” قصر الصبّار” للروائي العراقي زهير كريم: جدلية المضمر والمعلن

قصر الصبار
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. وليد خالدي

نستهل حديثنا في هذا المقام أولا، بالإشارة إلى أن رواية “قصر الصبّار” للقاص والكاتب العراقي زهير كريم؛ تدور أحداثها في القرن العشرين، وبالضبط في قصر قديم بني عام 1921م يطلق عليه قصر الصبار الذي يقع وسط مدينة بغداد، وبمرور الزمن وعبر التجارب المريرة وتسارع الأحداث والمتغيرات وتطورها، اتخذه الأمريكان فيما بعد مقرا لهم بعد احتلال العراق عام 2003م، وهي رواية صادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون بعمان/ الأردن، في طبعتها العربية الأولى 2022م. وبعد قراءة متروية ومتأنية، فلا ريب في أنها قصة نسجت خيوطها المتشابكة الوثائق التاريخية، المتمثلة في المطبوعات القديمة، والمصادر الرسمية، وأرشيف الدائرة التراثية، إلى جانب ذلك، المذكرات واليوميات، وشهادات الأشخاص على اختلافهم، ومن المعلوم، أنها شكلت البؤرة الأساسية في تحريك العملية السردية.

وفي ذروة هذا النشاط، تحولت الأنا الكاتبة من مقرر صحفي إلى الأنا المبدعة، بانحراف المشروع إلى إنجاز عمل أدبي، وبعبارة أخرى، أطلت الكتابة من نافذة المغامرة السردية، كما أحبّ الروائي أن يسميها، إذ مزجت بين الخيال والحقيقة في نسج عوالمها أو بناء نصها الإبداعي، ولا غرو، في أن هذه الحقيقة الصادقة، يدلل عليها اعترافه الآتي “فأنا شغوف بتلك الفضاءات التي تنبعث منها روائح التاريخ، الإنجازات العمرانية التي ترقد تحت غبار جدرانها الأحداث الجميلة أو القاسية”.  

والرواية بشكل عام، ركزت على ظاهرة اجتماعية، ويتعلق الأمر، بتيمة أو موضوع  الدعارة، إذ أن عملية الحكي أو القص في تعاطيها مع هذه الظاهرة؛ تخللتها لغة جريئة في الطرح شكلا ومضمونا، من خلال الغوص في الموضوع بالإشارة إلى أدق التفاصيل المتعلقة بالجنس، والعوامل التي أدت بالكينونة؛ لأن تتقلد حرفة ممارسة الدعارة، وعلى صعيد آخر، فإن السؤال الذي يستوقفنا، هاهنا: هل رواية “قصر الصبار” تدخل تحت ما يسمى بالأدب الإيروتيكي؟. وهل كانت الكتابة في هذا الموضوع، تحمل نية مبيتة من طرف الروائي أم أن الواقعة التاريخية هي التي فعلت فعلها أثناء كتابة النص؟

ولكن بوجه عام، وبحسب تقديري، أن الكاتب أو المبدع من كل ذلك، لم يكن يهدف من وراء عمله استهداف جمهور القراء؛ باستثارة مشاعر الجنس فيهم، وإنما حاول أن يجلي لنا الوجه المظلم من حياة الناس داخل القصر المتواجد بالعراق، بقدر ما هو عملية حفرية في طبقاته التحتية، ما يعني النبش في الذاكرة والتاريخ على مسرح الوجود، من خلال تفكيك وتعرية المحيط الاجتماعي ماديا ومعنويا، بالكشف عن طبيعة العلاقات الاجتماعية والسيكولوجية والاقتصادية وغيرها. وبلا أدنى شك، فإن الكتابة في هذا السياق، كرؤيا نقدية في حدود المتاح، تكمن أهميتها عندما أسندت إليها مهمة عرض الأحداث المتنوعة، عبر استحضار مشاهد وصور من الواقع تنبض بالحيوية، عن طريق إبراز الصراعات التي أجهزت على الأخضر واليابس، بسبب الانتهاكات البشرية اللامحدودة، التي طالت الفضاء الجغرافي والاجتماعي والنفسي والثقافي والاقتصادي للعراق، وهي كتابة كما أشار إلى ذلك الروائي زهير كريم على أنها         “ليست عن المهزلة أو المأساة، بل عن تلك المسافة الغامضة التي نحيا فيها ولا نعرف مصائرنا “.

ونشير في هذا الصدد، إلى شخصية نرجس بطلة الرواية التي تشكل ذاك الحضور الطاغي، عبر مسارات السرد وعمليات المحكي الذاتي، بما تحمله من كاريزما لها جاذبية وتأثير من نوع خاص، يتمثل في مجموعة من السمات، نتبين خصائصها الرئيسة، من خلال مجموعة من “الصفات الجسمية والعقلية والانفعالية والاجتماعية التي تظهر في العلاقات الاجتماعية لفرد دون آخر” بتعبير فكري إيهاب. فالشخصية الروائية المحورية تجسد في جوهرانيتها الشهوة والألم والتفكك والانحراف، والشيء اللافت،  أنها عاشت انهيارا عائليا، وسط واقع معقد ومتشابك ومتوتر، بين أمّ مسيحية وأب مسلم، وبسبب الأزمات والصدامات، ينتهي المطاف بشخصية نرجس، لأن تصبح الراعي الرسمي للدعارة، مقذوف بها وسط قصر تحيط به أسوار عالية، وترجع الأسباب الحقيقية الداعية إلى ذلك، من خلال وقوعها في شباك التعلق بشاب أوهمها بالتقدم للزواج منها، ولكن وقع من لم يكن في الحسبان بأن فض غشاء بكارتها، فكانت النتيجة أن أطاح بعذريتها، مما ترك أثرا سلبيا؛ أفرز مجموعة من الهواجس الشيطانية والكثير من المخاوف المؤرقة والتساؤلات لدى الكينونة، فخرجت بخلاصة تقول فيها بضمير المتكلم تحت نبرة متحسرة “كل ما في الأمر أنّي أريد أن أعيش بعيداً عن خزي الحب، الحب ذلك الخطأ الذي لا يمكن إصلاحه”

    وهنا يأتي الحديث عن اللذة الفانية والشهوة الخالية من كل الأبعاد الروحية، وبالتالي، تشكل هذه المعضلة، المدخل الرئيسي في فهم طبيعة المجتمع العراقي في تمظهراته المختلفة في تلك الحقبة الزمنية، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن “نرجس لها صورة أخرى مخفية، شاحبة خلف هذه الواجهة اللامعة، هؤلاء الذين يجيئون إلى هنا، يبحثون عن المتعة، الحياة التي يتمنونها ولا يستطيعون عيشها في العلن، إنهم يبحثون عن الزوايا السرية التي تحيطها الأسوار العالية والستائر المسدلة، الحياة الأخرى المفضلة مع الاحتفاظ بالصورة المزيفة التي يواجهون بها الناس..”. لهذا، فإن المكان يجسد محطة بارزة، بوصفه البؤرة المعبرة عن الحالات السيكولوجية والسوسيولوجية للكينونة، والأمر متعلق، بطبيعة الحال، بذاك الارتباط الوثيق المشكل لجملة من العلاقات الحميمية، ويكون ذلك عن طريق الرغبات الجنسية المنحرفة في شكلها العابر والسريع، أمثال شخصية الحاج رافع الذي تعلق بنرجس، ثم تخلى عنها في ظروف غامضة، وفي الأخير ترك لها القصر، وقد سجله باسمها في مراحل عشقه لها.

 إضافة إلى ذلك، نفهم من المقطع السردي، أن أصعب ما في الحياة من منظور الروائي زهير كريم، عندما يجد الإنسان نفسه يراوح مكانه في ارتكاب أنواع الخيانات الزوجية، وفي معظم أو غالب الأحيان تصل إلى درجة الدياثة والبرود العاطفي، بانعدام أسباب الغيرة واحترام الذات وتقديرها، وفي ضوء ذلك، يتمّ الحديث عن أولئك الذي يدّعون الشرف والوجاهة، يقول السارد ” هؤلاء الذين يدّعون الشرف، رجالا ونساء، شرفاء تلمع واجهاتهم، الواجهة بس، وما وراء الواجهة شيء عجيب. منهم من يعلم أن زوجته من تنام مع صديقه، في بيته وعلى سريره، وهو يعرف، لكنه يتصالح مع الوضع، زوجته تعرف أنه يعرف، وتعرف أنه بدوره ينام مع زوجة آخر يعرف كذلك. منهم من يحب أن يرى شخصا آخر يعاشر زوجته، يتفرج عليهما أو في أقل الأحوال يطلب أن تحكي له كيف عاشرها الشخص الآخر ” فضلا عن ذلك، أن العمل الأدبي أشار إلى تشظي العلاقات الرومانسية، كونها تفتقر لروابط الحب الحقيقية، بما تعيشه الذوات من إحباط وركود وملل على مستوى العلاقة داخل سقف البيت الواحد الذي يجمعهم، أي بسبب الإحساس بخيبات الأمل المتكررة، ونعزو هذا الأمر، إلى ذاك الشعور المستوطن للكينونة بعدم الرضا عن الحياة الجنسية، وفي ظل هذه العلاقات الزوجية اللامتكافئة، قررت الذات تجاوز مساحات المباحات من خلال ولوج عوالم الرذيلة؛ بدفع أضعاف المبالغ المالية من أجل البحث عن المعاشرات المحرمة التي تطعن في مروءة الإنسان، يقول الراوي العليم على لسان نرجس، مصورا لنا بشاعة هذا العالم المتوحش الحامل لصنوف الذئاب البشرية ” أوفر لهم بنات صغيرات بعمر بناتهم، بل بعمر حفيداتهم، ويوفرون لي في المقابل ما أريد من مال وقضاء حوائج، يريدون اللحم الطري الساذج وأريد السلطة من خلالهم، منهم الحاج رافع… فهم يعشقون، بل يتخيلون أنفسهم أبطالا في فيلم رومانسي، لكن أفلاهم قصيرة، تنتهي بسرعة وجوعهم باق، لذلك يبحثون له عن فيلم آخر، وهكذا. إنهم جوعى إلى الحب، لكن إلى الحب العابر السريع “.             

كما أن الوظيفة الجمالية الدلالية لنبتة الصبار؛ تتجاوز صورتها المرئية من خلال استجلاء أبعادها المضمرة، كشاهد عيان على تاريخ المنطقة، وما شهدته من تطورات وأحداث متباينة على جميع الأصعدة، إذ تقدم لنا في رمزيتها تحليلا وتشريحا لأحوال البلاد، وبالتالي، تصبح نبتة الصبار الوعاء الذي يحيلنا على هندسة المكان، باختراق أسواره من خلال التعرف على الأحداث التي دارت فيه، والشخصيات الموجودة بداخله على تنوع جنسياتهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم ومكانتهم الاجتماعية، وقصارى القول، فإن هذه الرواية، كما تقول سوسن جميل حسن ” تضاف إلى ما كتب قبلها من أدب يميط اللثام عن حال العراق منذ الإطاحة بالملكية وتأسيس الجمهورية، إلى لحظة احتلالها من قبل القوات الأميركية، تحفر في طبقات التاريخ المعاصر، وتحاول تفكيك الظواهر الاجتماعية التي آلت بالمجتمع العراقي إلى ما هو عليه ” .

…………..

*كاتب من الجزائر

مقالات من نفس القسم