلًا مَنْ هم دونه في العقل والعقلية ولا يضر إن كان لا فرق بينهم وبين البهائم الرُّتّعِ، طالما يُجيدون التصفيق وقول آمين خلف إمامهم!
يختار السلطوي هؤلاء بهذه الصفات لسببين: أولهما أنه ضحل التفكير، لذا يُفضِّلُ مَنْ هم مثله أو دونه، والسبب الثاني أنْ يضمن ولاءَ هؤلاء له وطاعتهم العمياء لكل قراراته الغبية، مُنفذين له ما يطلبه منهم من دون أن يسألوا لمَ ولماذا!
بعد ذلك تكتسب هذه الحاشية صفةً أخرى وهي تزيين وتجميل كل ما هو قبيح من أعماله في وجهه كي يشعر بالرضا تجاههم ويُدْنيهم منه أكثر.ما أحلاها من حاشية تجعل الكون بكل ما فيه جميلًا في عينيه، إنها قادرةٌ قُدْرةَ ربِّ موسى وفرعون على جعل أُمِّنا الغُولة في جمالِ وحُسْنِ وروعةِ وأنوثةِ مارلين مونرو!
وعلى الرغم من كل هذا الهيلمان الذي يحيط السلطوي نفسه به، إلا أنه يمشي لا واثق الخطوة، بل مرتعشها، خشية أن تأتيه رصاصة طائشة تُنهي حياته وملكه الذي ما أوتي أحد مثله.وعلى الرغم من ألبوم الصور الوردي الذي تلتقطه له عيون حاشيته، إلا أنه يثق في قرارة نفسه أنه مُقصر في حق رعيته غير أنه كثيرًا ما يوهم نفسه بغير ذلك..لقد قدّم لرعيته ما لم يقدمه غيره، وما الذي يقدمه بعد كل هذا وهو لا ينام لا ليلًا ولا نهارًا ساهرًا، يا عيني، على راحة مواطنيه ورفاهيتهم لكنهم، ويا لنكرانهم للجميل، لا يُحدّثون بنعمة ربهم عليهم، وأفضلها أنْ جعل حاكمهم كهذا الحاكم العادل الذي لم يترك واحدًا من مواطنيه، إلا وسأله على طريقة عفريت الفانوس السحري: شبيك لبيك أنا بين إيديك..ماذا تريد!
إذن ماذا يفعل، يا هذا، بعد أن صنع لمواطنيه من الفسيخ شربات؟!
هكذا يتوهم ذاك السلطوي الذي يرفع رأسه لأعلى، وإن استطاع أن يزحزح السماء عن مكانها لفعل ليرفع رأسه أعلى وأعلى، كبْرًا وغطرسة.
يمشي منتفخًا بعد أن أيقن، زورًا وبهتانًا، وبفعل غبائه هو، أو بصنيع حاشيته، أنه القائد الفذ والأوحد، وأنه قد صنع ما لم يصنعه أحد ممن سبقوه، ولن يتسنى لمن سيجيء بعده، ولو بعد مئات السنين، هذا إن تخلى وتنحى عن كرسيه موتًا، أن يصنع ما صنع.
غير أن خطورة السلطوي لا تنبع فقط منه هو شخصيًّا بل تنبع كذلك من الأحراش والحشائش الضارة التي تنبت في مستنقعه وتسمى بالحاشية التي تزين له سوء عمله وتحول سقطاته وأخطاءه بل وخطيئاته إلى بطولات، قلَّ، بل ندُر من يتمكن من القيام بها.
ونظرًا إلى أن الحاشية تستفيد كما يحلو لها من هذا السلطوي الأعمى الذي لم يعد يرى في المرآة سوى إنجازاته المزيفة، فإنهم يحاولون أن يحنطوه في مكانه حتى يبقى ويبقى لهم ما يريدون حتى وإن اضطروا إلى استنساخ بديل له بعد موته، إنه يموت فوق منسأته ويوهمون الناس بأنه لا يزال حيًّا يُرْزق.
وهكذا يحيا السلطوي وهمًا كبيرًا، هو أنه لو تخلى عن مكانه وقام من على كرسيه لتشم مقعدته الهواء وليترك الكرسي ليتنفس لثوان، فإن السماء سوف تقع على الأرض، وأن الكون سيتحول إلى أنقاض، وكيف لا وهو الرب الأعلى الذي يُمْسكُ السماء أن تقع على الأرض!
لقد تسلط فرعون ووصل إلى ما وصل إليه حتى قال أنا ربكم الأعلى، فماذا كانت نهايته؟ لقد بقى لغيره آية وعبرة، غير أن العجيب أن أحدًا من مريدي السلطة لم يستفد من النموذج الفرعوني، بل إن منهم من تعدى حدود هذا النموذج.
لم يَعُد فرعون أيقونة التسلط في التاريخ البشري، بل جاء بعده ممن كانوا يحكمون البشر في العقود الأخيرة، وصنعوا ما لم يفكر فرعون في صنيعه، لكن الغفلة التي أدت بهم إلى هذه المحطة هى نفسها التي دفعت بهم إلى الجحيم، لقد ثارت شعوبهم عليهم بعد أن فاض الكيل بها، وبعد أن كنا نرى هؤلاء المتسلطين يرفعون أنوفهم الضخمة كبرًا إلى أعلى حل بهم الانكسار والذل وباتوا يقولون: ألا ليت ما جرى ما كان!