الاحتفاء بالطبيعة وتشكيل الصورة الفنية في “صهيل الريف” لأحمد بن شريف

صهيل الريف
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. محمد المسعودي

كيف يتمثل الاحتفاء بالطبيعة في ديوان “صهيل الريف”؟ وكيف يعمل هذا البعد الدلالي على تشكيل الصورة الفنية في نصوص الديوان؟ وكيف يسهم في بناء متخيله الشعري؟ وكيف يتمكن من تجسيد رؤى الشاعر لما يجري حوله؟

من هذه الأسئلة سننطلق لقراءة المجموعة الشعرية الأولى للأديب المغربي- ابن الحسيمة- أحمد بن شريف، وهي عمله الإبداعي الرابع بعد مجموعتين قصصيتين: الفئران المكعبة، وشموس طنجة؛ ورواية: قلاع طريس. وإن كان الأديب قد بدأ، مثله مثل عدد من أدباء جيل الثمانينات، شاعرا غير أن الكتابة السردية أخذته إلى فتونها وجنونها، ولكنه على الرغم من ذلك ظل محافظا على نزغة الشعر ثاوية بين أعطاف أعماله السردية، وها هو يؤوب إلى الشعر مُخرجا باكورته الأولى إلى القراء ليطلعوا على تجربته في كتابة القصيدة.

وعودة إلى محور قراءتنا في الديوان، ننطلق من أمثلة نجلي من خلالها كيفية احتفاء الشاعر بالطبيعة محاولين إبراز كيفية إسهام هذا البعد في تشكيل الصورة الفنية في نصوص الديوان، يقول الشاعر:

“.. هناك، نرتشف نخب السماء التي عكست لوننا.

يقرأ طائر الوروار رسائل بديعة،

في رسم جديد للعنة الحقول.

نمضي ممهورين بلون زهر اللوز،

وعلى مرمى القبائل تنتحب السواقي.

نحن الآن موال ينزل إلى القرى..

يفتش عن مقهى الملوك..

نمتطي معا صهوات الزمن.

نبيت الليل قابضين على الجمر.

في المرافئ الزمنية نقيم أعراس زهر اللوز.

وترسم قرى الريف، وجنات ومآقي لأمراء الصيد البري،

واعدة بنشر السنابل في الحقول..” (صهيل الريف، ص. 11)

بهذه الغنائية العذبة التي تتسرب من الاحتفاء بالطبيعة واتخاذها منطلقا لبناء المتخيل الشعري يشكل أحمد بن شريف صوره الفنية. وهكذا نرى في المقطع كيف تحضر الطبيعة بثقلها: السماء-طائر الوروار-الحقول-زهر اللوز-السواقي-السنابل.. وغيرها من معطيات ترتبط بهذا البعد. وهكذا نرى هذه العناصر تؤثث لشعرية تحتفي بالحياة، بأعراس الطبيعة (أعراس زهر اللوز)، وبانتشار السنابل في الحقول. وترتبط ببشارة وأمل في المستقبل. ومن خلال ما يشكل عناصر الصورة في مجازاتها الشعرية المحلقة نرى الشاعر يعبر عن لحظتين:

-عن ماضي عرف لعنة الحقول، وعن بشر قابض على الجمر، وعن أناس مترحلين ينزلون القرى يحملون موالهم المحرض، لتستفيق هذه القرى وتغير واقعها، والحلم بالآتي نصب أعينها.

-عن زمن لاحق، هو حلم بوعد آت بالاخضرار والازدهار والفرح.

وبهذه الشاكلة تنبني الرؤية الشعرية عن طريق هذا التشكيل الفني الذي يستمد مقوماته من الطبيعة وعوالمها، ويوظفها توظيفا ينبني على التضاد والتعارض ليجسد اللحظتين الزمنيتين اللتين يصورهما الشاعر.

         وفي مقتطف آخر دال من إحدى قصائد ديوانه يقول الشاعر:

“..صوب نهايات الشفق المضمخ

بلون الصخر القروي أمضي كي أحبك

لست حافظا لورق التوت المعلق

بين الوادي والقصيدة..

لون الشجر الأبي الذي أحمله

في مقلتي يستودعني سحرا

وأنت.. ترقصين على إيقاع المطر

يناديك الصنوبر والوجد والمدى

المعلق في أهداب الجبال التي

نحبها..” (صهيل الريف، ص. 22)

هكذا يقترن حب المرأة بحب الطبيعة في هذا النص، وهكذا يتحد لون الشفق الممتزج بلون الصخر في القرى بفورة الهوى المتقد في الذات، وهكذا يمتزج السحران: سحر الحب وسحر ألوان الشجر، ورقص المرأة بإيقاع المطر، ونداء الصنوبر والمدى. وبهذه الكيفية يصير الاحتفاء بالحب توحدا بالطبيعة وتجذرا فيها. ومن هنا نرى كيف يتشكل متخيل القصيدة انطلاقا من توظيف عناصر الطبيعة بما يخدم رؤية الشاعر، وبما يعبر عن ذاته، وعن رؤيته للحب وشعوره به. وبهذا، فإن الاحتفاء، هنا، بالطبيعة هو احتفاء بأسمى قيمة في الحياة: المحبة.

وفي نص آخر، يقول أحمد بن شريف:

“مساءات مارس يتلبسها

نور القمر الأثيل..

وفي انتظار حقول القمح،

ترقص السنابل..

آهات الأودية تلج البيوت

مهدهدة الطفل المرتجف فينا..

ينهض الحجل من وهاد الغابات

ناشرا الأفراح في الأرض..

يطير الحجل في البراري مساء

فتطير معه قلوب الصبايا..

غير عابئين،

بالمطر والريح، نمضي ثم نمضي..

حاملين ريش العصافير..

متطلعين لشمس مارس..” (صهيل الريف، ص. 45- 46)

يحتفي النص بالفرح الذي يعم القرى في فصل الربيع، شهر مارس، الذي يحمل ملامح التغير في الطبيعة وفي أحاسيس الناس ومشاعرهم. إن القصيدة تسترجع لحظة من لحظات الطفولة، وتلك الهدهدة المرتجفة في الوجدان، وذلك الخفقان في قلوب الصبايا الحالمات مع أحلام الطبيعة برقص السنابل، وفرح الحجل، ونور القمر. ومن خلال هذه العناصر وغيرها من مكونات النص يشكل الشاعر صورته الكلية التي تزينها صور جزئية صغرى، وتجعل منها لوحة فنية معبرة عن احتفائه بالتحول في الطبيعة، وفي تفاعل الإنسان معها، فها هنا نجد الفرح يجعل الشباب والصبايا غير عابئين بمطر مارس وريحه، وهم يعيشون لحظة تبدل الطبيعة وتجدد الحياة فيها، فيطيرون مع طيران الحجل في الغابات ويحملون ريش العصافير منتظرين شمس مارس الدافئة الباعثة للحياة. ومن خلال ما سبق نلمس كيف يوظف الشاعر الطبيعة بما يخدم رؤيته الشعرية، وبما يعبر عن ذاته.

ويصور الشاعر في نص آخر مشهد رحيل العصافير، وهجرتها بعد إقبال الخريف، وتحول الطبيعة نحو فصل آخر يعرف مواتها وانكماشها. وعلى الرغم من أن هذا المقطع يتحدث عن زمن تمسه يد الحزن والكآبة إلا أن اهتمامه بالطبيعة واضح، واحتفاءه بالحياة جلي. يقول الشاعر:

“الأرض خرائط فارغة، تأتي على ذكرها العصافير المهاجرة..

وها هنا، يذرف السنونو الدمع، فتنهض النواعير من صمتها..

قبائل السنونو، مرتحلة، أبدا عبر لون الورد،

نازحة عن جنون شجر الرمان..

تمضي مسيجة بالأودية وأزهار الدفلى.

 

أسأل الروح العاشقة عن قلق الصلصال،

عساي، أنهض وأرسم أفقا لأرض،

لا تنهض إلا لتسقط..” (صهيل الريف، ص. 58)

هكذا يتمثل الشاعر تحولات الأرض التي تنهض ثم تسقط، وهي تشهد تحولات الطبيعة وتحولات الحياة، فالشاعر، أيضا، يتغيا التحرر من قلق الصلصال ليتحرر ويرسم أفقا للأمل والحياة. وبهذه الكيفية نلاحظ أن الصور الشعرية تعبر عن رؤى الذات الشاعرة، وعن المكان (الريف وقراه)، وعن الفضاء والبيئة التي يعشقها الشاعر ويعشق كائناتها فتصير جزءا لا يمكن الاستغناء عنه في بناء متخيله وإيصال مراميه.

وقبل أن نختم هذه القراءة في ديوان “صهيل الريف” نقف عند هذا المقطع الأخير المأخوذ من آخر قصيدة من قصائد الكتاب، يقول أحمد بن شريف:

“تمر السحب مسرعة ونحن حيارى،

راجين الله أن تدنو السماء منا

أو تنكسر مرايا قدام القرى…

نبتعد عن أسمائنا، لترحل سحناتنا..

نحو أقبية القصور الطينية.

نرسم أعشاش الطيور التي

أمعنا في حبها،

فيميد الليل عن سماواته المنهكة

يخرج النهار جريحا، عند شروق الشمس..

فينزل الغمام إلى القرى،

نشيدا وفاكهة” (صهيل الريف، ص. 74)

هكذا تحضر الطبيعة، والاحتفاء بها إلى آخر مشهد، وإلى جميع الصور التي تشكله، في الديوان. وهكذا، أيضا، تتصادى هذه الصور وتتقاطع في أبعادها ورؤاها مع ما رأيناه سابقا. فها هنا وعد بارتفاع نشيد بين القرى احتفاء بالخصب والنماء، وتطلع إلى شروق شمس جديدة تخرج من جرح النهار، وهنا أمل في حياة تتجدد وليل يميد ويتراجع. وبهذه الكيفية نرى مدى استمداد الشاعر من الطبيعة ومدى ارتباطه بها في تشكيل متخيله الشعري وبناء رؤاه الفنية وأبعادها الدلالية.

انطلاقا من كل ما سبق نؤكد أن الشاعر أحمد بن شريف شكل عناصر متخيله، وبنى عناصر صوره، محتفيا بالطبيعة، متخذا منها منطلقا للتعبير عن ذاته، وعن بيئته، وعن تفاعله ما حوله. وهكذا كانت شعريته هذه احتفاء بالحياة، واحتفاء بالطبيعة وبجمال الريف وتحولات الحياة في القرى وما يحيط بها. وبهذه الكيفية صنع الشاعر عوالمه الشعرية العذبة على منوال يتقاطع فيه الرومانسي بالواقعي، والذاتي بالموضوعي، في أفق محبة الحياة ومحبة الجمال.

……………….

*أحمد بن شريف، صهيل الريف، منشورات أبعاد متوسطية، طنجة، 2020.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم