مي

موقع الكتابة الثقافي art 11
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

باسم عصام الدين

ظل راسخاً في ذهنه أن رائحة اليود هي رائحة السمك المتعفن. لم تتغير وجهة نظره لكن ما اختلف في ذلك اليوم هو رغبته في أن يعبئ رئتيه بالرائحة. في الأرجاء، صوت ضحكة واستغاثة ناعمتين لفتاة متعلقة برقبة شاب يحملها، ويجري على الرمال نحو البحر ليلقي بها. يتوقف عند حافة الأمواج ويخطف قبلة سريعة على شفتيها. يفلتها من يده فتمتزج ضحكاتهما مع صوت انحسار الأمواج على الرمال، كان وجوده غير مرئياً لهما. بدافع الفضول أو ربما الغيرة حاول أن يقترب من حيزهما، فلم يفلح في جذب أي انتباه من جهتهما. مع انحسار الموجة الأخيرة شعر برائحة اليود تتغلغل أكثر فأكثر برئتيه. أحاطته فقاعة تعزله عما حوله. أرسل ابتسامة من فقاعته إلى فقاعتهما، فوصلت الضحكات صافية إلى داخل فقاعته. خلع حذائه وجواربه، بللت الأمواج قدميه وانفض الزبد سريعاً عنهما.

عند عودته وجد السور المنخفض خلف العمارة التي يسكن بها يقطر بالزفت من جوانبه.

  • ايه القرف اللي حاطينه ده.
  • حاطين زفت عشان محدش يقعد.
  • ما ينوروا المكان ومحدش هيقعد.

انتبه على حديث السيدتين فنفثتا فقاعته بإبرة ضخمة مدببة. تذكر جلساته المختلسة مع مي على هذا السور. خفقان القلب، ارتباك البطن، واللهفة مع الخوف. قميصها اللبني تحت المريلة الكحلية، حين كان يثني ويرفع أكمام قميصه لكي يبدو مختلفاً عند لقائها.. الأحاديث التي لا تدور إلا عن الدراسة والمذاكرة والمناهج والمدرسين. لكنه كان يشعر أن مي تعامله بطريقة مختلفة عن الباقين، لهذا في كل لقاء لهما أراد أن يصرح لها بحبه. فكر أن يكتب لها خطاباً يشرح لها فيه مشاعره، لكنه لم يفعل.

أين كنا سنجلس يا مي لو كانوا زفتوا السور؟ أين كنا سنتقابل لو نوّروا المكان؟ ربما في فقاعة خاصة بنا.

بعد التخرج في إحدى كورسات اللغة الإنجليزية وجد مي أخرى تدرس معه، كان يحب تأمل ملامحها. لم تكن تشبه مي الأصلية السمراء. أحب وجهها المضيء، كان يرى هالة من النور حول وجهها حتى أنه لم يستطع أن يتخيلها أثناء الاستمناء. في إحدى الحصص سألها المحاضر عن معنى اسم مي فقالت له أنه يُطلق على أنثى القرد. ضحك كل الحاضرين وضحك معهم، تذكر حينها حديث أحد الشيوخ عن أنثى القرد التي زنت فرجمتها القرود حتى ماتت.

لم يخبر أحداً من أسرته أنه لم يذهب للعمل اليوم، ولم يخبرهم عن فرصة العمل في السعودية التي سعى لها لشهور حتى أصبحت على وشك التحقق. أنهى الطعام وترك المائدة بسرعة متمنياً ألا يكون أحدهم شعر بشروده. في حجرته استلقى على ظهره، وأضواء هاتفه المحمول تتقلب على بطنه بين أصابعه.

***

حكى له محمود عن العقارب التي كانت تهاجمه هو وأسرته في السعودية وكيف أن العقارب هناك في كل مكان تتسلل إلى البيوت تعض من تجده في طريقها. لدغتها سامة، لا علاج لها وبمجرد أن يتسرب سمها إلى الدم لا مفر إلا الموت، لكنه كان يستطيع أن يقتلها ولم تنل منه أبداً. هناك البيوت مبنية على عمود مكهرب مرتفع عن الأرض حتى لا تستطيع العقارب أن تتسلل لأعلى. الجميع هناك مرعوبون من العقارب التي تهاجم في أفواج كبيرة، حتى أنك لا تلاحق لصد هجومها من أي ناحية، لكن محمود كان يقتلهم وحده دون مساعدة من أحد برش الماء عليهم، أو بالعصا بضربة واحدة قاضية. كان يتخلص من عقرب ثم يلتفت للتالي حتى ينتهي منهم جميعاً.

حكى محمود أيضاً أنه كان يأكل العقارب حية هناك وكان يعجبه مذاقها جداً. كاد أن يتقيأ حين وجد بالفعل بقايا سوداء بين أسنانه في الأيام التالية. تجنبه ولم يجلس بجواره خوفاً من أن ينقل السم إليه باللمس. ظل يتابع بقايا الطعام بين أسنانه، ودائماً ما كان يجد البقايا السوداء. جاءه محمود يوماً وأمسك يده.

  • تعال أوريك عقرب في الحوش.
  • مفيش عقارب هنا.
  • لا أنا شوفته دلوقتي تعالى أوريهولك.

صفعه على وجهه وعضه في ذراعه بأقصى ما استطاع. انتظر أن يموت بعد أن انتقل السم إليه لكنه لم يمت وتخاصما.

***

رآها للمرة الأخيرة في آخر يوم دراسي، لكنه لم يستطع أن يخبرها عن أي شيء، بعدها لم يعرف أخبارها. كان يذهب إلى الشارع الذي تسكن فيه ويمشي إلى آخره ذهاباً وعودةً، معلقاً نظره بالشبابيك والبلكونات لعله يراها بالصدفة. التحق بالكلية وأحس أن عليه التقرب إلى الله أكثر، فأطلق لحيته وانتظم في دروس أحد شيوخ السلفية الكبار، وحرص على الصلاة والعبادات.

ظل على عادته في الذهاب إلى شارع مي. تمنى كثيراً أن يلتقيا ويخبرها عن مشاعره، ويتزوجا ويعيشا في طاعة الله. كانت هي بطلة خيالاته أثناء الاستمناء، فكان يشعر بذنب مضاعف لأنه يمارس العادة السرية ويدنس علاقتهما في معصية الله. اتخذ قراراً أن يجاهد نفسه للتوقف عن الاستمناء إلا أنه فشل مراراً.

ملّ مع الوقت من الالتزام واقتنع أنه لن يكون كالصحابة والصالحين مهما فعل فهو عاص يقع في الخطايا بسهولة، ليس عنده عزيمة وجلد على الطاعة فحلق لحيته، توقف عن حضور دروس العلم وتجنب أن يلتقي بأي من الأخوة. فقد الأمل في أن يقابل مي صدفة فتوقف عن الذهاب إلى شارعها ولم يبحث عنها مجدداً.

***

كتب اسمها الثنائي كما يعرفه في البحث على الفيس بوك فخرجت له عشرات النتائج، لم تكن هي واحدة فيهم. جرب كتابة اسمها بهجاء مختلف فلم يجدها أيضاً. بحث في قائمة أصدقاء أحد الأصدقاء المشتركين المحتملين فوجدها.. ملامحها كما هي لم تتغير، نفس الاندهاش الساذج، والعينين الصغيرتين اللتين تتحولان لشرطتين عندما تضحك، اكتسبت بعض الوزن. تكتب على صفحتها أنها متزوجة وتعيش في السعودية. لها صورة بالعباءة السوداء مع زوجها وابنهما وكتبت عليها وصفاً متمنية فيه أن يحفظهما الله لها.

عمل بمدينة بريدة في صحراء القصيم. لم تكن إلا الصحراء في كل اتجاه ولا عقارب كما حكى محمود بل مبان ضخمة مكيفة وشمس حارقة خارجها. لا عقارب تتحمل العيش في جهنم تلك يا محمود. استقبلته المدينة بعاصفة رملية لم يشهدها أحد من سنوات وكأن الصحراء ترسل له رسائل غضبها. تعطل الدوام لعدة أيام. عندما هدأت العاصفة حاول أن يتعرف على المدينة فلم يجد شوارع ولا بشر يمشون على أقدامهم. اللون الأصفر فقط في كل مكان وفي كل التفاصيل.

قاوم قرار العودة إلى مصر عدة مرات بعد كل نوبة اكتئاب يمر بها. إن عاد لأصبح مادة لسخرية الجميع، عن الذي سافر إلى الخليج وعاد بعد شهور لأنه لم يحتمل. حكى لعلي زميله في العمل عن احساسه بالغربة ورغبته في العودة بعد عدد معلوم من السنوات يكون قد ادخر فيه ما يحتاجه من المال، فقال له أن كل تلك القرارات سيظل يتخذها في أول خمس عشرة سنة فقط، وظل يضحك.

كان يخرج إلى مقهى في أطراف المدينة على طريق الرياض يدخن الشيشة ويمرر الوقت بأنفاس الدخان حتى المساء. نصحه علي أن يذهب لأداء العمرة حتى تخفف عنه، فقرر أن يذهب في عطلة نهاية الأسبوع التالية.

شعر أن مناسك العمرة خففت عنه كما قال له علي، لكن لا يزال شيء بداخله معلقاً بالكآبة. عاد له نفس الشعور بالذنب عندما كان لا يستطيع أن يبكي في الصلاة في فترة تدينه. تحلل من الإحرام، وحلق رأسه دون أن يتنحى احساسه بالذنب. في طريق عودته من مكة فاجأته مجموعة كبيرة من القرود على مسافة بعيدة، توقف دون أن يعلم ما يجب عليه فعله وانتظر أن تمر سيارة لتساعده.

جلس في السيارة يشاهدهم من بعيد، وهم يتشاجرون ويقطعون الطريق الأسفلتي بكسل. وقفت إحدى القردة أمام سيارته ثم ابتعدت مرة أخرى. كانت تبدو له أنثى جميلة. لوح لها فأعرضت عنه، تذكر أن متبقي معه بضعة أصابع موز كان قد اشتراها قبل انطلاقه، فخرج من السيارة وأشار للقردة بموزة (مي.. تعالي يا مي). خطفت الموزة من يده وجرت إلى رفاقها. وقف يراقبها حتى اختفت عن نظره بعدها سمع أصوات جلبة تقترب فرجع مسرعاً إلى سيارته هرباً من قذائف الحجارة التي تلاحقه من كل أعضاء قبيلة القرود.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون