فن تفسير العلامات والإشارات

فن تفسير العلامات والإشارات
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صفاء النجار

يوسف أيها المحظوظ، منْ يحمل البشارة يحق له أن يقول «اذكرنى عند ربك»، أما المكبلون بالشفقة والفقد، فلا يمتلكون غير الصمت.. يخافون العلامات، الإشارات.. يخشون أن يهمسوا بالأسماء (وعلم آدم الأسماء كلها).. فهل لم يعرف اسم الغواية، اللذة، الألم، المعرفة، الحيّة، التفاحة؟ ماذا لو كان صحيحًا أن النطق بالسر يستدعيه؟

ألم يصرح يعقوب «وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون»، فتحقق ما تنبأ.. النطق بالسر يستدعى وجوده، تجسيده.. البقرات العجاف.. الغراب النائح.. الأسنان المتساقطة.. القبر المفتوح.. الحوائط الصفراء.. عنبر المرضى.. طرقات المستشفيات.. الباب المتأرجح لغرف العمليات.. من يخرج من السجن يبتهج، لأنه يعرف إلى أين سيعود، أما أسرى السجن الكبير والخائفون من تقطيبة تظهر بغتة فى جبين الطبيب، ثم تختفى بعد أن يتدارك دوره ويدوزن أحباله الصوتية قائلًا: التقرير والأشعة تمام.. فقط سنحتاج لتغيير خطة العلاج.. تغيير خطة العلاج.. الذين لا يغيرون رأيهم هم الذين لا يغيرون شيئًا.. هذا كلام يقوله تشرشل وتمنحه الأكاديمية جائزة نوبل.. لكن الذين لم يختبروا صورًا متعددة للحياة يهابون التغيير. كانت عمتى التى لا تنام والنور مُطفأ تقول: هنا أكثر أمانًا، أنا لا أحب المجهول، وكانت هذه الروح المتشبثة بالحياة، رغم خراطيم المحاليل الموصولة من وإلى الجسم تبهرنا كمعجزة.. لكن الأطباء كانوا ينظرون لحالتها على أنها حالة فى هامش ناقوس متوسط الحالات الطبية.. حالة يمكن أن أكتب عنها قصة، لكن الطبيب لا يعتد بها عن ذكره لنسب النجاة من الموت بسبب تليف الكبد.. الأطباء صادقون ودقيقون ولا تخدعهم حلاوة الروح.. فقد ماتت عمتى قبل ثلاثة أيام من الموعد الذى قدروه.

كم واحد منا هرول خلف معطف أبيض وذراعين معقودتين خلف الظهر وجذع محنى قليلًا للأمام وهمسنا وأنفاسنا تلاحق الخطوات الفارة المتسارعة: دكتور.. التقرير غير مطمئن.. وأتردد هل أرفع الصوت قليلًا وأضع علامة استفهام.. أوحى له بتيهى وخيبتى أم أخفضه وأضع نقطة تختم عبارة تقريرية كى أوحى له أننى متفهمة ومقدرة وسأظل ألهث دون توقف فى الممرات والمجرات والمدارات المرسومة؟.

يربّت الطبيب على كتفى.. وحدها موظفة الجمع والتصحيح تستطيع أن تفسر لمسات أصبع الطبيب على كتفها.. التى اعتادت أن تلتصق الحروف بأصابعها، وأن تتسرب روح الكلمات التى تجمعها إلى مسامّها، أحيانًا تبقى كلمات تحت الجلد، وأحيانًا تنتشر الكلمات أبطأ من المحلول الوريدى فى شرايينها.. رويدًا رويدًا لكن بثبات.. كما كل التجارب التى تخوضها للمرة الأولى وترشد نفسها بنفسها وتضع دائمًا بيانًا لكل الخطوات التى سارتها والعمليات الحربية التى خاضتها.. فتسجل فى ذاكرتها البيان الخامس “على الممرضات غير المتمرسات الانتباه لغطاء «الكلونا» حتى لا يخرج المحلول الملحى أو السكرى الذى دخل للوريد.. ستكون الخسارة فادحة لأن روح المرضى الذين يتعذبون من الألم، تبحث عن أى منفذ وستجد فى الفتحة منفذًا للخلاص، بعيدًا عن حفلات الألم السادية”.

ملحوظة هامشية: مدينة أنا وكل الممرضات فى العالم للعالم النيوزيلاندى «كولين مردوخ»، الرجل الذى قدر حجم المعاناة من الاستخدام القديم للحقنة أكثر من مرة، والحاجة فى كل مرة لتعقيمها وغليها وتنظيفها، والجهد الكبير الذى تحتاجه هذه العملية من أجل ضمان تعقيم الحقن الطبية، التى يتم استخدامها عدة مرات.. فاخترع «مردوخ» الحقن التى تستخدم لمرة واحدة، وتكون معقمة وجاهزة فورًا للاستخدام، فأنقذ حياة الملايين من الأمراض الناتجة عن العدوى.

ما زلت لا أجرؤ على إعطاء حقنة. يقول الراسخون فى العلم: تدربى فى برتقالة.. ليمونة.. سأحاول.. حقن وريد.. حقن عضل.. حقن تحت الجلد.. وأسماء: بنجامين روبن، ابن سينا، الفراعنة.. لكل الأشياء تاريخ طويل من التطوير لا شىء يظهر فجأة أو صدفة.

لا يجيب الطبيب عن سؤالى، يكتفى بنصف ابتسامة.. هذا الطبيب لا يعرفنى.. لا يعرف أننى اختبرت من قبل مواقف وحالات ملغزة.. ذات ظهيرة اتصل بى هاتفيًا المهندس مالك العمارة التى أقطنها وعاتبنى: يا دكتورة حضرتك قلبك طيب، وتسمحين لأشكال من الناس أن تضحك عليكِ، زوجة البواب تدعى أن زوجها مات وهذه تمثيلية، هو مستريح فى بلدهم ويرسلها لتستعطفك وتستغلك، أرجوكِ لا تشجعى أمثال هؤلاء على النصب. مرت شهور قليلة، مات المهندس وعندما علمت بالخبر كان أول ما تبادر إلى ذهنى (وحدك ستتأكد إذا كان عم أحمد البواب هنا أم هناك) ماذا ستقول لعم أحمد البواب عندما تلتقى به؟ ولأنه لم يهاتفنى منذ رحيله، فأنا أقدر أن الخجل الذى لم يكن لديه يغرق فيه هناك.. وأنه انضم إلى ركب الذين يدركون أنه لا شىء يستحق هذه الصراعات أو الأحكام الباترة والقاسية، والأهم أنه يرى الآن كل العلامات والإشارات دون أن تحتاج لتأويل.

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار