حتى أتخلى عن فكرة البيوت: شعر يروي نقصان الوجود

مختارات من "حتى أتخلى عن فكرة البيوت"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد أبي سمرا

تفتتح الشاعرة المصرية إيمان مرسال مجموعتها الأخيرة “حتى أتخلى عن فكرة البيوت” (“دار التنوير”، القاهرة – بيروت، 2013) باستعادتها صور “مستعمرة متحركة من النمل”: “ميت عدلان قريتي العزيزة الجميلة الغالية، وطني الأم الذي يزورني كل ليلة في الكوابيس”. القرية هذه “يقولون إن أجداد (سكانها) ردموا مستنقعاً وبنوا بيتاً لله أولاً وبيوتاً للأموات ثانياً ثم أخيراً بيوتاً للناجين من لعنة الكائنات الصغيرة”. تتوالى في هذه القصيدة الأولى من المجموعة، الصور القصصية أو الإخبارية: “حسام، زميلي (…) في آخر الفصل (…) غرق في سن العاشرة وهو يصطاد سمكة. لم يستغرب أحد موته لأنه كان معروفاً للجميع (بأنه) إبن موت”. في “يوم الجمعة (…) اليوم الذي لم أحب: تهوئة الصالون (…) رائحة المنظفات وحبال الغسيل (…) وجهنم تأتي من ميكروفون المسجد”. وهناك “نساء جَبِلْنَ أكثر مما ينبغي، وفقدان أجنّة في الطريق الى المستشفى (…) من نجا لهن (…) ولدوا قبل الفجر في غرف الخبيز (عندما) كان الأطفال كالحصاد، مناصفة مع الحكومة”. أما الـ”مراهق (الذي) جعله الجيش رجلاً (في الصحراء، (فقد) حفر خندقاً لن يجد وقتاً ليختبئ فيه”، فأعادوه “الى بيت أمه (…) جثة مع ساعة اليد والبطاقة الشخصية”. في “منتصف” السبعينات” من القرن العشرين، بدأت “الآمال”، آمالهم، “تصحو وهم يشربون الشاي: استبدال الجدران الطينية بالأحجار، الغاز بالكهرباء، ألا يقلّ أول تلفزيون ملوّن عن عشرين بوصة”. وبعدما “ذهب أحدهم الى العراق ليموت في حرب شاهدها بعضهم بالألوان (…) استطاع من بقي منهم أن يمدَّ حبلاً من المصابيح ليدلَّ المعزين الى مكان العزاء”.

هذه بعضٌ من مرويات قصيدة “ربما لم يكن في نيتهم أن يخدعوا الله” التي تروي بالصور المكثّفة محطات من تاريخ قرية ميت عدلان، في خليط من الذكريات والمشاهد والمصائر ذات الروح المصرية الخالصة، واللصيقة بأطوار التاريخ والمجتمع المصريين، كما يتجسدان في لحظات ومشاهد من الحياة اليومية: “سأنجح في تضييق شروخ (ها) بالفوتوشوب”. إنها لحظات ومصائر ومشاهد مكتوبة بأسلوب قد نجازف في تسميته أسلوب “الوثائقية الشعرية” التي تفصح الشاعرة عن استعمال تقنيات فنون ما بعد الحداثة في تأليفها وتوليفها، مستدخلةً تلك التقنيات في صميم المخيلة الشعرية، ومخْلِيةً مادة الشعر ولغته من سلطان المثال الشعري المتعالي الذي يجعل اللغة نفسها، مجرّدة من تجارب العالم المادي والخبر عنها، مدار الشعر ومادته الاولى والاخيرة. وخروج مرسال على سلطان المثال الشعري ذاك، يجعل نصها أو قصيدتها غير لغوية، أو ما بعد اللغة، أو لا تحضر اللغة فيها إلا بوصفها لغة غير شعرية، وتتوسل بالشعر من طريق غير لغوية. إنه خروج يؤكد أن “الحرفة” اللغوية لم تعد “عمود” الشعر الحديث، على خلاف ما نظّر وكتب بعضٌ من رواد الحداثة الشعرية العربية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. الفرق ما بين لغة مرسال وأسلوبها “الوثائقي الشعري”، ولغة تلك الحداثة، يتجلى تهكمياً ساخراً في قصيدتها الثانية: “وأنا أتدحرج بين خياراتي كنقطة ندىً على عنقود من العنب، دخل (الى البار) أحد القوميين العرب بشعر ابيضَّ لتوّه كأنه كان ينازل الغزاة في الميدان المجاور: الأمة تحترق، قال بدلاً من مساء الخير”.

أسلوب الوثائقية الشعرية هو الذي يبث الروح المصرية الخالصة في كتابتها، على نحوٍ يجعل تلك الروح، كما تتجلى في وقائع الحياة اليومية، قِوام شعر مرسال (على الأقل في القصيدة الأولى من المجموعة)، سداه ولحمته، لتغيب عنه اللغة بوصفها الخالق السحري المتعالي للعالم والشعر، وليحضر العالم، اشياؤه، كائناته، المصائر المكثَّفة لشخصياته، متشظّيةً متنازعة، وكمعين للشعر، في صوت خافت ولغة خافتة حتى الغياب والإمحاء. ذلك لتكون اللغة محايثة، بل صادرة صدوراً عضوياً عن العالم والأشياء والبشر في مصائرهم شبه القدرية أو “الموضوعية” والخالية من كل بطولة ونبوءة أو رسولية. هذا ما يجعل الأوقات والأماكن والموجودات والكائنات والمصائر في هذا النوع من الشعر، أقرب الى ظلال وأطياف عابرة، فيما قد “يكون الموت هو عدم القدرة على تبادل ذكرى مشتركة بين شخصين” في قصيدة “اسمك امامي ولا ورد في يديّ”. وفي “الصباح الذي بلغتُ فيه الأربعين (…) فشلتُ (…) في التأكد من وجود حياتي بجانبي على السرير”، بينما “أمامي طابور من الموتى (…) بيوت للأرق داومت على تنظيفها بإخلاص في ايام العطلات، هدايا لم افتحها لحظة وصولها، قصائد(…) أشكّ في انتمائها اليَّ، رجال لم أقابلهم الا في الوقت الخطأ ومصحّات لا أتذكر منها إلا الحديد على الشبابيك” (من قصيدة “حياة”). هذا فيما “الله يضلّل ذاكرة مخلوقاته من وقت لآخر ليتسلى” في قصيدة “احتفال”. الى جانب اللغة الاخبارية، بل في نسيجها، يحضر الكائن خارج حياته، او منفصلاً عنها، كأن شخصا آخر عاشها عنه، أو هي ظلت مرجأة، لتحضر كذكرى وكغياب عن الفعل.

الوجود الناقص

في هذه المقتطفات الاخيرة، يغيب الشعر الوثائقي، أو الوثائقية الشعرية، ليحضر الكائن الفرد المجرد، في مواجهة العالم والوجود ومصيره وذاكرته، لكن بلا بطولة ولا هالات مأسوية، بل بوصفه كائناً شديد الهشاشة، وغير ممتلك لوجوده ومصيره وحياته نفسها، ومنخلعاً منها انخلاعاً قدرياً. أما قصيدة “أنت أمام الباب أنا خلفه” فنموذج آخر لاختفاء اللغة وضمورها، للاقتراب من الشعر الذي يومئ من دون ان يصرّح ويعلن مستعيضاً عن استنفاد العالم لغوياً، بوصف لحظات حسّية حميمة وعابرة من حياة الكائن وهشاشته: “بضغطة اصبعك على الجرس تحدث فوضى/ الى الأذن تنط دماء كانت تتهادى قرب سلسلة الظهر/ تتراجع قدماي خطوتين الى الخلف/ كل عضو يهرول وحده في اتجاه خطأ”.

قوة الاضطراب والمشاعر في لحظات تحقق لقاء غرامي مرتقب، معبَّرٌ عنها هنا بأشد قدر ممكن من الهدوء، وبأقل قدر من الانفعالات التي تظل مكتومة اصلاً، لتحضر افعال لاإرادية ناقصة تتجاذب الشخص المنتظر خلف الباب، اي المرأة التي مع رنين الجرس “مرة اخرى/ مقطوعة الانفاس ينفد صبرها”. لكن نفاد الصبر ينقلب فجأة الى عكسه: “اتباطأ/ كأنني أخرج لساني للوقت الذي انتظرتك فيه”. انقسام النفس والسخرية من النفس هنا، يتجليان أيضاً في الجملة: “ربما تلك الثواني (ثواني الانتظار وعدم اليقين) هي الأكثر بهاء مما بعدها”، اي لحظات تحقق اللقاء. فـ”فتح الباب لرجل تنتظره ينتظر في الخارج” وتحقق اللقاء المرتقب، يطفئان قوة الانفعالات ويبددانها. هذا من دون أن يخفى الحس التهكمي الساخر من تلك الانفعالات التي تبدو بلا جدوى ولا طائل، ما إن تنقضي وتتبدد. كأن الانقضاء والتبدد واللاجدوى هي مبدأ العالم والوجود: “وتعبر العتبة/ انت لا تعرف ماذا تصنع (وكان من الأفضل القول: ماذا تفعل) بنفسك وأنا سأمد (وكان من الافضل حذف حرف السين من هذه الكلمة) يداً للسلام والاخرى تتأكد ان النظارة في مكانها”. هكذا تسقط قوة المشاعر والانفعالات في حركات حائرة خاوية، فلا يبقى من تلك القوة سوى ما لا ينبئ عنها. كأن حياة الكائن البشري في حال من النقصان او النكوص الدائم، فلا يبقي تحقق الرغبة من الرغبة سوى رمادها. لكن هذا التناوب ما بين التحقق والنقصان، الرغبة ورمادها، يستمر: “اقسم ان الندى كان يسقط من سقف الصالة، خفيفاً ومالحاً على شفتي، ولهذا لم اقل اهلا”. ثم “برضىً انظر الى سوء الاضاءة في بيتي. هذا الشحوب سيجعلني اختبئ تحت ذاتي بينما انت امامي على الكنبة، ضائع كضيف”.

هل النقصان و”خفة الكائن غير القابلة للاحتمال” في افعاله واهوائه وآلامه، هما مبدأ الوجود البشري والعالم؟ اما الامتلاء والامتلاك والتحقق، فليست اكثر من وهم جميل ومعذِّب، الا في الرؤى الدينية وجنتها الموعودة.

ـــــــــــــــــــــــ

جريدة النهار في 27-03-2013

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم