أحلام اليقظة

محمد محمد مستجاب:  لا أعرف المتاجرة بالأدب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
محمد محمد مستجاب دعك مما في عقلك الآن، وحاول أن تتذكر المراحل الأولي من عمرنا ( أيام أن كنا نحب الفتيات ليتزوجهن الآخرون ) اقصد - أيام أن كنا نلعب في الحارة أو في الشارع ونزعج الجيران بمضايقاتنا الصبيانية، وهي تلك الأيام التي كان فيها القمر يبتدر ويتهلل ويستدير في عيون حبيباتنا، تلك التي ننتظرها بارتباك وشوق كبير على ناصية الشارع أثناء عودتها أو ذهابها إلى المدرسة كي نلقي إليها بكلمة أو ورقة بها بعض ما في قلبنا ناحيتها، وكي نأخذ منها نظرة تريح قلبنا الموجوع الغلبان.

وفي تلك الأيام بالذات، كان يحلوا لي الذهاب لسينما الأهرام القريبة من منزلنا، وما يكاد ينتهي الفيلم حتى أسحب نجمته وأعود بها للمنزل، مستترين – أنا وهي – بالليل والقمر والحكايات والرغبات، كي تملأ فرشتي لهيباً وإزعاجا وقلقاً، وكان خوفي الأكبر من أمي، والتي لن تعلم ما أمر أو أحلم به، وكل ما سوف تفعله ان تصرخ وتلم الدنيا حولي: الواد كبر وعامل فيها راجل.. جاك وكسة مش لما تعرف تفتح بيت، لكني في تلك الأيام صممت أن يصبح لي دور بعيداً عن اعتراضات وكلمات أمي، وكنت ابحث في الشاشة عن من ترافقني في تلبية رغباتي وأحلامي، وكانت أفلام الأبيض والأسود هي المسيطرة عليّ.

فلا انسي – فاتن حمامة – في فيلم الباب المفتوح: عندما كانت ممزقه بين محمود مرسي بمستقبله وعقليته وصالح سليم – الدون جوان – بتهوره وقدرته على التعبير، لكن فاتن ظلت بالنسبة لي في إطار الحب الأخوي، والذي ينتهي بأن تبحث لها عن طبيب كي يعالجها من مرض في القلب مثلما فعلت معي في فيلم أيامنا الحلوة، حتى في قوة تحررها عندما أعلنت الثورة على أبيها وعلى جميع الأوضاع الاجتماعية ووقفت بجواري وأنا اتهم أبيها بأنه هو الذي سرق الأرض واغرق المحصول والعمال في صراع في الوادي وفي الميناء – ولا زالت كلمة بطاطس وهو لقبها في الفيلم يملأ أذني – لكن فاتن لم تكن ترغب في المغامرة معي أكثر من ذلك، دائماً تقدم لي النصيحة: اسمع الكلام واشرب اللبن ونام مبكرا وذاكر دروسك، فقررت أن أدوس على قلبي واتركها لحالها ولنصائحها ولعمر الشريف، فليست الحكاية ناقصة!! فأنا ابحث عن الحب الذي يكسر الدنيا ويملئها بالتنهدات والدموع والرسائل والآهات والتوسلات والشد والجذب، وهذا ما فعلته فترة مع كل من زبيدة ثروت وشادية ومريم فخر الدين ولبني عبد العزيز، ولكنهن كانوا يتركوني ابكي مع كلمات عبد الحليم حافظ التي تواسيني: راح، وضيعته ليه، وفي يوم في شهر في سنة، تهدأ الجراح وتنام، لكن جراحي لم تهدأ ولم تلتئم، فقررت أن أعالج نفسي بطريقتي، وكانت الممرضة التي وقعت في طريقي هي السندريلا سعاد حسني، كانت جميلة وخجلة وشقية وهي تحكي لي عما حدث من أهلها ضد حبيبها، وإنها تقف بجوار حسن المغنواتي ضد القرية التي سوف تقتله كي لا ترتبط به، فحاولت أن اجعلها تتراجع عما يدور في قلبها وترحل معي ونسرح – أنا وهي – في بلاد الله، لكنها كانت ترفض في حب ملائكي رقيق ان اهرب بها في الليل، حيث فشلت المحاولة تحت زحام التقاليد وعيون الليل المفتوحة، فأعلنت لها أنني زعلان منها وأنه ليس من الواجب أن ترفضي بهذا الشكل، فجلست وغنّت لي: خلى بالك من زوزو، ويا واد يا تقيل، فصممت أن أترك سعاد وشقاوتها، وما لبثت أن بدأت الأخبار تأتي بين الحين والآخر، وهي تحمل جسد سعاد وقد أصبح نهباً وهدفاً لكل الرجل، وهذا ما فعلته في شفيقة ومتولي، لكني تحت تقاليد التفكير البكر والرجولي قررت إنقاذها من الطريق الذي تسير فيه، وبالفعل نجحت في اصطحابها ذات ليله، لكنها رفضت أن تصعد معي السلم، ووقفت انظر في عيونها وتطل في عيوني ثم ابتسمت وربتت على كتفي ومسحت شعري بيدها وقالت لي: أنت لسه ما شفتش حاجة في الدنيا، وبكره تتعلم، وعادت سعاد من حيث أتت وتركتني متوتراً وقلقاً لا اعرف ماذا أفعل؟

وبعد فشلي الموُجع من السندريلا، نصحني البعض بالسفر وتغير الجو بعد هذا الإرهاق الذي سببته ليّ فاتنات السينما، وعلى الطريق قابلت هدي سلطان، لم تقابلي بل أنني وجدتها واقفة على حافة الطريق وهي ترتدي فستان أحمر ضيق وصدرها يكاد يقفز منها، وكانت تغني لصابر – رشدي أباظة، ومنذ أن رأيتها وكأن سهم طائش أخترق عقلي وقلبي، فأغمي عليّ مما فعلته هدي بي، كانت هدي تغني وتتحرك على الطريق في أنوثة ورغبة لم تشاهدها السينما من قبل، وأثناء غيبوبتي نبهني الطبيب أنني لن أستطيع أن أنافس رشدي أباظة على هدي والتي ترغب فيه، كما أن زوجها – وحش الشاشة فريد شوقي – قد ضربها على ما فعلته على الطريق وكاد الأمر يصل إلى الطلاق.

كان من الواضح إنني أسير في الطريق الخطأ، لكن الحلم بأن يصبح لي فاتنتّي الخاصة قد قلب كل حياتي وظل مسيطراً عليّ، وما كدت أتداوي وأواصل رحلتي حتى وجدت تحية كاريوكا تسحب الخروف – شكري سرحان – في شباب امرأة، كي تفتح له عينيه على الدنيا وحلاوتها ورغباتها، ولم أكن أستطيع الوقوف أمام قوة وحدة تحية، فاكتفيت بالتلصص عليها من ثقب الباب، لكنها اكتشفت ما افعله، فجذبتني من أذني وأمرتني بالانصراف والعودة إلى أمي وهي تقول لي: ياله يا واد يا محمد أرجع لامك قبل ما تدور عليك، فتركتها – وأنا ادعوا عليها وعلى السعير الذي أعيش فيه – كي تنفرد بشكري سرحان وهي تقدم له الحمام والرغبة والدمار.

لكني – وخلال كل ذلك – كنت ابحث عن حبيبتي، الفاتنة، التي يرفضني أهلها، فأصمم على أخذها بالقوة، مهما كانت الظروف ومهما زادت العقبات، كانت شاشة السينما تمتلئ بالفاتنات التي على استعداد ان تغامر معي وتصعد معي السلم إلى شقتنا وأن تنام بجواري وبين أحضاني، فظهرت نادية الجندي ونبيلة عبيد، ولم أكن أطيق الاثنتين – ولا اعرف لماذا !؟ اسمع أصدقائي والناس يصرخون بما تفعله نادية ونبيلة: بيدهن وصدرهن وفخذهن في اقوي واعتي الرجال، وكيف يقود الاثنتين أمامهن قطعان الرجال إلى ان يصلن إلى أعلى القمم، ثم يجلسن ويتوالى الرجال تقبيل أيديهن وأقدامهن في جبروت امرأة والباطنية والراقصة والسياسي والآخر، وأنا غير مقتنع بهن، كانت حلاوتهن زاعقة، مُرة وغير محببة على النفس، لذلك لم تتعلق بهن النفس أو الروح أو الفراش، وخلال تاريخ السينما المصري نادراً ان تتذكرهن، مثل ماء الفول النابت بدون طعم وبدون ان يشبع أي جوع أو رغبة، وهو الأمر الذي جعلني اعتقد ان واحدة تمثل بفخذها والأخرى بصدرها فقط، وكنت لا اعرف لماذا يتصارع الاثنتين هذا الصراع الكبير ؟ تصرخ نادية: أنا نجمة الجماهير، فترد عليها نبيلة: وأنا نجمة مصر الأولي، كما كانت تفعل روسيا وأمريكا قبل ظهور العولمة والقطب الواحد ، فتركت الاثنتين لجميع الرجال، حيث لم يحققن رغبتي ولم يملئن قلبي حبا أو فراشي رغبة.

وجاءت بعدهن كل من مرفت أمين ونجلاء فتحي، كانتا الاثنتين شيء أخر غير ما عرفتهما، فمنذ الليلة الأولى لم ترضي مرفت أن تصعد السلم وقررت أن تقف بجوار زوجها حتى بعد أن أصبح بدون سلطة وبدون أي مجد أو أموال، وأنا لا أعرف فن الإغواء، فتركتها تدمر حياتها مع زوجها وأن كنت احترمها حتى الآن على هذا الوفاء كزوجة لرجل مهم، ونجلاء كانت صريحة جداً منذ البداية – مع أن شكلها يوحي لك بالعكس – فقالت لي ونحن على باب السينما أثناء خروجنا، سوف اترك لك الحب والأحلام واقترن بالدكتور عادل ادهم في سوبر ماركت، وكان مبررها أن كل شيء أصبح له ثمن حتى المشاعر.

وعاد إلىّ الإفلاس وأصبحت فرشتي باردة وحياتي خاويةً، وكنت ابحث عن من يزيدها لهيباً ودمارا، فظهرت نورا، كانت ترتدي جلباب مقصب ومنديل بترتر، كبنت بلد قادرة على أن تصون وتؤدي رغبات زوجها، كان ذلك في فيلم العار، فالرجل عندها هو كل شيء سواء كان وزير أو مجرم خطير، المهم راحة زوجها، ولا أنساها وهي تعد وتجهز لنا جلسة المزاج، لأنها تعلم أن آخر الليل سوف يعود زوجها إلى حضنها، – وأين حضني أنا يا فاتنات الشاشة!؟ وانتظرها وهي تدعك جسده وتغسل قدميه في آخر أسطورة لسي السيد المصري، حيث أدت الدور ببراعة جعلتني التهمها التهاما لم يفارقني حتى الآن، حيث ظلت نائمة في فراشي احكي لها كل شيء وهي تمسح جسدي بأناملها، وتظل تستمع لي وتضحك وهي تجفف أقدامي ثم وهي تحمل الطبلية وتضع عليها طعامنا الفقير، لكن نورا أعلنت ذات يوم الاعتزال وارتداء الحجاب وترك حضني وأحلامي.

كنت أعلم السماء أن تعاقبي لأنني لم افلح في السيطرة على احدي الفاتنات، وكان شاربي قد بدأ ينبت، وملامح الرجولة تعلوا وجهي وجسدي، وأثناء سيري في الطرقات ابحث عن حل، صدمت بليلى علوي، لم اصدم بها فقط بل أن القدر قد وضعها في طريقي، فجعلتني انسي كل ما مررت به من تجارب فاشلة وأحلام غير محققه، كانت ليلي كاسحة، البطة التي تتأود وتسير الهاويني، الخدود الممتلئة، والنغزات الساحرة، والابتسامة الخجلة، والعيون التي تمتص القمر وتفتته إلى ذرات وحبيبات على كل الكون، البنت المصرية الخجلة المربربة، وأنا أحب الممتلئات، حتى حبيبتي نموذج واضح لها، وليلى ومازالت ( بطة مصرية ) انظر إليها وهي تسير أو وهي تطل في عيونك أو وهي تتنهد، تظل البنوتة المصرية والتي اختزلت وامتصت كل جحيم الفاتنات السابقات.

وقلبت ليلي حياتي، أنوثة طاغية وفتاة رقيقة وعيون متسعة وصدرها المتناسق والذي تستطيع ان تنام عليه وتقرأ رواية الحرب والسلام في ليلة واحدة، ثم بعد ذلك تجلس أمامها وتطل في عيونها كي تحس بالشبع طوال أيام حياتك، وقررت ألا افقدها وألا تضيع مني، وتخترق معي ليلي أي مكان: تسير معي على حافة الترعة، وتلعب معي الكرة، وتركل معي طوب الأرض، وتشتري معي مستلزمات المنزل، وتقف معي في طابور العيش، وتحلق حولي وأنا أجمع التوت من أسفل الشجرة، وتذهب معي إلى المدرسة وتعود وتذاكر معي دروسي، دائماً ليلي معي، برفقتي، احكي لها عن الغد وما سوف افعله لها، ثم اشتري لها بعض اللب أو الترمس ونجلس في ظلال قاعة سيد درويش حيث أكون سعيدا وأنا امسك يدها وأقبل كفها فتبتسم في عذوبة وحنان، ثم أحوط خصرها بيدي فتخبطني في صدري وهي تقول: مش قدام الناس، فاضحك في سعادة وأحك كتفي في كتفها، وتظل ليلي تتجاوب معي، لم تتركني ذات ليلة لأي شخص آخر، تعلم أني حبيبها وأني انتظرها مهما طال العمر وفرقتنا الظروف، وأنني لن أنام ألا بين رموش عينيها، ولن يدفئني ألا حضنها، ولن أنام ألا على أنغام دقات قلبها .

لكن ليلى كان يحلو لها الاختفاء كثيراً، فذات يوم استيقظت ولم أجدها في حضني، فقررت أن ابحث عنها وأستعيدها، فوجدتها تسحب الحمار مع يحيي الفخراني في خرج ولم يعد، وعيونها الغارقة في الكحل تطالبه بعدم العودة للمدينة التي سوف تسحقه، ثم جاءني الخبر المؤلم، ليلي نهشها واغتصبها مجموعة من الأوغاد، هل يمكن ان يحدث هذا بحبيبتي !؟ كنت ابكي وأنا اجري كي ألم واجمع جسدها وأخفيه عن عيون الصحافة ومحققي الشرطة وأيدي الأطباء، واصرخ كيف فعل المجرمون هذا في جسد حبيبتي، كانت ليلي غائبة عن الوعي، وقد بدأ الطبيب يضمد جراحها، لكني صرخت فيه وضربته، وبدأت – أنا – أعالج ليلي وامسح الدموع والدماء من على خدودها المستديرة كي تشرق عليها الشمس، ثم فتحت ليلي عينيها وابتسمت في وجهي وطلبت مني كوب من الماء، فابتسمت، وحلفت لها ان اجعل من هؤلاء الرعاع عبرة أمام التاريخ ولن يكفني فيهم حبل عشماوي، واختفيت يومين كنت خلالها قد جهزت جيشي الخاص للانتقام وقتل هؤلاء الأوغاد، وعندما عدت كانت ليلى قد خرجت من المستشفي كي تقع في ما هو اخطر واشد ألماً، حيث أحبت ابن تاجر الخضراوات والذي ضحك عليها واخذ منها ما يريد وتركها كي تتزوج من الإرهابي الذي جعلها ترتدي النقاب وتخفي جمالها وعيونها، حتى جاء خبر قتله على أيدي رجال الشرطة، لكني قررت أن يكون لي موقف، فسحبت ليلى من يدها وصرخت في المخرج إسماعيل عبد الحافظ الذي لم يعرف أن يحافظ عليها في مسلسل العائلة، وظلت ليلى تسير معي، يدي في يدها، وعيوني في عيونها، حتى جلسنا في ظلال قاعة سيد درويش – والتي دمرتها أيدي التطور والتجديد أيضاً- اطل في عيونها وإلى ابتسامه شفتيها وننتظر القمر ونجومه وهما يشعان في خدودها الحياة والأحلام، وكان القمر يلمع ويتراقص في ظلال عيونها.

حيث أضع رأسي على صدرها البض الناعم الدافئ الشرس، و نتبادل الكلمات والأحلام فتقول: محمد، فأجيب عليها: نعم يا عيون محمد، فتقول: محمد، فأجيب: ايوة يا روح قلب محمد، فتضحك وتخفي ابتسامتها بيدها وهي تقول: بحبك يا محمد .

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم