يُخلق من الشبه أربعون

نجوى غنيم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نجوى غنيم

   جلست في المقهى تتملى هندسة المكان، تتأرجح بين الحقيقة والخيال، تتذكّر الأيام الخوالي، تنتظر رغم معرفتها بأنّ الانتظار عقيم لا فائدة منه، ترتشف قهوتها على مهل، وتراقب الحياة ومكنوناتها من بعيد متوقفة عند تفاصيلها، رأت زميلاتها في العمل الذي تركته منذ خمس سنوات في الجهة المقابلة، بكت عجزها وعدم قدرتها على فعل شيء، لم يسبق لها أن بكت من قبل بتلك المرارة، وراحت تقاوم حيرة شديدة تكاد تضعها على حافة الجنون حين أمعنت التفكير في حالها، نضبت الدماء في عروقها وجفّ حلقها، تراه جفّ من جرعة الكيماوي أم من الظلم الذي وقع عليها؟!

   ما الذي حدث معها؟! هي التي كانت مليئة الثقة بنفسها كمعدن غير قابل للكسر، تقاوم الفساد والجهل تضطر لترك العمل وادعاء أنّها ستسافر إلى خارج البلاد، تعيش في حزن وكمد، يسكن المرض جسدها، وهن اللواتي لم يقمن بمهامهن يتراقصن من فرط العافية، وتعلو ضحكاتهن في أركان المكان، هي التي سهرت الليل الطويل تعمل بجهد من أجل نجاح المؤسسة وتقدّمها، تستيقظ من حلمها الوردي على كابوس مرعب، وزواج لم تدخر منه إلّا الذكريات الأليمة والمشاعر السلبيّة، وهؤلاء اللواتي لم يقدّمن نصف ما قدّمته فاتنات هنّ بالثوب والحذاء والحقيبة والحليّ، سعيدات بحياتهن، يسكنّ في برج عاجي.

   حزن أسود صامت تملّكها، جراح تتقلّب على موقد الجمر، فما الفائدة من العمل في مجتمع متآكل متهالك على شفير الانهيار؟! الآن ما بقي منها إلّا جسد منهك وأحلام مغتالة، وعزلة لا تبارحها.

هل يعتبرن أنفسهن ناجحات؟! النجاح الحقيقي هو دعم ومساعدة الآخرين، هو العطاء لا الأخذ، هو أن تترك أثرًا في الآخرين. تدرك أنّ الله لن يخذلها رغم أنّ القيود تحاصرها والآلام تنهكها والحبّ خذلها.

   تتكاثف السحب في عينيها، تكتوي بحسرتها، تبتلع قهرها كما تبتلع الدواء مرغمة وهي تنظر نحوهن بحرص حتى لا يرونها فهي في نظرهن خارج البلاد، وراحت تمسح الدموع التي انهمرت لتخفّف وطأة الصهد الذي اغتالها، ارتشفت ما تبقى من القهوة وقامت بحذر تاركة المكان، أحكمت وضع الحجاب على رأسها لتغطي شعرها الذي تساقط معظمه، وحتى لو لمحنها لن يعرفها أحد الآن، فقد أصابها هزال شديد، اصفر وجهها وانطفأ سحر أنوثتها، وودت آنذاك لو أمسك أحدهم بذراعها بلطف بعد تلقي العلاج وأحاطها بكفيه ومسح وجهها المليء بالدموع، وخفّف عنها آهاتها الآتية من جوف بئر عميق.

استجمعت قواها وراحت تسير ببطء، تسمع همس روحها وضجيجها، تلمحها إحداهن…

 تقول أميرة: إنّها تشبه علياء! أيعقل أن تكون هذه علياء، تشبهها إلى حد غير معقول.

-لا يمكن، علياء سافرت منذ خمس سنوات إلى أمريكا كما صرحت في رسالتها عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ.

-ظننتها هي، لم نسأل عنها، كم تأخذنا الحياة!

– لم أسأل عنها منذ سفرها بعد طلاقها؟ كم أنا مقصّرة في حقها!

تقوم أميرة من مكانها وتسير وراءها وتنادي: علياء، علياء.

تتلفت علياء للخلف وتقول: أتنادينَني؟!

-ألست علياء؟

تبتلع ريقها الجاف وتقول: لا، لست علياء!

– صحيح أنّ علياء غير محجبة، وممتلئة الجسم ووجهها كان متوردًا دائمًا لكنّك تشبهينها.

  تتجمّع المواجع مثل بركان ثائر يضرب داخلها: لست علياء، يخلق الله من الشبه أربعين.

   ملأت رئتيها بهواء نقي فور خروجها من المكان وتنفست الصعداء، هل يمكن أن تختار حياة جديدة؟ هل يمكن أن تستعيد نفسها مرة أخرى؟  أتلتئم جراحها أم ستبقى أسيرة للحزن والذكريات الموجعة؟ أتنجاب عن نفسها غيوم الأسى؟ تكتم شعورها بالألم وتتوارى.

   تختفي علياء من الذاكرة ثم تعود لتحتلها، تفكر أميرة ما هي أخبار علياء؟

إنّها حقًا تشبهها، سبحان الله، يخلق الله من الشبه أربعين.

 

                                                                          

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم