العالم روائيا.. عن الشاعر والمدينة فى “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عمر جنادي

وستمشى فى نفس الشوارع، وفى نفس المناطق تشيخ.

وفى نفس هذه البيوت ترقب نفسك وأنت تشيب

وستنتهى دائما إلى هذه المدينة.

فلا تتطلع إلى شىء فى مكان آخر:

لا سفينة لك، لا طريق. 

                                                   من قصيدة "المدينة".. قسطنطين كفافيس

تسعى “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”، للروائى المصرى “طارق إمام”، إلى إعادة تأويل حياة “كفافيس” نفسها، حياته الثانية والتى ستتشكل عبر الكتابة. حكاية / قصة إطارية ” تحف وتؤطر وتتقاطع” مع مخطوط رواية عشيقه ” الكسندر سينجوبوليس”، الإنسان الذى يتسم وجوده الفعلى بنسبية قلقة، والشخص الذى ليس له وجود فى الكثير من الكتب التى تناولت سيرة “كفافيس”، لكن النص الروائى يمنح “ألكسندر” تجسدا وحياة، بل ويجعله الكاتب المفترض/الضمنى للرواية، والذى يتقنع خلفه كاتبها الفعلى/الحقيقى.

يتفاعل النص الروائى مع عناصره الأساسية المكونة له (الشخصيات، التاريخ، المكان، اللغة..). لا يوظفها كمعطيات قبلية وثابتة، بل يرتبط بها فى سياقات وعلاقات جدلية: فتتبدى الشخصيات كعلامات و” وحدات دلالية”، لكل منها صوتها و وعيها بالعالم، و”التاريخ” سردية

تتم مساءلتها فى محاولة لتفكيكه وتحريفه و إعادة كتابته، ولا يشكل المكان( الإسكندرية) بالنسبة للحبكة خلفية يمكن الاستعاضة بواحدة منها عن الأخرى، كما تتعدد مستويات اللغة وأسئلتها، وعلائقها الاجتماعية. وتتحدد طبيعة العلاقة بين خطاب الرواية وبنيتها، التى تعزز الشك.

                                                ●●●

فى فيلم” الأبدية و يوم”، للمخرج اليونانى الكبير “ثيو انجيلوبوليس”، يحكى بطل الفيلم، الشاعر المحتضر، للطفل الذى بصحبته، حكاية صغيرة:

  ذات مرة كان هناك شاعر يونانى عظيم فى القرن الماضى، قضى سنوات طفولته على جزيرة، كبر وعاش فى إيطاليا، وقت ما كانت اليونان تحت السيطرة العثمانية. كان يحلم كل ليلة بوجه أمه، الذى لا يزال محفورا بداخله، ويراها فى لباس عرسها الأبيض. بعد سنوات طويلة، يقرر الشاعر العودة إلى وطنه، وعاد فى مركب من “فينيسيا” إلى جزيرته “زانتى” باليونان.

   تعرف على بيته ، الألوان، العطور، و الوجوه، لكنه لم يعرف اللغة، أراد أن يغنى للثورة، ويبكى على الموتى، ويتحسر على الوجه المفقود للحرية، لكنه لم يستطع أن يتكلم بلغته الأم، بعد ذلك وأثناء مروره وسط المناطق الشعبية، الحقول، قرى صيادى السمك، دَوَن الكلمات التى سمعها، ودفع ثمن لمن استمع منه، لأول مرة، إلى كلمة جديدة. انتشر الخبر فى كل مكان: “الشاعر يشترى الكلمات”. منذ ذلك الحين، وحيثما ذهب، فكل فقراء الجزيرة، صغارا أو كبارا أو شبابا، يلتفون حوله ليبيعوا له الكلمات. وبقيت القصيدة التى كان يحاول كتابتها غير مكتملة.

    تبدو حكاية هذا الشاعر، فى مجازيتها، قريبة من حكاية “كفافيس” داخل الرواية، فبينما يصل هذا الشاعر إلى وطنه، فاقدا لغته، يصل “كفافيس” من “أثينا” إلى “الإسكندرية” فاقدا صوته، لكنه يشعر بسعادة غامضة وطفولية عند بداية قراءته لمخطوط “ألكسندر”، لأن “السارد يعيد خلق الأصوات على شفتيه”.. “لقد فقدت الصوت لكنى لم أفقد الكلام” ﺻ 110

   كما يبدو “كفافيس” فى الرواية متضايقا من “اليونان” فى مسألة كونها: ” دولة تتعامل مع نفسها كأمة، ولم تكن تملك سوى لعبة واحدة هى اللغة، إليها تُنسب جميع أسباب الاضمحلال أو الرقى..” ﺻ 170، لذلك أبعدته الإسكندرية عن كل صراعات عاصمته الأم والتى: “كان الشعراء فيها يذوبون فى معارك يعتقد فيها كل منهم أنه يدافع عن وطنه بالقصائد” ﺻ 171

ليبقى بعدها متفرغا لصراعات جسده، وهواجسه، ومدينته المجهولة.

                                            ●●●  

شعرية السرد

  تعمد لغة الرواية إلى “الشعرية”، لكن النص الروائى يدركها كمعطى جدلى، فالشعرية ليست صفة “قارة” داخل اللغة، تتجاور إلى جانب صفات أخرى، بل تتموضع داخل شروط العمل الروائى نفسه، وتتخلق معه.

   تكشف الغة الشعرية للرواية عن الكيفية التى يمكن أن “تتقوض بها ضروب الخطاب الاجتماعى السائد بإيجاد مواقف جديدة للذات”، كما بينت “جوليا كريستيفا”، لذلك ينطوى اختيار ذات الشاعر كتيمة أساسية، للمرة الثانية فى روايات “طارق إمام” بعد الشاعر القاتل فى     “هدوء القتلة”، على دلالة بالغة الأهمية. فالذات “الشاعرة” ليست مجرد كيان مستلب وفارغ، ينتظر دوره الاجتماعى أو الجنسى، بل هى كيان متحرك، يحاول بدأب، أن يتجاوز نفسه، بمنأى عن الرؤى الرومانتيكية لذات الشاعر كمركز للعالم ( والتى تنقضها الرواية من خلال مثلية “كفافيس” التى تنتهك التهويمات الرومانتيكية).

    يعمق من هذا المعنى اختيار “كفافيس” كشخصية “مرجعية” تعيد الرواية كتابتها: “كفافيس” أحد رواد الحداثة الشعرية الكبار فى لغات العالم، و شعر الحداثة الذى كانت تنظر إليه “كريستيفا” بوصفه ” الشعر الذى يرهص فعلا بالثورة الاجتماعية”، الآتية فى المستقبل البعيد، وبمجتمع أكثر تطورا وتعقيدا.

   تحاول الرواية خلق موازيا سرديا للغة “كفافيس” الشعرية فى مناطق عديدة منها، داخل سياق لغوى يحتفى بالتنوع فى أنماطه البلاغية.

    يتجاوز السرد الشعرى، فى تشكله داخل النص الروائى، الثنائية البسيطة بين الحقيقى/المجازى إلى ثنائية أكثر تعقيدا وجذرية بين مبدأ الواقع/ مبدأ الرغبة، على تعبير” جابر عصفور” فى شرحه للتقابل بين “العادى” و”الشعرى” لدى “كريستيفا”، يتحقق هذا التجاوز بما يمثله “الشعرى” من انبناء وانفتاح على “اللاوعى”، وما يختزنه اللاوعى من دوافع ورغبات يتم قمعها عبر البنيات السلطوية للمجتمع ونظامه الرمزى، فتمارس اللغة الشعرية تحررها السميوطيقى من الهيمنة الرمزية للنسق اللغوى للمجتمع، الذى تتحدد -بالمعنى اللاكانى- الذوات الإنسانية وفق دواله. مبدأ الواقع الذى ينتظم بواسطة قيود العائلة والمجتمع، ومبدأ الرغبة الذى يطمح من خلاله اللاوعى إلى تحقيق اللذة، واشباع الحاجات والنوازع والرغبات، بين الاذعان لأنساق القيم الجامدة والتمرد عليها، بين الخنوع والثورة، بين الحداثى فى مواجهة التقليدى، وبين المرحلة الأوديبية للشاعر وما قبلها.

    التمرد والفردانية والحداثة والمجاز واللذة، هى الأقانيم والمعانى التى حاول أن ينتصر       لها “كفافيس”، عبر حياته وشعره ومثليته الجنسية، وهو مايظهر فى تأملاته التى كان يدونها وسمّاها “ملاحظات عن الشعرية والأخلاق” (استفاد منها ألكسندر فى مخطوط روايته بعد أن اطلع على الدفتر المدونة فيه) وفي واحدة منها كتب “كفافيس”، كما ذكرتها الرواية: ” ما يجعل الأدب الإنجليزى يبدو لى قديما، إلى جانب بعض النقائص فى اللغة الإنجليزية،هو- كيف يمكن صياغة ذلك؟- نزعة المحافظة، صعوبة أو انعدام إرادة ترك ماهو قائم، والخوف من مواجهة الأخلاق، الأخلاق الزائفة، فذلك ما ينبغى أن نطلقه على أية أخلاق تمتهن الجهل” ﺻ 272

 وهذا فى مقابل اعجابه بكتب فرنسية وضعت باعتبارها،بشجاعة،”البعد الجديد للحب”.

     لا ينحو السرد فى شعريته المتفاوتة إلى التماثل فى استعراضه الأسلوبى، تغلب النص الروائى على التماثل والجمود بعدم استخدامه نفس أنماط التركيب اللغوى والصوتى، وإدخال النص “نغمة الصوت البشرى” (بتعبير “ديفيد لودج”)،أو الأصوات البشرية، وهى تتحدث فى مجموعة متنوعة من الإيقاعات والقدرات و وجهات النظر( كان الشاعر الكبير “و.ﻫ .أودن” يرى أن أهم ما يميز شعرية “كفافيس” ما أسماه: نبرة الصوت). فلغة الرواية هى مزيج من الأساليب والأصوات، التى لا تخضع لطابع أو نمط معين، أو لهيمنة صوت راوى واحد، بل تنفك تلك التراتبية إلى العديد من الأصوات (ليس تعددا بالمعنى الباختينى فحسب)، فنجد بالرواية مونولوجات الشخصيات الداخلية :(خاريكليا، كريستينا، كلوديا، فورستر، فتنة…)،وأحلام يقظتهم، والمراسلات الخطابية بين “كفافيس” و “فورستر”، وقصاصات “ألكسندر”و تعليق “كفافيس” عليها، فالطبيعة “الكرنفالية”  للنص أدت إلى إحياء الأنماط الرسمية للبلاغة (من كناية ومجاز و تشبيه وتمثيل واستعارة) و تغييرها.

  ” الميتاسرد” و البنية الروائية

اعتمدت “الحياة الثانية..” على بنية روائية مركبة، وتقنية معقدة وفريدة من “الميتا سرد”، أو “الميتا رواية”( “الرواية داخل الرواية” أو “الكتابة عن الكتابة”).

تقوم الحياة الثانية على ثلاث روايات متداخلة: رواية أو حكاية إطارية، تتبع كفافيس فى تلصصه على المخطوط الذى يكتبه عشيقه أليكسندر عنه، تضم جانبا من رؤى كفافيس الجمالية والثقافية، وملاحظاته النقدية والفنية عن المخطوط، عبر خمسة وثلاثين مقطعا مرقما، ثم هناك مخطوط عشيقه أليكسندر نفسه، الذى نقرأه كمتلقين مع كفافيس داخل الرواية، والمخطوط مقسم إلى ثمانية فصول، تحمل أغلبها عناوين قصائد شهيرة لكفافيس: “شموع”، “أيها الجسد تذكر”، “المدينة”، “فى انتظارالبرابرة”، “أرواح العجائز”، “النهايات”.. يتخلل تلك الفصول أصوات وانطباعات و كتابات شخصيات أخرى( فورستر، ديمترى،خاريكاليا، كلوديا، فتنة..)، تكشف عن وجوه كفافيس، وتعزز حضوره من الاستبعاد( مثل لوحة غرفة نوم” فان جوخ” التى تحتوى معظم موجوداته عداه، لكنها ربما تعبر عنه أفضل من بورتريهاته الذاتية). 

    يُظهرالتعقيب الموجود فى نهاية الرواية “ألكسندر سينجوبوليس” ككاتب الرواية الكلية المفترض أو الضمنى، والذى يتقنع خلفه كاتبها الفعلى/الحقيقى، خالقا بذلك مستوى روائى وتخييلى آخر، حيث يوضح ألكسندرأن تلك المسودة المبكرة التى تلصص عليها كفافيس فى الإسكندرية، تمت كتابتها مرات عديدة، وصولا لصيغة الرواية النهائية التى نراها أمامنا، ثم يقوم بإهداء النص إلى روح “كفافيس”.

    تفضى هذه البنية السردية إلى تعزيز الشك والنسبية، أى ما يؤطر ويبنى رؤية الرواية الجديدة للعالم والحقيقة، نافية ً الانفصال بين شكل الرواية ومضمونها، لأنه وكما يؤكد “بورخيس”: حين تصبح الشخصيات فى عمل روائى هى قارئة العمل (مثل كفافيس) أو مؤلفة الرواية التى هى فيها (مثل أليكسندر) فذلك يذكرنا “بالجانب الخيالى لوجودنا الخاص”، وهذا أحد موضوعات “بورخيس” الرئيسية، وسبب إعجابه واهتمامه البالغ ﺑ “ألف ليلة وليلة”، لطبيعة الحالات الروائية الثرية المتداخلة بها.

    كما تكمن فرادة “الميتا سرد” فى الرواية، كونها، كرواية شارحة، تستوعب المنظور النقدى فى العملية الروائية ذاتها، ليس بمجرد استباق الانتقاد أو إدراج النقد المحتمل فى النص عن طريق ساردها التقليدى، ولكن بمقاربة “ذهنية” “كفافيس” ووعيه، ورؤيته الجمالية والنقدية، كما قدمتها الرواية. ” فاجأه تقديم “ألكسندر” لكل شخصية بقصيدة له..هل ستصير الرواية صراعا بين أصوات قصائدى؟”.ﺻ 111 ، ويكشف صوت كفافيس ، عبر السارد الضمنى، عن الأبعاد المضمرة للمجاز: ” لم يمنعه ذلك من تسجيل ملحوظة كاد أن ينساها، عن حضور الشخصيات من الأحدث للأقدم، بحيث يبدو الزمن وكأنه يعود للخلف بالتقدم فى الرواية، وفكر الشاعرأن هذا يلائم فكرة يعمقها الترام… لكنه تشكك فى أن يكون هذا المستوى المجازى قد علق بذهن ألكسندر أو استفز يده” ﺻ 112  كما يقدم تأويله الخاص، مثل حديثه عن الفصل الثانى المعنون “شموع”.

  تصير الرواية متعددة المستويات (اللغوية والسردية)، مستعصية على الاتحاد، وما يترتب على ذلك من وضعية للكاتب الحقيقى أقل هيمنة بكثير من حيث علاقته بالنص، و” يحول فكرة الهوية الفردية إلى فكرة إشكالية، على نحو تغدو معه الشخصية مراوغة، وهمية،و ملتوية” كما بين “رامان سلدن” فى حديثه عن  الأعمال الأدبية ذات الطبيعة “التعددية”، وهكذا حين يتوهم المتلقى القدرة على ضم النهايات السائبة للرواية -آخر الأمر- فى “وحدة جمالية”، يلوح التعقيب فى نهايتها معمقا لتعدديتها الجدلية .           

   يتردد فى الرواية خوف كفافيس من أن تنتهى حياته الفعلية مع انتهاء مخطوط الرواية: “يعيد المخطوط إلى الحقيبة شاعرا أنه يحتضر، يفكر فجأة أن موته فى الرواية قد يتزامن مع موته فى الواقع”،  ونهاية علاقة فورستر بمدينة الإسكندرية مع انتهاءه من كتابه عنها:” طالما أنهيت هذا الكتاب. فقد انتهت حياتك فى هذه المدينة”.

   وكأن منطق الواقع يحده منطق النص،كما فى رواية” صائد اليرقات “للروائى السودانى “أمير تاج السر”، ورواية “رجوع الشيخ” للروائى المصرى”محمد عبد النبى”. يرتكز هذا الطرح إلى مفهوم للرواية يراها بناءا لغويا، لا يقوم على محاكاة الواقع الاجتماعى فحسب، أو محاولة القيام بالإسقاط والتوثيق التاريخى، بل يتحدى هذا المفهوم “الرواية الواقعية ” ومنجزها العريق. ينظر هذا المفهوم إلى العالم الخارجى بوصفه أقل صلابة و واقعية، ينظر إلى “تاريخ فوضوى”، و”نظام اجتماعى مضطرب”.

   لذلك تميل الرواية إلى تأمل ذاتها، والكشف عن طبيعة الخيال، أو كما يقول “مالكوم برادبرى” فى كتابه “الرواية اليوم” عن اتجاهين رئيسيين فى الرواية: “أولهما ساذج نسبيا،وهى أنها وسيلة لمعرفة حياتنا الاجتماعية وتصوير ذلك بلغة نكتبها ونقرأها، والثانى بكونها ابتكارا لفظيا معقدا، يظهر فيها غموض السرد وتعقيد التركيب، وحيرة خلق احساس بالحقيقة من الزيف”.

                                        ●●●

  تمثلات المكان

    تقدم الرواية الكثير من التفاصيل المرئية الحية لإسكندرية بدايات القرن العشرين، ويخفت الوجود الشبحى للمدينة فى هذه الرواية، مقارنة ً بالقاهرة فى رواية “طارق إمام” “هدوء القتلة”، لكن ارتباط شخوص “الحياة الثانية” بالإسكندرية يوحى بأن قدرالمدينة يكوّن شخصية الإنسان.

  تتوارد فى النص سلسلة من العبارات البيانية لتصف المدينة تفصيليا عبر رحلات الترام، وغيرها، لكن الأهم ،هو ما تطرحه الرواية لتمثلات المكان. يُطرح المكان بوصفه خبرة شعورية للأفراد، لهذا سنجد لكل شخصية إسكندريتها الخاصة بها. فيراها كفافيس مدينة الموتى والمقابر، وتراها “فتنة” مدينة الأسياد الأجانب الذين يمثلون وجهها الحقيقى و قناعها المستعار.

    يقترب هذا الوجود “النسبى ” للمكان بوصفه شعور من المعنى الذى استخدمه           “أورهان باموق” فى كتابه “اسطنبول.. الذكريات والمدينة”، فهو يراها مدينة مرسومة بالأبيض والأسود، مدينة الحزن والسوداوية ( بينما يبرزها  المخرج الألمانى ذو الأصل التركى فاتح أكين كمدينة الألوان)، أو ما يقوله “كلود ليفى شتراوس ” فى “مدارات حزينة” عن ” الحزن الغير نابع من مرض و ألم شخص واحد، بل من ” ثقافة ومحيط يعيشهما الملايين”.

يختفى العمق الحضارى للمدينة خلف سطحها الفقير، و خلف علاقات الناس التى كان من

 الصعب ، على غربى مثل كفافيس ، فهمها.  لكن ذاكرة المدينة و مجازيتها القلقة و مصائر الشخصيات فيها تجعلها ليست مجرد خلفية للحبكة الروائية ، بل سؤالا يتم طرحه بفنية فى ثنايا النص الروائى .

                                                                  ●●●

 الأيروسية و السيريالية و القوة المطلقة للحلم

     أشبعت اللذة المحرمة

    نهضا و ارتديا ملابسهما على عجل ، بلا كلمة

    يخرجان – خلسة – من البيت منفردين

    و إذ يمشيان فى الشارع على قلق ،

    يبدو عليهما الاحساس بان شيئا ما يعلق بهما

    و ينم عن نوع السرير الذى كانا يرقدان عليه منذ لحظة

    لكن، ياله من اثراء لحياة الفنان

   ففى الغد، ما بعد الغد، أو بعد أيام:     

   ستكتب القصائد العارمة التى كانت بدايتها هنا

 

قصيدة ” بدايتهما”

كما استحضر كفافيس فى العديد من قصائده صور و أجواء الأساطير اليونانية و الهيلينية و التراث الإغريقى ،  فإنه قام أيضا بتصوير العالم الشبقى الذى يكتنف قصائد عديدة أخرى. كفافيس، المثلى الجنس، لا تبذل قصائده أى جهد لإخفاء الحقيقة، و تبدو غير عابئة بالحكم الأخلاقى. استطاع الشاعر أن يحول المتع الحسية، وإن كانت غير سعيدة، و “الحالات العارضة و العلاقات العابرة”، و التجارب التى قد تبدو مؤذية أو منفرة إلى شعر رفيع، يقتنص الشعرى من ركام العابر و الجسدى و” اللا أخلاقى “.

   و بالمثل، تتبدى فى الرواية “الصفة الايروسية للجمال”، بتعبير ” هاربرت ماركوز”، فالنص الروائى يتكلم اللغة “المتحررة” :

  “لكى أحافظ على نقاء أفكارى، أفرغت انتصابى فى حمام على بعد خطوات، مفكرا فى صورة

لكريستينا وهى مضطجعة على بطنها، عارية تماما، تكتب، تعلو مؤخرتها وتهبط” ﺻ 347

   “لكن، دعونى أقلها بصراحة، الجنس هو الشئ الوحيد الذى يجعل الرجال رجلا واحدا والنساء امرأة واحدة، وحدها الشرارة التى تنبعث، بمعجزة،من قطبين متشابهين، هى ما لا يمكن أن يتكرر.. هذه الشرارة هى نفسها الشعر” ﺻ 261

  “لقد كانت وجهة نظرى أنها تلخص جروحه الحية.. وشعرت أنه خصى مناطقها النابضة لصالح بنيتها المتأنقة”. ﺻ 356

و تواجه اللغة بصفاتها الايروسية المبدأ القبلى للجمال الشعرى، وتخلق الرواية ما يمكن تسميته “شعرية القسوة”، تتحول الحسية القاسية و العارية و الجريئة إلى صور محررة، و عناصر انعتاق جمالى، و” امكانية استخلاص متعة جمالية من صور الألم و الفناء”.

  كما  يستحضر النص الصور المتحررة، و السيريالية، خاصة فيما يتعلق بشخصيات مثل: هيلينى و ثيوفيليس. تظهر قوة الحلم المطلقة ( حلم بائع الوجوه، أحلام كفافيس بهيلينى، المسوخ و العمالقة و الغيلان)، والوجود الشبحى لشخصية مثل ثيوفيليس.

تصبح الاستعارة هى الواقع، فتطمس الوعى و عالم العقل، و يتجلى عالم الحلم، الذى يعمل فيه اللاوعى على كشف الرغبات و المخاوف الدفينة على هيئة صور حية، و عبرها يتم الكشف عن مخاوف كفافيس و مكنونات لاوعيه، مثل رغبته فى محو هيلينى، و علاقته المتحورة من الاوديبية بأمه خاريكاليا، فى سياق سردى مثير للدهشة لا يحده منطق حياتنا الواعية.

                                               ●●●

    كان الروائى “هنرى جيمس” يقول أن “الرواية” لكى تولد من جديد بحاجة إلى نوع من “الخيال الشعرى”، ومع نظرتنا المساواتية للطرائق الفنية المختلفة للكتابة وأساليبها النوعية، إلا أن ما تحققه “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” من تطويع كافة ممكنات اللغة والخيال، يجعلها نقلة هامة وإضافة جمالية إلى السرد الروائى.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم