لم أفكر يومًا في زيارة القبور .. لكن المقابر كانت قدر، داخل هرم “زوسر” المدرج كدت أختنق طلبت من أمجد المعيد أن أخرج وإلا سأنام داخل التابوت الخالي ، درست أهرامات الجيزة ودهشور لكن دخول الهرم كان في غاية الصعوبة فلم أكررها ثانية، زرت مقابر “بني حسن” في تل العمارنة ، وصولا إلي البر الغربي دخلت مقابر وادي الملوك والملكات المزينة جدرانها بفصول كتاب الموتي، نزلت مائة درجة حتي وصلت إلي عمق مقابر كوم الشقافة ، لكن أكثر شيء بغضته هو غرفة عرض المومياوات في المتحف المصري دخلتها مرة وحيدة ، هي بالنسبة لي رمز صارخ لانتهاك حرمة موتي رحلوا من آلاف السنين ولو أن معجزة تحققت ببقاء أجسادهم فليس من الشرف التكسب من وراء هذه الأجساد تذكرة خاصة ثمنها بمائة جنيه!!
منذ عام كنت مع محمد في قرية الخالدية في الفيوم لتوزيع بطاطين هناك ، اختفي محمد ومعه الكاميرا، بحثت عنه حتى وجدته يقف بالقرب من المقابر على حافة أرض زراعية هناك ناديت عليه ورفضت الدخول، شرحت له مسبقًا في لمحة مبسطة تطور طرق الدفن في مصر القديمة – كان مشروع فيلمه الطويل عن سكان مقابر الإمام – ثم أشارت له أن المقابر ذو القباب الضخمة تعني أنها لعائلة ثرية ولاحظت أن بعضها مدرج .. ثم سخرت أن لحظة الموت تلاشي هذه الفروق .
في اليوم الثاني من عيد الأضحي الماضي ، كنت علي موعد مع بعض الأصدقاء لزيارة نزلاء مستشفي العباسية والمعايدة عليهم ، استيقظت مبكرًا علي حسب الاتفاق مع أندرو أن نتقابل بالقرب من ميدان التحرير في وسط البلد، لكنه اتصل بي قبل وصولي إلي شارع القصر العيني وأخبرني أنه سبقني إلي المستشفي ، فسلكت طريق مجري العيون ، كنت أظن أنني أختصر الطريق، وبعيدًا عن أي جدل حول طرق الذبح والتضحية في مصر التي لا مجال لها الآن ، كدت أتقيأ عشرات المرات من مشاهد المذبح والجلود ، بعد اجتيازي المذبح وبنهاية السور توقف الطريق مرة أخرى بسبب زيارات مقابر السيدة نفسية أتفحص وجوه النساء وأتساءل هل العيد بالنسبة للمصريين هو زيارة القبور؟ استحضرت صور ” النادبات ” المحفورة علي إحدى جدران مقابر سقارة ، على هيئة بائعات ورد القبور التي تعطل السير، حين عدت إلى المنزل في المساء، و أثناء تناول العشاء كانت وجبة تليق بالعيد ، حكيت لأمي عن زيارة القبور في الأعياد التي عطلتني في الصباح كيف يضيع الأحياء وقتهم في زيارة القبور بدلا من الاستمتاع بلحظات سعادة مع أحباءهم الباقين ، أوصيتها ” لما أموت مش عايزة أدّفن في قبور زي الفراعنة “، أنا أحب الحدائق والأشجار وأريد أن أدفن في حديقة، أو ساحة تأتي إليها الطيور لتلقط الحبوب ترتاح من الطيران ، لا أريد شاهد قبر يكتب عليه اسمي و اسم أجدادي، اكتبي قصيدة شعر أحبها .
