على رصيف واسع

عفاريت الراديو
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد خير

الدنيا حر وغبار كثيف، وقبضة سائق التاكسي في رقبتي تخنقني أكثر مما يفعل الطقس، واستغلّيت كوني أطول منه قليلاً فلففت ذراعي حول رقبته وأمسكته من الياقة الخلفية وأخذت أشد رأسه للوراء، عضلات رقبته قوية تقاوم يدي بصلابة ولكني لمحت عروقه نافرة ووجهه محمرًاّ، كان ظهري للسور العالي جدًا المطل على كورنيش النيل، السجن يقبع غارقًا في صمته وثمة عسكري حراسة يعتلي برجه بعيدًا في عالمه الخاص، والمشادة البسيطة مع السائق لم أتوقع أن تصل إلى هذا الحد، كنّا مازلنا ممسكين ببعضنا البعض على الرصيف الخالي، لا مارة تقريبًا يعبرون بجوار سور السجن، والسيارات تقطع طريق الكورنيش كالصواريخ، وساعة العصاري انقلبت إلى هذه المعركة العجيبة، قامته القصيرة قوية ورأسه ينظر لي من أسفل إلى أعلى فبدا للحظة كطفل لولا الارتعاشة العصبية في عينه اليسري، ومن حين لآخر كان يفرج عن زّمة شفتيه فتظهر أسنان صفراء غير مكتملة الصفوف، والغريب أننا لم نوجه لبعضنا البعض أي سباب حتى الآن، وكان ينبس ببعض ألفاظ غير مفهومة من حين لآخر، وإن كنت أميز أحيانًا كلمة " اكتبها " أو " أضربها " أو شيء من هذا القبيل .

رأسي كانت مشغولة بشيء آخر، كنت أخشى أن يكون قد سقط مني شيء داخل التاكسي عندما بدأنا التدافع، خاصة أوراقي الشخصية، كان قد استهان بتصريحي الذي أعلنت فيه أنني حفظت رقم السيارة، وقف أمام التاكسي مستهترًا بعصبية وأخذ يردد الأرقام بنفسه وبصوت عال، نزلت من السيارة، قال أن التاكسي ملك للضابط فلان، سببت أمّ الضابط قبل أن يكمل تلاوة اسمه، فسبه هو أيضًا، اندهشت، وقلت لوهلة ربما شعر بالخجل من احتمائه باسم الضابط، هنا دفعني في كتفي دفعة خفيفة طالبًا مني أن أرحل، دفعته بدوري، ركلني في ساقي ببوز حذائه فانقطع بنطلوني القديم، جن جنوني فركلته وأدميته، أو هكذا ظننت، فأمسكني من رقبتي ودفعني – بقوة غريبة على جسمه الصغير – تجاه السور العالي، فأمسكت رقبته من الخلف وشددتها للوراء، وكانت دوامات تراب صغيرة قد بدأت تؤذي عيني، وانتبهت لأول مرة للحركة العصبية في عينه اليسري، يرمش بها بسرعة مرتين متتاليتين، ثم تظل مفتوحة، قبل أن تعود للرمش مرتين متتاليتين، وبدأت أختنق، وشعرت بعروق رقبته أمامي توشك أن تخرج من الجلد، والشارع خاو، ومرت سيارة نقل عملاقة بطيئة ظننتها ستقف ولكنها تابعت طريقها .

استطعت أن أتحسس بسرعة جيبي الخلفي وتأكدت أن المحفظة هناك، فاشتدت قبضتي على رقبته، وتمنيت لو يمر من يفرق بيننا فأرحل ولكن لم يحدث، وبدأت قبضتي في الوهن، وشعرت بأصابعه الخمسة المثنية تقرص جلد رقبتي فبدأت زغللة في عيوني وبوادر دمعة خفيفة تطرد التراب، وكان قد رفض أن يدخل من الطريق التي وصفتها له، رغم أنني انتظرته مرتين، عندما موّن من محطة البنزين وعندما توقف أمام سبيل للمياه الباردة، ملأ زجاجته المتسخة وعزم عليّ فرفضت، وأبديت له وجهًا متعكرًا، أشعل سيجارة، وأكد مرة أخرى أنه لا يسلك أبدًا ذلك الطريق لأن الداخل إليه مفقود، وأنه لو دخل من هناك لن يخرج من الشارع قبل ساعة وربما ساعتين، لم أعلق حتى مدّ يده ورفع صوت الكاسيت، فمددت يدي وأطفأته، نظر لي شذرًا ولم يصدق ما فعلت، مال بالسيارة على جانب الرصيف الخالي الملونة حجارته، وقال:انزل .

لم أنزل، وكتفت يديّ أمام صدري، أوقف الموتور وسحب المفتاح وغادر التاكسي وجلس على الرصيف، بعد قليل خرجت وجلست على مقدمة السيارة، أمرني أن أنهض فرفضت، ثم تحركت قليلاً وقلت أنني عمومًا حفظت رقم السيارة، وقف أمامي وانحنى مستهترًا مرددًا رقم السيارة بصوت عال، دفعني فدفعته، ركلني فأدميته، أمسكنا برقبتي بعضنا البعض مستندين إلى سور السجن العالي، تحشرج صوته وهو يتلفظ أصواتًا غير مفهومة، لم يمر أحد في الشارع، شددت على رقبته بأقوى ما عندي ونظرت في عينه اليسرى مرة أخرى ولاحظت أن بها بقعة بيضاء وأنه ربما كان – من هذه الزاوية – لا يراني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من المجموعة القصصية “عفاريت الراديو”

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون