“مثل إيكاروس”.. أن تعرف لتموت

مثل إيكاروس
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

وعاقب مينوس ملك كريت إيكاروس ابن ديدالوس، وأباه ديدالوس، أحاط اليم العميق بهما من كل مكان، فاحتال إيكاروس وأبوه ديدالوس، فصنعا جناحين من ريش النسور لكل منهما، وأخذا في الطيران، ولما عاين إيكاروس السماء عن قرب أخذ في التحليق نحو الشمس، فصاح به ديدالوس محذرا، إلا أن إيكاروس قد أصمه الشغف عن صياح أبيه، ولما اقترب من الشمس، ذاب الصمغ وتفكك الجناح، وسقط إيكاروس فالتهمه اليم، وسط حسرات أبيه، وشماتة مينوس.

وكما كان توق إيكاروس للشمس مصرعا، كان توق”محمود السمنودي” للمعرفة والحكمة!

لم يلتفت “السمنودي” للنصيحة التي كان دوما يسديها للآخرين”ثمة أمور يجب أن تكون تحت غطاء، والخطر كل الخطر أن يراها أمثالك، ولربما كان ثمن الحقيقة نهايتك، لأن الشمس إصر على كاهل الواهنين…”

أو كما قال الراوي “طبيبه النفسي” لاحظت أن من عرفوا بعض ما تعرفه أنت آثروا الانتحار، أو ظفر بهم الموت متعجلا، أو جنوا، دعني أخبرك أن العالم غير مهيئ للحقيقة الكاملة…”

ولكن”السمنودي” لم يكن غافلا عن الثمن، وكلما زادت معرفته، زاد توقه للنهاية.

“محمود السمنودي” عاش طفولة منعزلة، شبه متوحدة، وبتعدد الاعتداءات عليه “البدنية” من زملائه، و”الجنسية” من أحد معلميه، يزداد توحده وانعزاله، وبمرور الوقت يكتسب السمنودي قوة نفسية من نوع ما متجسدة بنظرة عين مخيفة ترد اعتداء المعتدين وتردعهم، “لكن مع الوقت بدأت تلك النظرة تتضح أكثر في عين محمود؛ نظرة حادة متهمة، لاتطرف  العين معها نظرة قل من يتحملها من يبادل الفتى النظر…وهنا فقط قرر الرفاق، وقرر المدرسون أن الفتى مخيف…يحسن أن نتركه وشأنه هذه القوة النفسية الغير محدودة تثير الرعب في أقسى القلوب…” إلا أنه كان دائما يوحي للناظر العابر كونه معاقا بطريقة ما وكأنه فقد ساقا رابعة، أو فقئت عينه الخامسة، أو قطعت أذنه الثالثة!

“محمود يمنحك دوما الانطباع أنه ذو عاهة…لاتعرف السبب أبدا، لكنك لاتقدر أن تعتبره سليما!”.

“كان الصبية يتحدثون عن الفتيات، ويجلبون المجلات العارية للمدرسة، ويتبادلون النكات البذيئة، ويتكلمون عن مغامراتهم، أو عن الاستمناء هواية الصبا الكاسحة، لكن السمنودي كان صموتا، لايتحدث عن شهواته قط، هذا مخيف في حد ذاته، إما أن يكون الفتى خاليا من المشاعر الآدمية كالدمى المعروضة في وجهات المحلات، أو هو قديس، أو هو يملك أعتى وأقذر الرغبات الدفينة…”

كل ذلك زاد جدار عزلته سماكة وقسوة.

“كان يعطيك انطباعا بأنه مسن مراهق، وأنا طبيب وأعرف أن هناك أمرضا تدعى”البروجيريا” تسبب هذه الشيخوخة المبكرة، لكني أعرف يقينا  أنه لم يكن مصابا بهذا المرض، مريضا بلامرض…أليس هذا مخيفا؟!”.

وبتلك الظروف العصيبة وجد صندوقا به كتب قديمة تحتفظ بها الأسرة، يبدو أنه كان إرثا توراثه أبوه عن جده، كانت غامضة مكدسة بالرموز والطلاسم بعضها كتب بالعربية والآخر بالانجليزية…

“هي اللحظة التي أدرك فيها محمود مشروع عمره، وعرف أنه سيقضي ساعات لاحصر لها مع هذه الكتب يفك طلاسمها، يجب أن نعترف هنا أنه كان لايملك ذكاء خاصا، ولاثقافة متميزة، لذا لم يبد له الأمر سخيفا كما يبدو لأي واحد فينا… أما محمود فقد كان يملك الخيال كله، والوقت كله…”

ومع تطور محمود في القراءة، بل وتعلمه اللغة الإنجليزية من غير معلم، ولك أن تتصور كيف ينتج هذا النوع من التعلم وكيف تكون لكنته!

“ذات مرة نطق لفظة”constitution” أي الدستور أمام أحد أساتذة الكلية كونستيتون. وقد انفجر الزملاء في الضحك، وغطت الفتيات أفواههن بالمناديل الورقية، بينما وصفه الأستاذ بأنه أبو جهل، وأنه ينطق الإنجليزية بطريقة الترجمانات…لكن الحقيقة أن لغة الفتى غير المنطوقة كانت تتحسن بلاتوقف، وجاء اليوم الذي أمسك به بأول تلك الكتب، وراح يطالعه في نهم فلم يحتج إلى أن يستعمل القاموس قط.”

يتخرج محمود في كلية الحقوق، ويعين محاميا بأحد الشركات، ويجبر على الزواج من محامية شابة جذابة “سلوى عمران” يتزوجها محمود إلا أنها تحتفظ بعذريتها كأي آنسة فاضلة ” شخصية محمود لم تكن من الطراز الذي يتزوج، وقد خلق ليموت وحيدا ككلب عقور، لكنه في الواقع تزوج…”  بدأ محمود فك طلاسم كتبه، بعد عكوفه عليها أعواما طويلة، وكانت أولى تجاربه الناجحة في استشراف المستقبل في التجول بسرادقات الحقيقة التي لاينبغي لأحد معرفتها، فضلا عن معاينتها فيرى مصرع  قمبيز وكيف التهمت عواصف صحراء مصر الغربية خمسين ألف غازيا في لمحة بصر، ليسمع أنين الجنود وصراخهم وتوسلاتهم وحنينهم لبلادهم البعيدة، وكذا يرى اندثار البشرية بعد تفجير قنبلة تودي بجل البشر على الكوكب، وكيف ارتد من بقى إلى بدائية أولى، وكيف تحولت نيويورك إلى أدغال ومستنقعات، لتحكم  الفئران والصراصير الأرض…”هرعت لغرفة النوم فوجدته على الفراش، كان راقدا، وقد فتح قدميه وذراعيه ليبدو كحرف”X” كبير، أو كأنه برص عملاق سقط فوق الفراش على ظهره، عيناه مفتوحتان زجاجيتان تحدقان في السقف ولاتريان. هناك عصابة يبدو أنه كان يحجب بها عينيه من النور، وكذا كانت هناك سدادات في أذنيه، لايريد أن يسمع حرفا، هذا رجل وضع نفسه في حالة حرمان حسي شبه تامة.”  ” إنه حي! أفاق من الغيبوبة قبل أن تبدأ، عيناه بلون الطماطم، وقشور تلصق شفتيه ببعضها، والأغرب هي تلك الخيوط اللزجة كخيوط العنكبوت تحيط بأنامله، وتغلف تجاعيد وجهه. ثم أدركت ماهو أغرب…شعر رأسه الفحم، قد صار أبيض كله…”

كانت رؤى فوق احتماله، فيشيخ الكهل الأربعيني، وكأنه عمر قرنا من الزمان، إلا أنه كان يعتمد شفرة رقمية غريبة في طيات لغة شاعرية غريبة في الإخبار بما يعرفه.

“ساد الصمت لفترة ثم عاد يتكلم:

١٥-١٣-١٢-٥——٦-١٦٠-١٩-٧——٢٢-٢٠٠ لاتفعل…لاتفعل…لاتخضع للإغراء لاتلتهم تفاحة الحب الآثم فتندم”

ولعل تلك النبوءة بالذات كانت تحذيرا للطبيب النفسي من خوض تجربة (الحب الآثم) مع زوجته “سلوى عمران” من ذؤابة شعره لإخمص قدميه، مرورا بأجزاء من جسده لا يحسن ذكرها!!

ولغرابة أطواره ومحاولاته المستمرة للانتحار، تودعه زوجته العذراء أحد المصحات النفسية، لتتعرف على الراوي الرئيس بالرواية الطبيب النفسي والذي سيوالي حالة “محمود السمنودي” وينجح في حل شفراته الرقمية، بمعاونة “سلوى عمران” مع انجذابه الجسدي الشبقي نحوها.

“…هناك كان واقفا على السور حافي القدمين، متمسكا بصاري الهوائي العتيق الذي لم يتخلصوا منه بعد، كان في لحظة الصراع النهائية قبل اتخاذ القرار، قبل الخطوة الأخيرة التي ستجعلة جثة راقدة في المشرحة، وخبرا في الصحف، وضيفا جديدا في الجحيم، كان عاجزا عن اتخاذ القرار، أو هو اتخذه لكن قبضته تمردت وتمسكت بالحياة فلم تتخل عن الصارية… أعتقد أن هذه المحاولات تكررت مرة أو مرتين، من العسير ألا تنظر لمن يعتبر الانتحار هواية كمريض نفسي يحتاج إلى العلاج”

أجاب “محمود السمنودي” حينما سألته إن كان ما يدرسه هو السحر…فأجابها بتلك اللغة الشاعرية التي ستتكرر كثيرا حينما يتحدث عن نفسه، ونبوئاته، مصيره، ومصير العالم.” ليس هذا هو السحر…ما أطالعه هو محاولة الإنسان لفهم الكون من حوله، سنموت دون أن نعرف…سنعرف بعد الفناء، ووقتها لن يفيدنا هذا العلم. ما حاوله هؤلاء هو محاولة النظر في المرآة لرؤية ما استغلق علينا…ما يدور في الأركان المظلمة…نعرفه ونحن بوعينا هذا…”

 لغة لافتة جدا اعتمدها الكاتب، لافتة لأنها مغايرة لسياق الرواية اللغوي العام المعتمد على سرعة الوصف بأبسط الكلمات، والإغراق في السخرية كعادة الراحل أحمد خالد توفيق، محاولا تقديم كبسولة علقم من الأحداث السوداوية في غلاف من العسل. لكن تلك اللغة التي ينطق بها محمود تشبه لغة الشعراء، وليس غريبا أن يقتبس من حين لآخر سطورا شعرية للشاعر المأساوي “صلاح عبد الصبور”. لغة هي أقرب ما تكون للغة “ميخائيل نعيمة” في رائعته “مرداد” أو لغة “جبران خليل جبران” في “النبي” ربما لتقارب شخصية “محمود السمنودي” من شخصيات “ميخائيل وجبران” وتساميهما عن مطالب الجسد ونبذ رغباته الحسية، وتبني نزعة روحية صرفة، أكاد أجزم بهذا، أن “توفيق” قد استلهم نمط لغة “السمنودي” وإصراره على تعذيب جسده ونبذ كل رغباته الحسية…من شخصية “ميخائيل نعيمة” “مرداد” وإليك نصا من نصوص “ميخائيل” بمرداد سأعقبه بنص من نصوص “السمنودي” لتلحظ التطابق الأسلوبي الذي لا تخطأه عين…

مرداد:

“ليس من ظلمة خالصة يا رفاقي . بل هنالك درجات من النور . فلكلّ صنف من المخلوقات درجة تفي حاجاته ، إن زادت عنها أعمته ، أو نقصت أعمته كذلك .

الحياة التي هي أمّ ــ كل أمّ تشفق على بناتها وأبنائها ، فلا تضع في حدقتي مخلوق من نورها أكثر مما يحتاج إليه ذلك المخلوق ليستدلّ على طريقه ، ولا تودع ساقيه من قوّتها أكثر مما يلزمه لقطع المسافة التي تخطّها له…

” وها أنتم، وقد حكمتم على أنفسكم بالموت،لاتتورعون من أن تجلسوا على منصة القضاء لتدينوا الذين قد حكموا على أنفسهم بالموت نظيركم. فيالفظاعة الحكم والحكام!

“” وهاهو عالمكم. إنه لعالم ثابت، ولكن فى عدم ثباته، وجلى، ولكن فى إبهامه،ودائم، ولكن بزواله، وواحد، ولكن بقلة ما فيه من وحده، إن عالمكم لعالم مهود تتحول أبدا إلى لحود، ولحود تنقلب مهودا. وعالم أيام تزدرد الليالى، وليالزتتقيأ الأيام. وعالم سلم يشهر الحرب، وحرب تطلب السلم. وعالم بسمات تعوم فى بحر من الدموع، ودموع تشع بالبسمات . إنه لعالم أبدا فى حالة مخاض . أما القابلة بجانبه الموت.”

 

 

السمنودي:

” لأن السعادة لا تمنح إلا لنفوس تعرف قيمتها. نحن نرث حكمة القرون يا إخواني، ومعها نرث غباء القرون كذلك الميراث لايتجزأ. مثل الفراش الناعم الذي لا حفيف لجناحيه يداعبني اشتهاء الموت، فأغمض عيني وأرى، إن النوم رحيم رفيق بي، أنا الذي تعذبني الرؤى والكوابيس، وهول ما رأيت. سفينتي جابت الكثير من الخلجان بحثا عن السلام، لكن لاتوجد خلجان ترضي بأن تلقي مراسيها عندها…”

” لنداء الأبالسة لاتخضعي. في الطرقات يتوارى الخطر، في المنعطفات، في السهول في الأخاديد، وفي كل خور منسي، شر الأكوان يمضي في موكب النصر مرتديا أكاليل الغار كل يوم، بينما لايبقينا أحياء سوى أمل واه في أن ننتصر نحن يوما. منذ الخليقة والضعفاء، ومهيضي الجناح، ومعدمو الحيلة يشتهون نصرا واحدا وكذا استمرت الحياة، خدعة تلو خدعة، جزرة تلو جزرة، ولولا الأمل الخافت لقطع كل منا حلقوم أخيه…”

لم يكن سحرا إذن، وإنما كان تجولا بائسا بسجلات الأكاشا…حلم المعرفة الكوني الشامل بما كان ويكون وسيكون…

كان محمود السمنودي قد أفلح في اقتحام “السجلات الأكاشية” (لفظ “أكاشا” لفظة سنسكريتية معناها السماء أو الأثير.).

 وبالبحث المضني وجدت نفس ما دونه أحمد خالد توفيق عن الفكرة التي قامت عليها الرواية فالسجلات الأكاشية (بالإنجليزية: Akashic records)‏ عبارة عن مكتبة ضخمة هائلة توثق كافة الأحداث في حياة الشخص بل للكون كله، تعرف تلك السجلات أيضا باسم كتاب الحياة ويفترض أن الأثير هو من قام بإنشائها، وكانت العرافة البولندية هيلينا بتروفنا بلافاتسكي (1831–1891) ادعت أنها استطاعت دخول تلك السجلات بطريقة ما فقد زعمت في كتابها العقيدة السرية أنها تعلمت هذه الطريقة من رهبان التبت، وزعمت أيضا أنها قد اطلعت على كتابهم السري “ديزان”.

 وادعى  العراف الأمريكي إدغار كايس (1877-1945) أن أغلب تنبؤاته أخذها من تلك السجلات حيث كان العراف يعطي إجاباته للناس وتنبؤاته وهو نائم، أو وهو في شبه غيبوبة يدخل وقتها إلى تلك السجلات، ويستمد منها المعلومات المطلوبة فلقب من أجل ذلك بالمتنبئ النائم كما أنه ادعى أنه يستطيع أن يحوي في رأسه كل خبرات البشر منذ الخليقة، هناك أناس جربوا دخول تلك السجلات عن طريق النغمات الرتيبة للأصوات أثناء الصلاة، أو عن طريق الريكي، أو عن طريق التعمق في التأمل، أو التفكر، أو بعزل حواس الجسم عن العالم المحيط حيث أن البعض يرى أن الدخول للسجلات مرتبط بما يسمى بالإسقاط النجمي، وعلى رغم من ذلك لا يوجد دليل علمي واضح وصريح على وجودها.

ينسج الراحل أحمد خالد توفيق شخصياته، تلتحم مصائرها حول نبوءات “السمنودي” كلهم كفراش يدنو ويسارع نحو مصرعه…

 “مصطفى أبوحسن” وكان قد انخرط منذ سني الجامعة بأحد جماعات الأصولية الإسلامية، إلا أن زلزالا يحدث فيغير قناعاته وهو ابن السابعة والأربعين، فبعد سقوط مشروع الإسلام السياسي، وجحد معظم إخوانه قناعاتهم السابقة، وكفر الجماهير بهم، يقع بنوبة شك في كل قناعاته السابقة، ويصدر مدونة إلكترونية بعنوان “لست أدري”، إلا أن لا أدريته تلك لا تخرجه من دوامة الصراع النفسي…

“كان السوس يعبث في روحه، عطن الشكوك يلتهم شجرة الإيمان التي حسبها راسخة، رطوبة تفتت وتشقق الصخور التي حسبها صلبة لاتفنى…”

بالتوازي مع تلك الأحداث بمصر، تحدث أحداث أخرى بأمريكا، خاصة بمقر البنتاجون إذ تكلف إحدى شخصيات الرواية وهو “مستر ريتشارد دواير” كاتب روايات الخيال العلمي، بكتابة سيناريو للأحداث المستقبلية والتي ستسقط أمريكا من عرش زعامتها للكرة الأرضية. وكانت زوجة “دواير””كاتي” قد قتلت ببرج التجارة العالمي، وقبيل مصرعها كانت قد هاتفته، سائلة إياه الدعاء أن تقتل بالصدمة العصبية، قبل أن تلتهما ألسنة النار المقتربة منها، لأنها لاتطيق كل هذا العذاب…

“تمن لي أن تقتلني الصدمة العصبية قبل أن تتمسك النار بلحمي فيذوب. قل لي أن العالم الآخر أكثر رحمة…قل لي أنني لن أحترق في هذا العالم، والعالم الآخر كذلك…”

د”بارتردج” يعتبره البعض مجنونا، والبعض أحمقا، وقليل جدا يعتبره عبقريا، درواني متعصب، بل يعتبر دارون نبيا، إلا أنه لايملك الدليل الدامغ على التطور، يصاب بسرطان متقدم، يخشى الرحيل قبل معرفته الحقيقة.”دائما تخنقه أسئلة بلا إجابات”.

وذات الشفرة الرقمية…والتي يعود أول رقم فيها لكتاب ما يملكه “السمنودي”، والرقم الثاني للصفحة، والثالث للسطر والرابع للكلمة… وهكذا استطاع كل من سلوى عمران والطبيب النفسي فك شفرات تنبأ بحدوث بركان بجزر هاواي، وآخر بحادثة تصادم قطار في “دمنهور” ولكنهم لم يبلغوا أحدا بذلك خشية عدم تصديقهم، واتهامهم في عقلهم، ولما حدث التصادم، وراح عشرات الضحايا، ومع شعورهم بالذنب، ودقة ما تنبأ به “السمنودي” قررا الإخبار بما ينبأهم به، وصدقا “السمنودي” في كل ما يدعيه.

تتجه إليه أنظار مخابرات العالم، بعد أن تنقذ إحدى نبوئاته البابا، والأهم من ذلك تلتفت إليه أنظار المخابرات المحلية، إثر نبوءة تنقذ”القائد المفدى” من اغتيال مدبر.

كان بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا، وككل ذلك النوع من الدجاج، فهو صبور جدا في إنتاج هذا البيض الذهب، وككل من يقع في يده هذا النوع من الدجاج دائما ملول، نافد الصبر.

“قال القائد المفدى، وهو  يهشم التوست بأسنانه:

-إن ما يمكن أن يقدمه هذا المريض لجدير بالاهتمام. يمكنه أن يتنبأ بأي محاولة قذرة أخرى، يمكنه أن يعرف من سيحاول الفرار عبر الحدود، ومن سيسلقنا بلسانه في صحف الغرب، ومن سيحاول أن يؤلب العمال والطلاب علينا، ويعرف من سيفوذ في الانتخابات القادمة.”

-“الحزب الحاكم دائما يفوز!”

-“يعرف خطط المعارضة!”

-“لاتوجد معارضة كما تعرفون، كلهم في السجون، أو ذابوا في الحمض!”

-“يعرف اتجاه الرأي العام.”

-“لايوجد رأي عام كما تعرفون، نحن نصنعه، الرأي العام هو ما تقوله صحفك وبرامجك!”

-“أنت ضيق الأفق، هناك إمكانات لاحصر لها مع رجل كهذا، المعرفة قوة، تلك حقيقة لايمكن أن تعلمها لرجل مخابرات يجيد عمله…!”

وفي لقاء بين السمنودي ودواير الذي جاء للقائه بالمستشفى  بمهمة  مخابراتية أمريكية، يبغته السمنودي بما عانته زوجة دواير أثناء احتضارها ببرج التجارة المحترق، بل ويخبره  آخر مكالمة تمت بين دواير وزوجته قبيل مقتلها…

“لم يكن موتها بطيئا أو سريعا…لقد هوت عارضة فوقها من السقف لكنها لم تقتلها…ظلت تحاول أن تتحرر بلاجدوى…ثم جاءت النيران…جاءت لتمسك بلحمها، وهي تدعو الله في كل لحظة أن تقتلها الصدمة العصبية …لكنها شعرت بكل لحظة من الألم وعاشتها كاملة الحياة قاسية  ياصاحبي…قاسية ولاتعبأ بمشاعرك الرقيقة… “

ويقع “السمنودي” تحت نقمة مخابرات الزعيم المفدى، يريدون معرفة كل شئ، يستعجلون “البيضة الذهبية” قبل أوانها، أو هم يريدون البيض الذهبي كله بضربة واحدة، ولكنه أثناء الاستجواب القاسي، يتمتم بنبوءة خطيرة تمس حياة الزعيم، ولكنهم كانوا قد تلهوا عن الفهم بهوايتهم المفضلة، حتى مات”السمنودي” أو ظنوا أنه قد مات، فيلقوا جثمانة بأحد الصحارى، هواية أخرى مفضله، أو قل هو أحد أبوابهم للبر، فإكرام الميت دفنه، يعود الزبانية، ليعلموا بانفجار قلب الزعيم المفدى، يفهمون مضمون نبوءة “السمنودي”، ولكن بعد فوات الآوان كالعادة طبعا.

ولكنا نفاجئ بانتقال السمنودي لكاليفورنيا، فهو قد تظاهر بالموت، أو كان قد اكتسب قدرة على التظاهر بالموت الحقيقي، أو …أو…، فكان قد اختفى عند مصطفى أبي الحسن، وأرسل رسالة مشفرة لدواير، وتم نقله في عملية مخابراتية لأميركا، فيستوطن”الليموري” اسم “السمنودي” الجديد بسفح جبل شاستا، والليموري لكثرة تحدثه عن قارة “ليموريا” المفقودة وكانت بالمحيط الهادي ما بين مدغشقر وأندونيسيا…

ولكنه يلاقي باميركا ذات المصير الذي لاقاه في وطن الزعيم المفدى…لا فرق بين نظام ونظام فالأساليب واحدة خاصة إن تعلق الأمر بالأمن القومي واعتباراته، إلا أن كل التباين يأتي في تحديد ماهية الأمن القومي ذاته، فهو لسوء الحظ مطاط يتسع  ويضيق حسب المزاج والحاجة، يتساوى بذلك نظام من أنظمة العالم الخامس أو نظام قطب اللليبرالية الأعظم…

ولكن كل من حظى بالمعرفة لم يلق السعادة، كلهم آثر الموت على الحياة، فدواير يهيم على وجهه بجبل شاستا حتى يلاقي حتفه، وبارتردج يلفظ أنفاسه الأخيرة بفعل صدمة المعرفة الغير محتملة… ليلاقي السمنودي حتفه على يد طبيبه النفسي ذاته، أو هكذا خيل لطبيبه النفسي حسب ما وعده محققه في السطور الأولى من الرواية…

“ستتكلم…سوف تحكي كل شئ…سوف تحكي كيف انفردت به…وكيف رحت تسدد له الطعنات…حتى لو كنت بريئا كالأطفال فنحن سوف نجعلك تعترف بهذا…”

فما الذي دفعه لقتل “السمنودي” غير عدم تحمله لكل تلك الجرعة من المعرفة الغير محتملة، فيسير عكس اتجاه الآخرين الذين دمروا الذات، ليدمر هو الآخر.

ليحقق في النهاية نبوءته” لاحظت أن من عرفوا بعض ما تعرفه أنت آثروا الانتحار، أو ظفر بهم الموت متعجلا، أو جنوا، دعني أخبرك أن العالم غير مهيئ للحقيقة الكاملة…”

“مثل إيكاروس” رواية للراحل أحمد خالد توفيق، عن دار “الشروق” 2016.

مقالات من نفس القسم