البيت كان لجدي بناه في خمسينات القرن الماضي في دمياط ربما لهذا السبب أبغض جدي ، آخر مرة كنت هناك ، عندما أصر خال والدي أن نقيم عزاء في البيت علي الرغم أن أبي لم يكن هناك في تلك القبور، سافرت أنا و أخي لنفتح البيت الذي هجره أصحابه وانتقلت ملكيته لأبي ليحتفظ به ، ونحن من بعده، في المساء شاهدت أخي من الشرفة المطلة على المقابر، وهو يصعد درجات سلم المسجد مع المعزين ، لم أخرج إلي السيدات المعزيات المكتسيات بالسواد لا أجيد مجاملات العزاء، نمت في الغرفة وتركت الشرفة مفتوحة ، لم أسمع صوت الضجيج خارج الغرفة ولا صوت قرآن العزاء القادم من المسجد والذي ملأ الغرفة ، كنت في حالة تشبه الغيبوبة، ولم أشعر علي الإطلاق بمن دخل وخرج تركوني، بانتهاء كل شيء ونحن عائدون أغلقت صفحة هذا البيت انتهي للأبد من حياتي، لا يهم ما عشته هناك في طفولتي ، في الطريق قالت لي زوجة عمي أنهم علقوا أني لم أقابل أحدًا في العزاء ، ابتسمت ابتسامة سخرية قلت لها أني سمعت صوت طنط فاتن وهي تهمس في أذني أني كبرت عن آخر مرة ، جلست جواري ثم مسحت علي جبني وقبلتني .
أكتب لأني مثقلة بالمقابر وأكد على صيتي لأمي ، لم أزر يومًا قبر من رحلوا وتركوني ، حلمت بعدها أني فتحت درج مكتبي ووجدت فيه الشوكولاته التي أحبها وفي الحلم قالت لي أمي أن أبي تركها لي و أنا نائمة ، اتصلت بها لأطلب منها أن تشتري نفس النوع استقبلتها في المطار وسألتها عن الشوكولاته ، كانت تنظر لي باستغراب، و لم يناسبني ارتداء الأسود طويلا ، أعرف أنني سأعود إلي الكويت يومًا ما ولن يكون في استقبالي في المطار، سأذهب إلي المطعم المطل على الخليج و أتذكر أنه كان المفضل لدينا في الإفطار و سماع فيروز في المساء أتناول العشاء في مطعم أخر في صخب المساء سأبحث عن طاولة خالية تطل علي الخليج .
أكتب لأني تركت روايتي الأولي بعد انتهائي منها قبل عام تركتها بأمواتها و أحزانها ومازلت مثقلة بها ، هجرت روايتي الأخرى لم أكتب سطرًا واحدًا لمدة عام قضيته في قراءة ما لم أقرأه وهذا لا ينتهي ، طلب مني أحد أصدقاء أحمد أن نذهب لزيارته رفضت، زرت غرفته جلست بجوار مكتبه لطالما تشاجرت معه بسببه ، كان دائما ينسي كتبي علي مكتبه ولا يردها ، في عيد ميلاده العام الماضي اشتريت له كتاب استعاره مني منذ أكثر من عامين و لم يرده ، ضحك قلت له أنا لا أفرط في كتبي ، وجدته في مكتبته تركته مكانه ولن أتشاجر من أجله مرة ثانية ، سوف أحتفظ برواية ” نادي السيارات ” أخر رواية استعرتها منه ، وهو لن يطلبها، لأن آخر شيء يكون أخر شيء يتركه الراحلون.
في آخر مرة تحدثت مع أحمد مكالمة طالت لساعتين كان يحاول إقناعي بالسفر معه إلي الجبل ، وأنا على العكس كنت أحاول أقنعه بالعدول عن السفر فالجو بارد وكنت أبرر بتجربة جبل موسي ، واتفقنا أن فور عودته أننا سننفذ مشروعًا خاصًا به ، و أني سأرسل له روايتي لقراءتها هو يعرف أنني انتهيت منها في 28 من نوفمبر 2013 وانتظر الرد من إحدي دور النشر في منتصف فبراير، فتحت اللاب توب وقرأت له أول سطورها
” لقد محوا جغرافية المكان. لم يُدرِكوا أن التاريخ يُصنَع بأيدي أناس عاشوا وماتوا على هذه المساحة المقطوعة من الخرائط، بعد أن سرقوا ساعات ودقائق من الزمن الذي لا يتوقف قبل الفراق أشتاتًا، وحين يرحلون يحملون معهم حياةً كاملةً، فمهما بَعُدَت المسافات يظلّ الأمل المفقود أنَّ الغائب سيعود يومًا ما. “
استيقظت علي رسالة من صديق ” رضوى في ذمه الله ” ، حمدت الله أني نمت باكرًا ولم أنم حزينة، فتحت الفيسبوك من الموبايل كنت متوقعة ومنتظرة ، تمكنت مني الدموع ، فتحت الاب توب شاهدت صوري مع رضوي التي التقطها أحمد يوم توقيع مجمل أعمال مريد ، حمدت الله أني احتفظت بها علي للابتوب ضاع مني كثير من الصور بضياع موبايل أحمد ، ثم فتحت صفحتي الشخصية علي فيسبوك قرأت تعليق أحمد على صورة “رضوي مدريد وتميم بيتصوروا مع هديل ” فابتسمت .
كنت قد اتخذت قرارًا بعدم النشر ، ولكن يوم 31 من ديسمبر عام 2014 حمل معه حزن جديد وفاة المصور شاب الأردني كان يغطي الحرب السورية في ريف إدلب ، تخونني الكلمات في وصفه يكفي أنه كان مريض سرطان وطاقته في العطاء أضعاف طاقة الأصحاء ، أنا مدينة لمحمد الحويطي بكل حرف كتبه علي أوراقي و الخرائط التي رسمها يوم جلسنا بعد ساعات العمل في إحدي مقاهي الزمالك و أصر علي دفع الحساب حاولت اقناعه أنه ضيفي في مصر، قال أنه بدوي وسينتظري أحل ضيفة عليه في الأردن ، عاد إلي الأردن و ظل يرسل لي التقارير التي قام بتصوريها كان يجيب عن كل استفسارتي دون كلل أو ملل .
اشتقت للكتابة كاشتياقي لدخول المطبخ لصناعة طبق السلطة ، طبق يومي اعتيادي، لكن أحب أن أصنعه بيدي ، أرتدي مريلتي ، وأفتح الراديو، أجمع الخضروات في مصفاة و أغسلها ، أسحب لوحة القطع المفضلة لدي، أقطع الخضروات بدقة بأحجام صغيرة ، لأني لا أحب السلطة ذات الحجم الكبير، قمة سعادتي هي إضافة الخس والذرة في النهاية ، احتار ما بين تتبيلة الزعتر أوالريحان ، يكون مذاقه عادي لكن شعوري غير عادي ، لو لم أكن أكتب لأقنت عزف البيانو أو لأتقنت التطريز .
أنا لا أمتلك في هذه الدنيا غير ابتسامة سأتركها في زوايا الأماكن يومًا عندما يحين وقت الرحيل، لم أكن عبوسةً في وجوهكم، أنا محظوظة، كنت صديقة بشر أقرب من السماء إلى الأرض ، وآمنت أن القدر هو القدر لا يمكن تغيره ، لذا سأجمع الضحكات من الصور والأماكن وأحفظها بقلبي لتكون وحدها زاده . وكما قال درويش ” عندما تريدون الرحيل ، ارحلوا لكن لا تعودوا أبدًا .. كونوا للرحيل أوفياء .. لعلنا نكون أيضا لنسيانكم مخلصين ”
31 ديسمبر 2014
نُشرت في مجلة إبداع إبريل 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هديل هويدي قاصة مصرية
صدر لها “كيوبيد تيوليب” ـ مجموعة قصصية
ويصدر لها قريبًا رواية (اليد البيضاء)