رائحة الرجولة في رواية “عمود رخامي”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.عزة بدر

يتمتع هانى عبد المريد في روايته الأولى "عمود رخامي في منتصف الحلبة" بأسلوب سهل يسير، يضع القارئ والكاتب معًا وجهًا لوجه، أمام خطوط الرواية التي تبدو مثل لوحة بسيطة الخطوط واضحة القسمات، خالية من كل تعقيد أو تركيب، ومع ذلك فهى تشتمل على أعمدة روائية وليست على "عمود رخامي في منتصف الحلبة".

صحيح أن الأحداث تدور وتتنامى وتعود لترتطم بهذا العمود الرخامي، بساعته المتوقفة وعقربه المكسور، إلا ان هذه الحركة الحية أمام العمود الجامد والساعة الخاملة، قد مثلتا عصب الرواية، فكانت تلك المفارقة مذاقًا فنيًا خاصًا يبعث الحياة للساعات ولعقاربها المكسورة، لتدخل بنا الرواية إلى حياة أبطالها التي امتزجت فيها أشواق الحياة مع انكسارات الاحباط واليأس.

روح السخرية

عاطف ولمياء.. قصة حب مورقة معطاءة من خلالها يكشف لنا الكاتب عن تفاصيل حيوات أخرى يقوم من خلالها عاطف بتعريف لمياء بعالمه وعالم أصدقائه، ومن هنا جاء السرد تلقائيًامكثفًا في انتقالات رشيقة تتصاعد كالفوارة من اللحظات الأولى للعمل ويمكننا أن ندلل على ذلك التنامي المفعم بروح السخرية والأسى معًا ليرسم الكاتب صورة حية نابضة لمجتمع المهمشين الذي ينتمي إليه بطل الرواية ويجيد تصويره، في سطور قليلة يتنامى الحدث فيقول الكاتب: “كانت السهرة في شقة مسعود، هكذا اعتادا منذ سنتين تقريبًا؛ كل يوم السهرة حتى الصباح في شقة أحدهما.. حشيش.. خمر.. الزوجة تجهز المكان.. تشعل الفحم، أو تقدم الثلج، الأخرى غالبًا تبقى بشقتهافي نفس العمارة- مع أولادها.. تنام مبكرًا، استعدادًا لدورها بالغد.

“ضحك.. قفشات.. نكات جنسية، فتحت الحديث عن الفحولة.. القدرة.. من الأقدر؟
تحدي.. تقليل من شأن الآخر.. دماء غلت في الأنفخ، حتى نطقها مسعود، بعدما لمح زوجة عكاشة بالداخل في قميصها الحريرى”.

الحوار المتنامي

حوار سريع متنام يصل إلى الذروة في جمل سريعة وعبارات دالة يعتمد الكاتب فيها حواره وسيلة وحيدة وناجحة في إدارة الأحداث.

  أنا مستعد أسيبك مع مراتي يا عكاشة، ووريني هتعمل إيه يا غلبان؟
بسهولة نطقها مسعود! سال لعاب عكاشة.. نجح.. سينال ما كان يصبو إليه، سينال الجسد الذي طالما حلم به.. طالما جسدّه خياله طريًا دافئًا.. سيناله برضا الزوج، لكن مسعود أكمل عرضه قائلا:
 دا طبعًا بشرط.. أنت كمان تسيبنى مع مراتك يا حلو، وشوف هاعمل فيها أيه؟

ولأن كل منهما لا يعرف شيئًا عن محاولات الآخر مع زوجته.. يتم الاتفاق، وكلاهما مقتنع بأن زوجته لن تخون، وأنه الفائز، ولكن ماذا سيقولان للزوجتين؟

 انت هتفضل هنا مع مراتي، وانا أعمل إنى نازل أشتري حاجة، وأنزل لمراتك، وكل واحد يتصرف بطريقته.
بالفعل كان من الممكن أن يمر كل شيء بسلام، لكنه عكاشة رآها -أي زوجته مع مسعود- طار الدخان من رأسيهما ارتخت الأعصاب، أفاقا بعد أن حمل أحدهما زوجة الآخر عارية ليريه الرجولة الحقيقية.. من هذه النقطة التي كشف بها الكاتب هذه القضية التي هى محور الرواية “معنى الرجولة الحقيقية” ليثير تساؤلًا مهمًا.. هل الفحولة هى حقًا الرجولة الحقيقية؟ ليكشف مسعود وعكاشة معًا زيف هذه الرجولة وخوائها، والذي انتهى بالفضيحة.

التكريس للمعنى الروائي

يتوقف بنا الكاتب في لحظة ليؤكد الخط الأساسي لقضية الرواية “معنى الرجولة الحقيقية” فتبرز شخصية “مجاهد” من نسيج العمل، فيسلط عليها الضوء الكاشف المركز في جملة واحدة لتقدم لنا هذا الحل العادل لمعضلة “الرجولة الحقيقية” فيقول:

“لكن مجاهد الله ينور بصيرته، كشف كل حاجة، معملش زي الناس ومشي مع التيار.. أعاد مجاهد الحريم بنفسه إلى أهاليهن، طرد أزواجهن من الحي .”

ثم يمضي بنا الكاتب ليحقق ملابسات الفكرة وتداعياتها، فكرة الرجولة الحقيقية، فيندفع ليحقق كل ما يلتبس بها أو يتعلق بها حيث تتجسد “الفحولة” عبئًا على جسد صاحبها بطل الرواية “عاطف” فيقول الكاتب:

“يتخيل لو إمتلك إحداهن، هو بصعيديته الصلبة، التي يسخرون منها.. وهن برقتهن الهشة.. تزيد حرارة جسمه.. يندفع الدم في شرايينه، قد يتماسك فيلجأ إلى الأوراق، ويكتب قصة .
أو يجمح خياله، فيغلق باب حجرته بالمفتاح...

يهدأ.. يواجه نفسه.. يندم.. يرى الثعبان الأقرع، ويده عندما تأتي يوم القيامة حبلى.. يتذكر حديث الشيخ مرتفع الصوت بقريته، يشعر بنهايته، يستشعر فضيحته بين الخلائق، يزداد ندمه.. يستغفر.. يغط في نوم عميق.

انهيار المعنى الحق

وفي سبيله ليؤسس معنى الرجولة الحقة يدفع الكاتب أمامنا بصور الرجولة المنهارة، الدفع بإيجاب ناحية الصورة المسلوبة فيتضح المعنى الحق، يرسم الكاتب صورة هاشم: “بالجلباب واسع الأكمام، الشارب الكث، والكوفية الحريرية المنسدلة من فوق كتفيه العريضين.. أقارن بينه وبين هاشم اليوم.. حليق الشارب، ذو القميص الأحمر والبنطلون الأسود.. بالتأكيد ليس هو”.

ثم يأتي الكاتب على بقايا صورة هاشم، ليست الشكلية فقط ولكن المعنوية أيضًا، فيصورها في مشهد مكثف حافل بالدلالة على انهيار المعنى الحق للرجولة..

“شفتاه منفرجتان، عيناه مثبتتان على جسدها، فتاة في منتصف العشرينات -تقريبًا- تبدو أوربية، ترتدي فستانًا أسود مكشوفًا، ترتسم بداخله تفاصيل جسدها.. عض شفته السفلى، أسبل جفنيه، بادلته النظرات عن بعد…

اقترب بشفتيه من أذنه “أجيبها لك؟”، هكذا سأل هاشم. روح قلبي مستنيك. قالها سامح بفرح، لكن هاشم عاجله مشترطًا، “الدفع أولًا” قالها ثم دخلا مرحلة المفاوضات، في محاولة لتقليل المبلغ”.

ثم يثبت الكاتب المشهد فيعلق “عاطف”بطل الرواية على الصورة الكاملة لانهيار الرجولة “أنظر في عيني هاشم غير مصدق ما أرى، أدقق مفتشًا عن رائحة الرجل بداخله، أنظر إلى قسماته وهو يتحدث”.

الحفر للداخل

يعمق الكاتب شخصيات أبطاله فيرسم صورة عميقة لهاشم محيطًا بملامحها الداخلية بحيث تتبدى لعيني القارئ، هاشم يسبقة تاريخ من التخلي، تفريط في معنى الرجولة لم يحدث بشكل مفاجئ، ولكنه قد حدث بالتدريج، في قريته “كفر الخطاطبة” وما حدث له في القاهرة كان مجرد خيط قد امتد في القرية ليتعقد ويتمحور حول ذاته في القاهرة، أي ان المدينة لم تكن سببًا في تحول هاشم بعنفها وقسوتها وشدة وطأتها على الفقير الغريب، ولكن الشخصية نفسها قد تحولت منذ البدء، حيث تواشجت داخلها عناصر الفساد فبدت كبذرة أصابها العطن منذ البدء.

“فر هاشم وتركك يا تحية تواجهين مصيرك.. وحدك.. وحدك في مواجهة الجميع”.

أقام هاشم علاقة آثمة مع تحية الفتاة التي أحبها رغم كونها متزوجة، تركها وفر لتحصد وحدها وزر الخطيئة فقتلها أهلها.

ثم يرسم الكاتب ملامح تحول شخصية هاشم بالكامل منطلقًا من مناقشة فكرة الرجولة الشائعة “الراجل ميعيبوش غير جيبه”، هاشم وقع في إسار هذا المفهوم بعدما ارتحل فارًا إلى القاهرة، وبداخله بذرة الفساد والاستعداد لمزيد من التخلي عن معنى الرجولة، لا عن مواصفاتها الشكلية فقط، التقى هاشم بمن أكد له هذه الصيغة الجديدة الزائفة “الراجل هو اللي يقدر يجيب القرش من بق السبع”، والفلوس لا تأتي سوى باللعب بالبيضة والحجر، أقنعه تاجر الرقيق بالزواج باربع روسيات، فيقول هاشم: “لن يكن زوجاتي إلا على الورق، لن يحتسبن على شرفي”، ثم أخذ التاجر إحداهن ورحل شرط التزام السرية.

نموذج الرجولة الحقة

في وسط هذا القتام والرماد الناتج عن بيع القيم بثمن زهيد، في وسط هذا الزيف والفساد الآخذ بالقلوب والعقول والمفاهيم تبرز صورة مجاهد ساطعة كالنور، تبدو صورة مجاهد كولي من نور في وسط الظلام، كان اصطباره على المكاره جعل منه كنية هذا النور وحقيقته، فيتصل السرد المتماسك كاشفًا عن صورة مجاهد وهو يحكي: “كنت واقف خدمة على السد العالي، شنجي زنهار.. حاكم السد العالي ده عالي أوي.. جامد حديد.. بس العبد لله أكتشف فيه خرم، اه والله العظيم خرم، عمال يسرب ميه، كانت الساعة تلاتة الفجر.. يا عالم البلد هتغرق، محدش سامع ولا حاسس، طب تعمل إيه يا مجاهد ؟ طبعا حاولت أجيب طينة ورملة منفعش.. بصيت لربنا فوق كده، ودعيت والدموع في عينيه، لقيته ألهمني، ورحت قاعد ومدي ضهري للسد.. سديت الخرم بضهري لحد الصبح لما شقشق، والناس اتصلت بالمطافي، عشان تيجى تحل المشكلة… يتناول نصف كوب الماء المتبقي أمامه.. يمسح شفتيه، ويكمل بنفس نشاط :تعرف يا أستاذ، عبد الناصر لما عرف فرح أوي، واداني نيشان”.

ويرسم الكاتب صورة لمجاهد صورة الرجولة الحقة فيقول: “بالفعل يريني ظهره، أُخذت عندما وجدت آثار حُفر غائرة بعنف في اللحم، حُفر كمجاري المياه من أثر السيول، كأنياب حيوان مفترس في جسد ضعيف يقاوم”.

ثم يضع الكاتب أمامنا صورة أخرى لرجال القرية في تحولهم، ومن هذا التضاد ترتسم صورة أخرى متداعية: “جاء وقت على قريتي يا لمياء، حاول كل الرجال شراء قميص أحمر، وبنطلون أسود، الكل يحاول ولو لم يملك الثمن.. سيشتريه بأي وسيلة، ولو وصل الأمر لبيع أواني وأثاث منزله.
نظارة شمسية سوداء.. شوارب حليقة، جميعهم بلا شوارب، قد يدعون أن المقص جار عليها في أثناء تهذيبها.. شروط بسيطة من السهل تحقيقها، وبالفعل حققها الجميع ـ سرًاـ، بعض الخبثاء زادوا تعقيدًا في الأمور؛ قصوا أظافرهم، عالجوا أي دمامل في وجوههم اشتروا كريمات الاعتناء بالبشرة”.

الحب وتحقيق الرجولة

ويظل نموذج عاطف في تأمله لصورة هاشم وصورة مجاهد، وسخطه على معنى الرجولة المشوه لدى رجال القرية نموذجًا خصبًا، يصطرع داخليًا ليصل لنموذجه الحق، مرة باللجوء إلى السمو بمشاعره وإعلائها، ومرة بالسمو بها إلى عاطفة الحب السامية، مع لمياء تتحقق هذه الصورة المنشودة للرجل والمرأة معًا حين يلتقيان على مشاعر الحب الصادقة، فيصف عاطف تحققه العاطفي فيقول: “قبل تغلغل الجذور في باطن الأرض، واتخاذ الأشجار هيئتها التفرعية.. تكور حبات البازلاء، و سكن السكر أعواد القصب.. إلتماع النجوم واتخاذها أشكالها الخماسية.. أقول لكِ، ربما قبل أن يكون للسماء طبقات سبع، وأنتِ بداخلي، يفيض حنانك؛ فيطيب الطعم، وتنبت الألوان. قد يكون كلامي مشوشًا، لكنك واضحة دائمًا يحيرني عجزي عن الحديث عنكِ.. أنتِ على وجه الخصوص، رغم حضوركِ داخلي، ربما يهيىء لي ذلك؛ لشعوري الدائم بأنكِ تستحقين أكثر مما أعطي”.

ورغم قساوة حياة “عاطف” بطل الرواية والتي يلخصها الكاتب في سطور قليلة، فإنه يستطيع أن يحقق لنفسه صورة الرجولة الحقة، فيصف الكاتب حياة بطله قائلًا: “انفصال أبي وأمي، فشلي في التأقلم مع عالم الصحافة، خيانة الأصدقاء.. التفاف البشر، صدمات متتالية”.

يتماسك “عاطف” ويرصد الكاتب من خلال الخطاب العاطفي والعلاقة بين بطله ومحبوبته هذا المعنى الحق للرجولة، ذلك المعنى الصافي الذي لا تشوبه شائبة، الرجولة التي هى اكتمال الإنسانية واكتمال للشعور الإنساني بالنضج والحب، رغم ثقل المعاناه التي يخففها هذا التواصل الإنساني والتماس الحاني بين عالم الرجولة وعالم الإنوثة متمثلًا في بطل الرواية ومحبوبته “لكنك تأخرتِ أنا لم أتعود منكِ ذلك.. إذا لم تأتِ سأكون في حلم.. نعم، ربما أنا الآن أحلم بأني على موعد معك وبأنكِ لم تأتِ؛ ففي الواقع لا بد أنكِ تأتين.. لمياء هل أنا الآن أحلم؟ هل من الممكن أن يكون ميعادنا في مكان آخر؟”.

يصبح الحب هو السبيل الوحيد الذي يجعل للحياة طعمًا إنسانيًا، يحث المرء رجلًا كان أم امرأة، على الصمود والمقاومة، مقاومة تداعي المعاني والقيم، حيث الفرار للمحبوبة هو حل إنساني يلجأ إليه بطل الرواية، حيث يشبه الحكي تواصلًا، والشكوى رموزًا لبوح جديد يتفجر بالصدق والنبض والحياة “تعبت.. لمياء، تعبت.. ما زلت ـ كعادتى ـ أراقب طوابير النمل، حتى تأتين .
النمل يا لمياء تضخم.. تكاثر.. ملايين النمل تتكاثر.. النمل يفترس بعضه.. أصبح مخيفًا؛ لا تسلية في مراقبته!… لمياء أشعر أنني خائف؛ للنمل أنياب ترعبني، فهل ستأتين؟”.
لم تكن تتنافى صورة الرجل الخائف من النمل أو الفزع إلى المرأة الحبيبة مع صورة الرجولة الحقة، فالخوف من النمل خوف من فساد عظيم آخذ بتلابيب مجتمع يتصارع فيه الجميع بالأنياب والأظافر، ولم يكن البحث عن المرأة الحبيبة إلا نوع من التواصل الإنساني والتوحد ضد هذا الوحش القادم، أو هذا الفساد العظيم، حيث يتعطر نسيج السرد برائحة الرجولة، تلك التي تتأجج وتقاوم الفساد، وتعانق كل معاني النقاء والإنسانية، الرجولة التي هى القوة والعدل.

…………..

نشرت في مجلة المحيط الثقافي عدد يونيو 2004

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم