(مرحبًا بك يا طفلى العزيز.. وحشًا!).. الطفل والعنف فى السينما الأمريكية

أفلام الأطفال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 أحـمد عبد الرحـيم

لا شك أن الطفل الطبيعى المثالى المهذب لا يُنتج دراما، والطفل المعقد العدوانى البذىء يقدم اعتلالًا يتطلب الإصلاح، وهو ما يُنتج دراما. الفكرة أنه فى السينما الأمريكية مؤخرًا، صار الطفل المعقد العدوانى البذىء كأنه هدف فى حد ذاته، ووصوله لهذه “المرتبة” هو غاية الدراما!

إنك تشاهد أفلامًا أبطالها الصغار صور سقيمة لا تنتهى أقل سقمًا، بل تنتصر فى صراعها بأسقامها هذه، دون النزوع إلى فضيلة، أو تعلُّم درس سامى؛ كأن المثالية الأخلاقية صارت غير مرغوب فيها، بل لابد من الثورة عليها، أو – فى أهون الأحوال – السخرية منها!

حتى لو تحقّقت المثالية الأخلاقية للشخصية، فلا مهرب من العنف. وكم من الأبطال الأطفال الذين لا يملكون حلًا لصراع البقاء إلا بالعنف. وفى أحيان أخرى، كثيرة جدًا بالمناسبة، يكون البطل الطفل هو مصدر العنف، ومُمثِّل قيمة الشر، والوحش الذى لابد لقوى الخير أن تقضى عليه، كى تجلب التوازن للعالم، وتنشر السلام فى الحياة!

إذًا صار الطفل، سواء كان من الأخيار أو الأشرار، كائنًا مقاتلًا، يوظِّف قدراته للحرب، ويتعامل بمنطق الأقوى والأخبث، دون اعتبار الكثير من الفضائل. وسواء كان الفيلم كوميديا أو رعبًا، ففى جميع الحالات لابد للطفل أن يملك القوة البدنية أو العقلية التى ستثبت وجوده، وتفرض تفوقه على غيره من الصغار أو الكبار، لكن مع استغلالها على نحو يؤكِّد قيم الوحشية والمكر، ويجعل من البراءة معادلًا للضياع، وسببًا للهزيمة.

لماذا حدث ذلك؟!

راجع أولًا ما يحدث فى الولايات المتحدة من مشكلات اقتصادية واجتماعية، وتفاقم لمعدلات الجريمة، وتعاظم للعصابات المسلحة، وتحقيق شعبها لأعلى نسبة جرائم قتل بأسلحة نارية فردية فى دولة متقدمة، ونيله لقب الشعب الأكثر تسليحًا على مستوى العالم، وسترى أن العنف المترسِّخ كمقوِّم أساسى فى المجتمع الأمريكى من أيام رعاة البقر يتضاعف إلى الآن، رغم ترسانة القوانين، وأبهة “الدولة العظمى”. ومع تسيُّد قيم الحياة المادية، وتطبيع الإنحلال الأخلاقى، ظهر نموذج معتل المثاليات تُلح فنونهم عليه، مُعلية إياه إلى درجات البطولة والتمجيد، رغم انهياره الروحانى وانفلاته الأخلاقى وشراسته السلوكية؛ مثل الشرطى الذى يطبِّق العدالة بمسدسه فى السينما (Dirty Harry أو هارى القذر من السلسلة التى تحمل الاسم ذاته، جون ماكلين من سلسلة Die Hard أو الاستماتة..)، أو مطرب الراب الذى تحض أشعاره على العنف، كما يرتكب الجرائم أو ينتمى لعصابات فى الواقع (بارى أدريان ريس الشهير بـ”كاسيدى”، ناثانيال دوين هيل الشهير بـ”نات دوج”..)، أو المجرم الذى يسحق رجال الشرطة والعصابات معًا كى ينفرد بالسيطرة فى ألعاب الفيديو (تومى فيرستى بطل Grand Theft Auto: Vice City، توماس أنجلو بطل Mafia..)، أو البطل الخارق الذى يفوق الجميع عنفًا، حتى خصومه من الأشرار، فى القصص المصوَّرة (The Punisher أو المُعاقِب، Deadpool أو رهان الموت..)؛ وهو ما ترك أثره الأكيد على شخصية الطفل أيضًا..

الطفل كالوحش المرعب:

فى أفلام الرعب بالسينما الأمريكية، لم يظهر الطفل كمصدر للإرعاب إلا متأخرًا، ومن أوائل الأفلام التى قامت بذلك كانThe Bad Seed  أو البذرة السيئة عام (1956) المأخوذ عن رواية لوليم مارش، عن طفلة تقتل زميلها فى الدراسة، وتقتل جارتها، وتحرق حارس البناية الذى يشك فيها، وبعد أن تكتشف السيدة التى تبنتها الأمر؛ تحاول قتل الطفلة، ونفسها. نلاحظ هنا أمرين يتوافقان نوعًا ما مع المناخ الأخلاقى لأمريكا الخمسينيات، الأول أن الرقابة وقتها طلبت تغيير النهاية بأن تموت الطفلة بضربة برق سماوية، وتنجو الأم من محاولة الانتحار؛ حتى تصبح رسالة الفيلم أن الجريمة لا تفيد، والحياة أفضل من قتلها، والثانى أن ثمة خطًا قصصيًا بالفيلم يحيل شر الطفلة لكونها ورثت من والدها الأصلى – السفّاح المتسلسل – محبة القتل، والفساد الذى لا صلاح له.

باستثناء هذا الفيلم، لم يظهر اهتمام صنّاع أفلام الرعب، المحترمة فنيًا أو الإغراقية الرخيصة، بالطفل كوحش، حتى بداية السبعينيات. لا نعلم هل كان السبب وقتها محاولة للتجديد والتمرد على شخصيات صارت قوالب لابد من كسرها لوحوش رجال أكل عليهم الزمن وشرب؛ مثل دراكيولا، وفرانكنشتاين، والرجل الذئب.. إلخ، أم هى ترجمة لمخاوف جديدة من الطفل باعتباره كائنًا مجهول النوايا، لا يعبِّر عن نفسه بوضوح، أم أن صناع السينما الأمريكية صاروا يكرهون الزواج، وبالتالى الأطفال، ولفرط المسئولية التى تتطلبها تربيتهم، تحوّل “الطفل” فى حياتهم إلى رعب يهربون منه، ووحش يخافون وجوده!

دعنا نَقُلْ إنه فى الستينيات ثم السبعينيات اهتز قدر لا بأس به من القيم فى حياة المواطن الأمريكى؛ فالسلطة يمكن أن تفسد (تورط الرئيس نيكسون فى فضيحة ووترجيت)، والحرب يمكن أن تُخسَر (ڤيتنام)، والرموز يمكن أن تُقتَل (چون وروبرت كينيدى، مارتن لوثر كينج..). لذا، ربما صار طبيعيًا أن تتغيّر وجهه نظر الأمريكى تجاه ثوابت كبراءة الأطفال، وطهر مقاصدهم، وملائكية تصرفاتهم، مما أدى سينمائيًا – منذ بداية السبعينيات حتى الآن – إلى كم كبير، ومختلف الجودة، لأفلام رعب مسخها الأكبر مراهق، أو طفل، أو حتى – صدق أو لا تصدق – رضيع!

سلسلة It’s Alive أو إنه حى (3 أفلام بين 1974 و1987) كانت نموذجًا مبكرًا لذلك، عندما قدمت رعبًا إغراقيًا مع بطل رضيع له أنياب، ومخالب، ويقتل بلا هوادة. فى الجزء الأول، يبدأ الطفل حياته بذبح كل الفريق الطبى الذى قام بتوليده فى المستشفى، ثم ينطلق فى رحلة قتل طويلة بشوارع لوس أنجلوس! بعدها بعامين، ظهر فيلم أمريكى-بريطانى مشترك بعنوان  The Omen أو النذير (1976) الذى يتجسّد فيه الشيطان من خلال طفل فى الخامسة من عمره؛ يقتل الأسرة التى تبنته، ومربيته، وآخرين (حمدًا لله أنه ليس من بينهم المشاهدون!).

من أشهر الأفلام التى قدمت الطفل، بل الأطفال، كخطر قومى مخيف كان  Village of the Damned أو قرية الملاعين (1995) وهو إعادة لفيلم بريطانى بالعنوان ذاته من إنتاج عام (1960) عن رواية لچون وايندهام، ويعرض بلدة ساحلية أمريكية تغزوها قوة فضائية مجهولة ذات ليلة، ليوُلَد أطفالها وينشئوا لاحقًا ككائنات جامدة بلا شعور أو ضمير، لديهم قوة لقراءة الأفكار والتحكم فى العقول، يتلذذون عبرها بدفع أهل البلدة إلى قتل أنفسهم، ليصبح القضاء عليهم فى النهاية أمرًا محتومًا. تميّز هذا الفيلم عن فيلم عام (1960) فى تجسيده لعنف الأطفال، وتأليفه لجرائمهم المتنوعة، كما أنه عرضهم كمخلوقات غامضة فتّاكة، تمثِّل جيلًا جديدًا يختلط فيه الذكاء الرهيب بالبرود السادى، وكانت جملة الدعاية لهذا الفيلم هى: “احذروا من الأطفال!”.

ومنذ بداية القرن الحادى والعشرين، تزايدت أفلام الرعب التقليدية القائمة على طفل شرير يقتل كل أبطال الفيلم، فردًا فردًا، حتى يُقتَل فى النهاية، حالًا محل الوحش فى نوعية أفلام الـslasher أو أفلام “السفّاح” القائمة على حبكة محفوظة، وشلال دماء. من أمثلتها فيلم Case 39 أو الحالة 39 (2009)، حيث نرى طفلة لها قدرات خارقة شريرة، تقتل البشر من حولها منذ يوم وُلدت، وذلك بطرق مختلفة، منها محادثة الذى تريد التخلص منه بالهاتف، ليتجسد له أكثر كوابيسه إرعابًا، ويموت بعدها بفترة قصيرة. الطريف أنها كادت تصبح تجسيدًا للطفلة المُدلَّلة، التى تريد من الكبار تحقيق كل رغباتها بأقصى سرعة ودون اعتراض، وأوشك هذا أن يصير خطاب الفيلم فى لحظة، لكن العمل جنح للسهولة والتسطيح، وتقديم مشاهد القتل التى ترتكبها الطفلة عن بُعد، حتى تضطلع الإخصائية الإجتماعية التى تبنتها بحرقها، ثم إغراقها، كى ينتهى شرها من هذه الدنيا!

الطفل كماكينة قتل:

عبر أفلام التشويق والحركة، تناولت السينما الأمريكية فكرة الطفل الذى يمارس القتل، سواء كان نتاج تجارب علمية درّبته على إنهاء الحياة بطرق مختلفة لصالح قوة ما، أو إفرازًا لجو من الجريمة يعيش فيه وجعل القتل جزءًا من نشاطه اليومى، أو ضحية اعتلال نفسى أو عقلى يدفعه إلى ارتكاب الجريمة. أيًا ما كان المبرِّر، أصبحت صورة الطفل حامل السلاح، عدو السلام، مُدمِّر البشرية أمرًا طبيعيًا فى أفلام العقود الأخيرة، ولم تعد العقد النفسية، وجرائم القتل، والعنف المطلق حكرًا على الكبار فحسب.

مثلًا، فى الفيلم الامريكى D.A.R.Y.L. أو د.ا.ر.ى.ل (1985)، نكتشف أن الطفل داريل ليس طفلًا، بل مجرد روبوت صُنِع فى معامل تابعة للجيش الأمريكى، وعندما يتمرد عليهم ويحاولون القضاء عليه، يخدعهم بقدراته الحربية الفائقة، ويهزمهم بعد معركة كبرى. صحيح أكّد الفيلم الجانب البشرى الذى ظهر – إلى حد ما – لدى داريل عند احتكاكه بعائلة بشرية احتضنته، لكنه فى النهاية لم يستطع حماية حبه إلا بإمكانياته الآلية / فوق البشرية، ولم يتمكن من دحر صانعيه إلا بسلاحهم نفسه.

وفى فيلم RoboCop 2 أو الشرطى الآلى – الجزء الثانى (1990)، هناك شخصية رئيس عصابة فى سن الثالثة عشرة، مهووس بالعنف، ويتحكم فى تجارة المخدرات الأولى فى العالم، يرتدى البدلة لمفاوضة الشارين، ولا يتردّد فى القتل، كما يتولى التفوّه بأكبر كم شتائم جنسية وسط أبطال الفيلم وشخصياته الأكبر سنًا. أفرط هذا الفيلم فى استخدام الأطفال كأشرار، لدرجة جعلته يبدو كأنه فرصة لمشاهدة أطفال يشتمون، ويسرقون، ويقتلون، أكثر من كونه عمل أكشن عن شرطى آلى يواجه الجريمة فى المستقبل!

أما فى فيلمThe Good Son  أو الابن الطيب (1993)، فنتابع ماكولاى كليكن، بطل أول فيلمين من سلسلة Home Alone أو وحده فى المنزل، إنتاج (1990) و(1992) على التوالى، وهو يحوّل عنفه “اللطيف” من العملين السابقين ضد الأشرار، إلى عنف حقيقى ضد أخيار لا حول لهم ولا قوة. كليكن هنا يظهر من الخارج كطفل طبيعى مسالم، بينما هو فى الحقيقة مجرم مضطرب نفسيًا، يترجم أفكاره إلى خطط إيذاء متتالية، ومستعد لقتل أى إنسان لا يستريح له؛ حيث قتل أخاه الأصغر لغيرته منه، ودبّر لقتل أخته، ثم أمه (ضمن جرائم أخرى!)، ويمد الفيلم خطه العنيف لدرجة أنه يطرح فى نهايته اختيارًا حادًا، يجبر الأم على اتخاذ قرار ما بين التضحية بحياة الابن الشرير، أو حياة ابن عمه الطفل الطيّب، وإذا بها تقتل الشرير لحساب الطيّب، كى يقلّ الشر فى العالم. لاحظ هكذا أننا أمام قتل جنونى لم يقطع استمراره سوى قتل جديد، وليس تطبيقًا لقانون، أو علاجًا نفسيًا. أى أنه إذا كان العنف هو الجريمة؛ فقد أصبح هو العلاج الوحيد المتوافر لهذه الجريمة أيضًا. لذلك وصم الناقد الأمريكى الكبير روجر إيبرت صنّاع الفيلم باللامسئولين، مُحذِّرًا من مشاهدة الأطفال له عبر أى وسيط!

أطفال محاربون:

ظهر الطفل بطلًا لعدد كبير من أفلام الفانتازيا والخيال العلمى الأمريكية قبل سبعينيات القرن العشرين، ودأبت شركات الإنتاج الكبرى، وعلى رأسها “ديزنى”، على تقديم نماذج عديدة من هذه النوعية عبر أفلام كارتونية، وغير كارتونية. وكنا قد اعتدنا فى أفلام أليفة، مهذبة، على البطل الطفل الذى يخوض مغامرة فى عالم خيالى، ليكتسب فى النهاية قيمًا فاضلة كالشجاعة، أو الصدق، أو الاصرار. مثلًا، دورثى التى تتحدى الشرور فىThe Wizard of Oz  أو ساحر أوز (1939)، وبينوكيو الذى يتعلّم مضار الكذب فى Pinocchio أو بينوكيو (1940)، وديڤيد الذى يسعى جاهدًا لكشف مؤامرة فضائية ضد سكان الأرض فى Invaders From Mars أو غزاة من المريخ (1953). لكن مجددًا، بعد سبعينيات القرن الماضى، اختلف الأمر، وصارت أفلام “ديزنى”، وغيرها، تقدم الطفل، والمغامرة، و – فى أحسن الأحوال – تلك القيم نفسها، لكن بجوار قيمة أخرى مؤكدة: العنف!

فى سلسلة أفلام Harry Potter أو هارى بوتر (8 أفلام ما بين 2001 و2011) يجد الطفل هارى نفسه فى محيط من العنف المجرد؛ فوالداه تم قتلهما مبكرًا فى ظروف غامضة، وأقاربه ثلة أغبياء يعذبونه نفسيًا، وفى مدرسة تعليم السحر التى يلتحق بها يعيش صراعًا مع جماعة آكلى الموتى من السحرة المجرمين، وقَدَره من البداية مُثقَل بمواجهه شرير العالم الذى يعيش فيه: الساحر الطاغية ڤولدمورت، وكونه هو “المختار” الذى سيقضى عليه يومًا ما. تميّزت هذه الأفلام بأجواء الفانتازيا ثرية الخيال، لكن دون أن تخلو من سوداوية حاكمة، وكابوسية نافذة، فغصّة البطل هارى لا تنتهى، ومعاركه مع الشر لا تتوقف، وقيم مثل الانتقام والحرب والتدمير كلها بديهيات يعيشها، ورغم مثاليته فإنه لا يجد سوى العنف وسيلة لتحقيق انتصاره، خاصة أن عدوه بدأ بالقتل، واستمرأه لاحقًا. باختصار، الطفولة فى عالم هارى بوتر تعنى براءة يتم إعدادها لمواجهة وحشية، ومنذ الصغر لا مهرب من شر العالم، ومقابلة سحره بسحر مضاد لا يقل قوة.

فى سلسلة أفلام Spy Kids أو أطفال جواسيس (4 أفلام بين 2001 و2011)، يبدو الأمر أقل قتامة، لكن ليردّد الخطاب ذاته. فإذا كان هارى بوتر يحارب فى عالم من الفانتازيا ضمن مدرسة للسحر، فبطلا أطفال جواسيس، الطفلة كارمن كورتيز وأخوها چونى، يحاربان فى عالم من الخيال العلمى ضمن منظمة مخابراتية. صحيح العنف هنا مخفَّف، والأمور ملونة للغاية، والحالة – حتى مع الأشرار – مثيرة للضحك، لكن يظل طفلا العمل أبعد ما يكونان عن البراءة والبساطة، وتتحقّق بطولتهما بتقليد الكبار، مثل الجاسوس البريطانى چيمس بوند، خاصة عندما يحلّان محل والديهما، الجاسوسين المخضرمين، فى غيابهما ليصبحا نسختين منهما، وينتقلا لمحاربة أشرار مجانين بوسائل لا تقل جنونًا. لا يمكن إنكار أن الفيلم يعرض نماذج تثير شعلة البطولة فى نفوس الصغار، وربما الكبار، ويصنع مغامرة مسلية مفعمة بالخيال، ويخرج المشاهد بعده سعيدًا منتفخًا بالفوز، لكن مع حقائق جديدة تفرض نفسها: البراءة تحلّلت وصارت بضاعة غير مطلوبة، والعنف هو الحل بل الاختيار الأوحد.

أطفال شياطين!

الطفل الشقى ثيمة لعبت عليها أفلام الكوميديا الأمريكية فى العقود الأخيرة، كل ما اختلف هو “الحدود” التى يتجاوزها الطفل فى شقاوته أو لا؛ وهو بالطبع صار يتجاوزها، وإلى أقصى الحدود الممكنة!

الفيلم الكوميدى Problem Child أو الطفل المشكلة (1990)، والقائم على زوجين يتبنيان طفلًا اسمه چونيور ليقابلا فيه شر العالم بأسره؛ مثَّل ذروة تاريخية فى تقديم طفل عارم البذاءة، يتلذّذ على نحو سادى بتدبير وتنفيذ مقالب بشعة، تخرِّب ما حوله وتؤذى الجميع، لا لشىء سوى متعته، ومتعة صانعى الفيلم المريضة، فى خطاب لكل قيم الفساد فى نفوس مشاهديه كى تفرِّغ طاقاتها المكبوتة، وتضحك على ما تريد فعله فى حياتها الخاصة لكنها تعجز عنه، حتى صارت المسافة قريبة جدًا بين ما تضطلع به أفلام هذا الطفل (نعم، حقق الفيلم نجاحًا ماديًا كبيرًا، وتحوّل إلى سلسلة أفلام!) وأفلام الرعب من تحرير للانفعالات السلبية، والأفكار الدنيئة، والشر الحبيس. بل إن النوعين تقاربا أيضًا فى التقزيز، والتخويف، وصنع مسخ لا نهاية لجرائمه! اللافت أنه على عكس المتوقع فى نهاية فيلم كهذا، لم ينقلب حال الطفل للأفضل، أو يتعلّم درسًا يسمو بأخلاقه، وإنما ازدادت شقاوته خبرة، وصار شَرّه احترافيًا، ولا شك أن تضاعفت بذاءة وشراسة مقالبه فى الأجزاء التالية، ليصبح بالفعل أقرب للمسخ فى سلاسل أفلام الرعب؛ لا يكتسب دروسًا، أو يتطوّر للأفضل، وإنما وظيفته هى الشر المنطلق بلا حدود، وتطوّره فقط يكون لمساحات شَرّ لم يطرقها من قبل!

فى العام ذاته، ظهرHome Alone  أو وحده فى المنزل (1990) وهو عن طفل شقى آخر، لكن فى إطار ناعم، حوّله إلى شخص مظلوم ينساه أهله فى المنزل عند سفرهم، وتضطره الظروف للدفاع عن منزله فى وجه اللصوص. جاء الفيلم راقيًا سينمائيًا، وعامل طفله كبطل رومانسى، واستطاع بإبداع مرهف تجسيد الوحدة، والخوف، والتغلب عليهما، كما حظى بنجاح مثل سابقه، قاد إلى أجزاء تالية أيضًا، لكنه نوعًا ما أثبت أن العنف، حتى لو كان مخفّفًا وكارتونيًا، واجب ضد العنيفين. وأن كيڤين، بطل الفيلم، كان لزامًا عليه أن يضرب، ويشعل النيران، ويطلق عنكبوته الضخم.. كل هذا لصد الأشرار، ومحقهم. مرّة أخرى، العنف هو السبيل والحل. والذكاء قد يصلح لعلاج مواجهه قصيرة، أو إنهاء موقف عابر؛ كالتمثيل أنه ليس وحده فى المنزل لخداع اللصوص مثلًا. لكن الذكاء المختلط بالعنف كان معادل الانتصار الأكبر، لذا لا غرو أن نرى البطل، فى إحدى اللقطات، يقدم خطة حربية لحماية نفسه ومنزله، ولم يكتمل الفيلم إلا برؤية الأشرار فى النهاية محطمين، ومحروقين!

*********

إذًا، فالطفل الذى لا يفعل شيئًا غير اللعب، والضحك، والحب؛ لا يلزم السينما فى شىء. والطفل الذى يملك مهمة لن تتم إلا بالعنف؛ هو البطل سواء كان خيّرًا أو شريرًا. بالتأكيد تغيّرت القيم فى الحياة أولًا حتى تنتقل للسينما ثانيًا، وصار لزامًا حتى على أصغر البشر سنًا وأكثرهم نقاءً أن يُعدّوا أنفسهم لعالم قاسٍ ومؤلم لا يضع اعتبارًا لمثاليات، أو يقدم احترامًا لقيم طيّبة، أو يحتفظ بحق لمسالم. وأصبح مطلوبًا دائمًا الاستعداد للحرب، والتى لن تقبل بمتخاذل أو ضعيف، ولن تكون نظيفة، ولن تنتهى بمعاهدة سلام. إن السينما الأمريكية أعلنتها منذ 4 عقود تقريبًا، بكل الألوان الدرامية الممكنة: يا أيها الطفل، لا تكن طفلًا على الإطلاق، إكبر وانضج، فإما أن تأكل وإما أن تؤكل، وفى هذه الغابة، مرحبًا بك وحشًا، حتى تستطيع التعامل مع الكبار، وإلا ستصبح صغيرًا جدًا؛ أصغر من أن تسترجع حقًا، أو أن تُرَى من الأساس.

…………………

نُشرت فى مجلة الثقافة الجديدة، العدد 271، أبريل 2013.

مقالات من نفس القسم