يا رفاعى مدد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود فهمي

كانت ليلة مقمرة من ليالى الصيف، كنا عائدين من زيارة أحد الأقارب، نزلنا عند المحطة التى يقف عندها الأوتوبيس الوحيد الذى يمر عليها، سرنا فى الطريق الممهد بين الحقول.

قبل أن نعبر قناية الماء التى تمر على مقربة من البيت، لمحنا شيئًا يتحرك، شيئًا أشبه بكرة صغيرة، عبرت أمى وأختى القناية ودخلتا البيت، تابعت أخى وهو يجرى ليمسك بقطعة من الخشب ويجرى خلف الكرة التى بدأت فى الابتعاد، خبطها فهدأت حركتها، خبطها مرة أخرى فتوقفت تمامًا عن الحركة، حاول أن يمسك بها لكن كان بها الكثير من الشوك، أمسك بقطعة قماش قديمة وحملها، سألته عن اسم هذا الكائن فقال إنه قنفذ خرج ليبحث عن طعامه من ديدان وزواحف وفئران صغيرة وثمار.

حاول أحد الجيران الذى يكبر أخى بعشر سنوات أخذ القنفذ منه، تشاجرا لكن أخى استطاع أن يأخذ القنفذ ويدخل به مسرعًا إلى البيت، نادى أمى فرحًا ليريها ما قام باصطياده، مد يده إلى أمى وهو يقول:

– شفتى يا ماما اصطدت إيه!

نظرت إليه وقالت:

– ليه كده يا ابنى! هاتعمل بيه إيه؟!

– هاحنطه.

ألقى أخى بالقنفذ فوق سطح البيت، وأجَّل عملية تحنيطه إلى اليوم التالى.

استيقظ أخى من نومه، تناول إفطاره، بحث عن شفرة حلاقة، طلب من أمى نقودًا ليشترى واحدة، كررت أمى ما قالته له بالأمس:  “حرام عليك يا ابنى انت قلبك إيه!”.

بالفعل لم يكن أخى يخاف شيئًا، اشترى شفرة حلاقة وعاد ليصعد إلى السقف، صعدت معه، أمسك بالقنفذ، بدأ بفتح بطنه البيضاء وأخرج ما فيها، طلب منى إحضار بعض الملح، نزلت، كانت أمى بالمطبخ، فتحت كفىَّ، فتحت أمى برطمان الملح، وملأت كفىَّ به، صعدت إلى أخى كان قد انتهى من تنظيف القنفذ من الداخل، حرص أن يحتفظ برأسه سليمة، فكر أن يخيطه لكنه أجل ذلك لوقت آخر، حمله ونزل وضعه فوق المنضدة الصغيرة الموضوع فوقها التليفزيون.

بعد عدة أيام من اصطياد أخى للقنفذ سمعنا سيدة تنادى أمى، خرجنا إليها، كانت من السيدات البدويات اللاتى نراهن يتجولن فى منطقتنا يقدن قطيعًا من الأغنام وهن جالسات فوق حمار وقد وضعن نقابًا على وجوههن، ألقت التحية على أمى، نظرت إلى أخى وقالت: “إنت عبدالله اللى اصطاد القنفذ؟”.

سألها أخى:

– مين اللى قال لك؟

قالت إن حسين الذى حاول أن يأخذ القنفذ من أخى هو الذى قال لها ذلك.

قالت إن ابنها مريض بالحمى وأنها تريد ثلاث شوكات لا أكثر من القنفذ، أمى التى تعرف فرحة أخى وافتخاره بصيده الذى كان يريه لأصدقائنا كلما جاء واحد منهم إلى البيت، نظرت إليه ورجته أن يعطيها ما أرادت، تردد أخى فى الرد عليهم، نظرت إليه السيدة البدوية وهى تكاد أن تبكى وتوسلت إليه حتى أنها اقتربت منه وكادت أن تقبل يده قالت:

“الله يكرمك يا ابنى عشان خاطر وليدى”.

وافق أخى. دخلت أمى وانتزعت ثلاث شوكات عادت بها وأعطتها إلى السيدة البدوية التى شكرتها بشدة وكادت أن تبكى كما شكرت أخى وابتعدت وهى ما زالت تدعو له بالصحة وطول العمر.

بعد ذلك جاء رجل لا نعرفه يتوسل إلى أمى أن تعطيه قطعة من جلد القنفذ، كان الرجل ذو مظهر غريب تنتشر فى رأسه بقع خالية من الشعر، سألته أمى عن سبب احتياجه إلى قطعة من الجلد فقال إنه سيحرقها حتى تصير رمادًا ثم يضع فوقها بعضًّ من زيت الزيتون عسى أن يعالج هذا الخليط البقع الخالية من الشعر فى رأسه، بعد أيام عاد الرجل مرة أخرى، لكن فى تلك المرة كان قد اختفى ما كان من شعر فى رأسه حتى صارت خالية منه تمامًا.

بعد انتشار أمر القنفذ، لم تتوقف النداءات، نخرج لنجد أناسًا نعرفهم وآخرين لا نعرف من أين جاءوا وكيف وصل إليهم نبأ القنفذ، يقفون أمام الباب يتوسلون شوكات قليلة من ظهره لعلها تكون سببًا فى شفاء عزيز، جاء مرضى بهاق وربو ومقعدون، لكن أعجب من جاء إلينا ذلك الشاب الحزين الذى ما زلت أتذكر ملامحه.

بعد عصر أحد الأيام بقليل نادتنا أمى، طلبت منا أن نضع الطبلية ونأتى إليها لنأخذ أطباق الطعام لنضعها فوقها، سمعنا من ينادى على عبدالله، خرج إليه وتبعته، ثم جاءت أمى، كان الشاب فى نهاية العشرينيات من العمر، شاب طويل تبدو على وجهه علامات الحزن والخجل، طلب ثلاث شوكات من القنفذ، أمى التى كانت تصر على أن تعرف سبب احتياج من يأتى إلى شوك القنفذ لم تترك الشاب المتردد قبل أن يحكى لها عن السبب، فى البداية تردد وكاد أن يمشى لكنها قالت له إنها ستعطيه ما يريد شريطة أن يحكى، قال إنها يحتاج إليها لمداوة آلام حب لا يستطيع الخلاص منه، سألته بدهشة:

– إزاى!!

قال أنه بعد أن يئس من نسيان حب من هجرته وبعد أن جرب كل شىء نصحه أحد أصدقائه بالذهاب إلى شيخ يصنع له حجابًا يشفيه من أوجاع ذلك الحب ويقيه من حب قادم قد يؤلمه، وطلب منه أن يحضر شوكات كبيرة من ظهر قنفذ. وبعد أن قص حكايته وقفنا صامتين مذهولين للحظات، دخلت أمى لتحضر له ما طلب لكنه استوقفها وسألها عن القمر إذا ما كان مكتملًا ليلة اصطياد القنفذ فأجابته أن القمر كان بدرًا فى سماء صافية، سأل إذا ما كان القنفذ ذكرًا أم أنثى فردت بنفاذ صبر:

– والله ما نعرف اذا كان دكر ولا نتايه.

قال إن هذا ما طلبه الشيخ منه ثلاث شوكات من ظهر قنفذ ذكر تم اصطياده فى ليلة يكون القمر فيها بدرًا. قالت له أمى وهى تمد يدها بالشوكات الثلاث إليه:

– خدهم وخلاص، وقل له ده طلبك.

أخذ الشوكات منها وتناول ورقة صغيرة من أمام الباب، وضع الشوكات فى الورقة وأطبق كفه عليهم وانصرف مطرقًا إلى الأرض.

حين عدنا كان الطعام الموضوع فوق الطبلية قد برد.

 كانت أمى تقول لأخى مازحة كلما جاء إلينا أحد الساعين من أجل شوك القنفذ:

“انت اللى جبت لنا ده كله”، فيبتسم.

كذلك قامت أمى بإضافة شوكات منه إلى البخور الذى اعتادت إطلاقه قبيل صلاة الجمعة بناء على نصيحة جارة لنا قالت أنه يمنع العين، أخذت شوكاته تتناقص يومًا بعد يوم إلى أن اختفت تمامًا وصار كل ما تبقى منه جلد عار من الشوك.

مثل القنفذ سأحاول فى قادم الأيام أن أحيط نفسى بما يحمينى من الآخرين، لن تكون لى أشواك تجرح كل من يحاول الاقتراب منى فأنا لا أسعى إلى ذلك، فقط سأحتمى بصمتى وعزلتى حتى يظن الناس بى الغرور، ستصلنى أقوالهم تلك، لن أحاول نفيها يكفى أنها ستكون سببًا فى عدم اقترابهم منى وتركى فى سلام، فى هدوء لا يجرحه ضجيجهم.

وذات يوم قائظ مر بشارعنا رجل طويل القامة ذو بشرة سمراء لوحتها الشمس، يرتدى جلبابًا واسعًا ويضع عمامة بيضاء كبيرة فوق رأسه، يسير بخطوات متمهلة وهو يحمل إناء من الخوص ويدق الأرض بعصا غليظة، يقف أمام أبواب البيوت وينادى بصوت عال تنتفخ معه عروق رقبته “يا رفاعى مدد”. لم أعرف ماذا يبيع هذا الرجل ومن هو رفاعى الذى يناديه، دخلت إلى أمى أسألها، قالت إنه أحد الرفاعية الذين يخرجون الثعابين من مخابئها ويخضعونها لسلطانهم، خرجت، رأيته يقف بجوار بيتنا يتصبب عرقًا، رفع الكوز الموضوع فوق غطاء الزير، رفع الغطاء وضرب الكوز فى الماء، ملأه عن آخره، شرب وأعاد ملؤه مرة أخرى. كان يغب الماء بشراهة حتى أن الماء كان يفيض من فمه وينزل فوق ذقنه وصدره حتى بلل جلبابه، شرب وأعاد وضع الغطاء فوق الزير وهو يحمد الله، نظر إلى بيتنا بينما يضع الكوز فوق الغطاء وقال وكأنه يرى ما يقول:

– البيت ده فيه تعبان.

خرجت أمى مسرعة عندما عدت لأخبرها بما قاله الرجل، تركت ما فى يدها وبدا الفزع على وجهها، استفهمتْ منه فأكد على وجود ثعبان كبير يختبئ بالبيت، أدخلته أمى، أخذ يدور فى أركان البيت ثم وقف بدورة المياه فى الشقة المقابلة لشقتنا التى تركت دون سقف خرسانى، فقط وضعت أمى أعوادًا من جريد النخل فوقها، أخذ يردد كلمات لا نتبينها، وفى لمح البصر رأينا ثعبانًا كبيرًا فى يده، كان الثعبان مستسلمًا للرجل فقط يتحرك فى بطء، عاد الرجل حاملاً صيده الثمين إلى بير السلم إلى حيث ترك الإناء المصنوع من الخوص، رفع الغطاء المحكم، فأطلت أربعة ثعابين ذات ألوان مختلفة برؤوسها من فوهة الإناء فملأت الرهبة قلوبنا، وضع الثعبان الجديد معها، ثم أحكم إغلاق الإناء، جاءت أمى بكيس نقودها أعطت الرجل جنيهين، دسهما فى صديرى يرتديه تحت جلبابه، رفع إناء الثعابين فوق كتفه وخرج.

خرجنا خلفه، رأيناه وهو يبتعد وأطراف جلبابه تثير التراب حوله وصوته يبتعد مناديًا:

“يا رفاعى مدد”.

……………..

*فصل من رواية “سيرة القسوة والغياب”

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال