لدواعي السفر والصور

لدواعي السفر والصور
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قبل أن تسافر صديقتي إلي أميركا، أمضت ساعات طويلة وأيام تحاول تدريبنا علي التواصل معها عبر كل ما يمكن العبور من خلاله في محيطات التكنولوجيا، ونجري الاختبارات في تطبيقات صوتية ونداءات: حول حول، نذهب لشراء أغطية لـغرف النوم مشابهة وأدوات للمطبخ تأخذها معها، وأخزنها أنا لبيتي الجديد، فكان يفصل بين زفافي وزفافها أربعة أشهر، لم أكن معها حينها ولم تكن معي، تبادلنا الصور، لترتيب البيت ، وتفاصيل فساتين الزفاف والموديلات وما يناسب الخصر وكل هذه الأمور التي تشغل بال المقبلين علي حياة جديدة، وبعد سفرها واستقرارها هناك قل التواصل واكتفينا جميعا بـ لايكات عابرة وتعليقات وتهنئات في الأعياد والمناسبات.

صديقتي المهاجرة، كما نقول بالبلدي “قطعت فيّ”، شعرت بفراغ بارد جدا في حياتي بعد سفرها، لم يمر على يوم دون أن أفكر فيه ، أو ازور مطعم جديد فأردد “هذا كان سيعجبها”، لكننا في كل مرة نتواصل فيها ونقطع الأميال من الحكايات لمجرد أن نثبت لبعضنا البعض إننا هنا ومازلنا كما كنا، “تقطع فيّ” أكثر وأكثر .

وأجدني مندهشة أمام نفسي، لم أكن أتوقع أن وجع السفر مؤلم هكذا، مع إني اختبرت سفر الأهل والأحبة من قبل، أم إني الآن اكبر وقدراتي تنتهي، آو أني أصبحت هشة، لا أقاوم متغيرات البيئة المحيطة من كدمات نفسية عالية الموجة!

الغريب أنى مازلت اندهش من نفسي، في كل مرة اردد “مرحبا بكم بالوصول لقاع الاندهاش” ثم أجد بعدها دهاليز أطول وأطول!

ثم انشغلنا جميعاً، كما ينشغل المنشغلون باشتغالات لا شغل لها ولا مشغلة، وفي خطوة غير متفق عليها، جمعنا مرة آخر مربع ازرق صغير من التكنولوجيا، نحكي فيه عن إنسانيتنا التي تطير دون أن ندري، صنعت لها غطاء ملون من القماش لدفتر تدوين جديد، من بقايا فستان ذي ورود صغيرة، كنت قد ارتديه معها حين سرقنا من العمر أربعة أيام وذهبنا إلى البحر، علها تدون فيه جزءاً من قصصنا البسيطة.

في تلك الفترة، كانت صديقة روحي، المقيمة في دبي، قد قررت أن تقطع علاقتها بالفيسبوك إلي الأبد، في محاولة شريفة منها، للاستمتاع بحياتها. فأعدنا ترتيب الأوراق ، نلتقي علي انستغرام صباحا، وبعد المغربية علي الواتساب ، نتبادل الصور، ونرسل مقاطع صوتية في هيئة تقرير لكيف الأحوال والأفكار والأحلام ، يأتي صوتها كالعادة، عذبا حنونا مُرتبا، يزيح عنى تراب اليوم القاسي، ويذهب صوتي، كصوت دبلجة أفلام الكارتون، حتي في أشد المقاطع فقداً وشوقاً، يجعلنا نفكر في إصدار مسلسل قريب أو فوازير!

تنشئ مدونة جديدة للكتابة كما كنا نفعل قديماً، تلك الفترة الغزيرة الإنتاج من المشاعر والتفاصيل والحب والكلام ، تدفعني مرة أخري للتفكير في التدوين..لكنه الكسل القاتل.

وبالرغم من كونها منذ معرفتي بها في بلاد أخري، تفصلني عنها مواقيت المدن والصلاة، إلا أنى اعترف أنها بابتعادها عن الفيسبوك “قطعت فيّ” أيضا!

ثم تأتي الضربة التالية، بعد زفاف ابنة عمتي، وصديقتي الصغيرة الجميلة، بسفرها للإقامة مع زوجها بالسعودية، قبل أن أدرك ما يحدث، كانت هناك .. قبل أن نسهر أكثر في منزلها الجديد، قبل أن نتبادل معا الحكايات الجديدة من فصول حياتنا، وباستخدام التكنولوجيا، أصبح التردد متقارب بشكل ما، فتخطر علي بالي، فأسمع صوت تنبيهي برسالة جديدة منها، نتبادل الصور والصور، لوصفات الطهي، وآخر المقالات، ونزهات الظهيرة وآخر الأسبوع.وتبقى التكنولوجيا  لتهون الأمر كثيرا، متخيلة إذ ما أخذنا خطى جيل الآباء والأمهات ، في فنون المراسلة والخطابات وتسجيل أشرطة الكاسيت .

وسلمي علي عمك يا سارة في بق سماعة الكاسيت

وفي سياق متصل، وكما نتبع في إعداد التقارير الإخبارية، فاجأتني صديقتي الثالثة، باتباع شغفها والسفر للعمل في سوهاج، علي أن تعود إلي القاهرة، في زيارات مفتفتة شهرية، وذلك بالتزامن مع إقامتي المؤقتة بالقرب من منزلها .حينها لم تترك لي فرصة لأتوه واحزن أو يصيبني الضيق ، كعادتها دائما في مفاجأتي ومباغتتي بفعل الحياة والأمل .

فما كان منا إلا جلسة أنيقة للسلام المؤقت في مقهى أنيق، نرتب كيفية الالتزام بالتواصل وتفسير الأحلام، وتبادل الكتب، والفساتين ، “عشان كل ما حد يوحشه التاني يلاقيه!

تلك القصص البسيطة ، المكررة في علاقات أخري بأفراد آخرين ، تأتي مرة واحدة ، بفصول متتالية من التجديد ، تٌربك ثوابت المكان والعلاقات ، هذا الضمان أن فلاناً هنا فانا مطمئنة ، حتى لو لم نلتق بالشهور . ولكن تلك المحاولات الحريصة جداً علي الحياة ، جميعها تتشابه وتتشابك ، تؤذيني وتُهدد روحي بشكل متساو، تتحد كلها بدون تخطيط لتصنع طوق رقيق من حولي، يؤنسني طوال الوقت ويشغل بالي دائماً ، علي أمل أن تجمعنا أرض واحدة بعيداً عن تطبيقات الهواتف والصور.

 

مقالات من نفس القسم