د. محمد مصطفى الخياط
صمت وسكون وهدوء. أضواء ليلية فضية تغمر المكان، بعض فراشات بيضاء وأخري ملونة تشاغب خيوط النور، ينحدر شلال النور إلى أرضية حديقة تتناثر في أرجائها أشجار الفيكس تطل من بين أغصانها كثيفة الأوراق عصافير ملونة، وأشجار تين أحنت فروعها ثمار يسيل عسلها على أجنابها، وأشجار رمان تفسخت حباته وضجت بلونها الأحمر الشهواني، ونخلات –بين الطول والقصر- محملة بعراجين بلح في متناول اليد، يمام أبيض وطيور قمري تطير وتقف على الأغصان، في جانب بعيد يتأرجح زورق بلوري على صفحة نهر من عسجد، يتلهف وصول المحبين كي يستقلونه إلى حيث لا نهاية ولا بداية.
يظهر في وسط المشهد شاب وفتاة يرتديان ملابس فضفاضة بيضاء مُشربة باللون الأزرق الشاحب، أقرب لملاكين منهما للبشر، يمسك الشاب يد الفتاة وينظر في عينيها بفرحة، ويدور بها ببطء ويحدثها؛
– أخيرًا .. أخيرًا يا حبيبتي .. ربنا استجاب دعائنا ولقينا كوكب لوحدنا
تمسك بكفيه، وتغمض عينيها، وتقول بفرح طفولي
– يااااااه … مش مصدقة نفسي … معقولة .. هي الأحلام سهل تتحقق كده
– لأ وإيه، كوكب على قدنا
– مقاسنا بالظبط !!!
– شايفة الفراشات الجميلة
– ولا ضوء القمر… مِزَهَر
– أمال ها تقولي إيه ع اليخت
تتلفت حولها باحثة عنه بعينيها
– فين ده.. معقول المركب اللي بتضوي نور دي مركبنا
– ده مش نور.. ده بيغمز لنا، بيقول لنا اتفضلوا علشان تتفسحوا
تنظر في عينيه وتقول بسعادة بالغة
– حقيقي مش مصدقة.. طب فين الزحمة اللي في الشارع والدوشة، الناس راحت فين.. وفين المحلات… والخناق، و..
– حبيبتي خلاص.. الكوكب ده تمليك، لينا إحنا وبس
– ياااه… أشكرك يا رب
– الحمد لله
– بقولَك إيه، أنا جعانة قوي، الفرحة جوعتني
يرد باستنكار
– جعانة وحوالينا كل الفاكهة دي، (يمد يده ويقطف من الأشجار والنخيل ويناولها)، اتفضلى، تين بالهنا والشفا، خوخ من قلة الكسوف مكشوف، وإيه تطلبي عنب أبيض، ولا أحمر، ولا أسود، ولا أقولك اتفضلي البلحتين دول، كبسولات عسل مصفي …
تأكل بشهية عالية وتقول وهي تمضغ
– الله … مممممممم … مسكر قوي
– بالهنا
– اتفضل يا حبيبي دوق التوت
– الله ألوانه تجنن.. سبحان الله… اشتريتيه منين
– اشتري إيه بس.. حبيبي أنت نسيت.. ده الكوكب بتاعنا
يضرب جبهته بكفه ويقول
– آه والله.. الواحد عقله اتلخبط
– صدقت يا حبيبي
– دا حتى الواحد مش بيلحق يدور ع الحاجة.. أول ما تيجي في باله يلاقيها قدامه
– فعلاً.. إيه ده.. إيه ده.. شايف يا حبيبي الميه كأنها في كوبايه
– هي فعلاً في كوبايه بس من رقتها مش بنشوفها
– خلاص أنا دخت.. أنا خايفة
– خايفة؟ من إيه؟
تسأل بتردد
– هي.. هي..
– هي إيه؟ اتكلمي !!
– هي السعادة ممكن تجنن
ينظر نحوها مستغربًا ضاحكًا ويجيب بصوت مسرحي متقمصًا الحكمة
– والتعاسة ممكن تجنن !!
– التعاسة؟.. طب إيه الفرق بين السعادة والتعاسة إذا هما الاثنين ممكن يجننوا
– سؤال وجيه !! (ثم يكمل هازئًا)، ممكن تقولي واحدة تجيب جنان مفرفش والثانية جنان مقريف
يضحك بصوت عال، فتمسك بكفيه وترتعش وتقول بصوت مهزوز
– حبيبي أنا خايفة؟
– خايفة من إيه؟
– السعادة اللي احنا فيها تروح
– تروح فين بس؟.. خلاص، احنا بقينا لوحدنا، الكوكب ده ملكنا.. (ثم يكمل حديثه مُنَغِمًا كلماته كمن يدندن)، بقينا لوحدنا والكوكب ملكنا، بقينا لوحدنا والكوكب ملكنا، بقينا …
تقاطعه
– بس أنا خا…..
فيقاطعها بدوره
– ياااه ع النكد، مالك؟؟، ما كنا كويسين !!
– أبدًا يا حبيبي، بس خايفة
– هو الخوف ده مش ها يسيبنا بقي، قبل ما حلمنا يتحقق كنت خايفة ما نلاقيش ندفع أقساط الشقة، وخايفة ما نلاقيش ندفع أقساط العربية، وما نلاقيش ندفع مصاريف المدارس… (ثم في ذهول) يا لهوي !! المدارس، هي الولاد فين
– الولاد؟؟ الولاد؟؟، مش عارفة؟
– نعم نعم يا ست هانم؟
– الولاد فين !! الولاد فين يا عبدالله …
– أنت بتسأليني، هو أنا ها اعمل كل حاجة، أدور على كوكب وادفع دم قلبي أقساط وأفرشه وكمان عايزاني أخلي بالي من الولاد
– ألله، هم مش ولادك برضه، وبعدين هو أنا اللي دعيت ولا أنت؟… أنت اللي دعيت نسكن في كوكب اثنين ساكن
– يعني إيه؟.. دعيت غلط..
– أيوه !! كنت عملت حساب الولاد
– أيوه؟؟ بعد ده كله أنا اللي غلط
– طبعًا، مش نسيت الولاد
– كنت فكريني! ولا فالحة تاكلي عنب ولوز ورمان ومشمش لما بقيتي زي الفيل
– أفكرك؟ (وهي تبكي)، أفكرك بعيالك يا عبدالله
– أيوه تفكريني بعيالي اللي نسيتهم في زحمة هات هات هات، وكأن الدنيا ما فيهاش غير هات
تبكي بحرقة وتصرخ في وجهه
– ما ليش دعوة، أنا عاوزة عيالي، هات لي عيالي
– برضه هات
– جننتيني، ما فيش حاجة عجباك
– هات لي عيالي… عيالي هما جنتي.. هاتهم وكل حاجة تعجبني
– أجيبهم منين، ما خلاص.. احنا في كوكب غير الكوكب.. تلاقيهم في زحل دلوقتي !!
تمسك بياقة قميصه وتجذبه في عصبية وتصرخ في وجهه
– عياااااالي…
– …….
تخفت الإضاءة ويختفي المشهد ويحل محله غرفة نوم متوسطة الحال، ضوضاء قادمة من الشارع، الرجل ممدد علي السرير مرتديًا جلبابًا متواضعًا، يتقلب كمن يحاول الهروب من كابوس، ويبرطم بصوت غير واضح (عيالي .. عيالي عيالي عيا..)، تهزه زوجته التي يظهر عليها آثار أكل المفتقة وتحاول إيقاظه
– بسم الله الرحمن الرحيم، عبدالله، عبدالله، اصحي يا خويا،
يهب مذعورًا منكوش الشعر رافعًا نصف الأعلى ومتكأً بذراعيه على السرير، ويرد عليها بصوت متهدج، كمن أخرج رأسه للتو من تحت الماء
– هه .. هه.. يا ساتر.. يا ساتر
– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تلاقيه كابوس، اصحي انت الحمد لله كويس.. انت في بيتك
ينظر حواليه مستغربًا
– بيتي وكويس.. أنا إيه اللي جابني هنا يا طن
تنظر إليه بغيظ وتقول
– أما إنك راجل ناقص صحيح، بقي اصحيك من الكابوس وتقولي طن برضه، فشر دا أنا غزال
ينظر نحوها هازئا
– كابوس؟ وغزال كمان؟؟ عوضنا على الله !!
تنظر نحوه ولا ترد، فيسألها
– هم الولاد فين؟
– ولاد إيه يا راجل؟ انت سخن؟ ولا يكون عندك كورونا ومش واخد بالك؟
– آه صحيح، إيه السؤال ده، الولاد في بيوتهم
– خير يا جدو!!
– فشر، جدو مين… أنا لسه شباب
تنظر إليه نظرة ذات معني وتقول محركة ذراعيها السمينتين
– يا راجل دا انت ع المعاش من عشر سنين !! ولا نسيت
يرد بغضب المغلوب على أمره
– ما نسيتش أففففف
– قلت لك بلاش تنام بعد الغدا، آهو البط والمحشي كبسوا على نَفَسَك
– يا ريته كبس وريحنا
– بعد الشر عليك
– قصدي كبس وريحنا منك
– أما راجل دون صحيح
– والله انت اللي دون، يعني تنطي لي في الكوكب اللي تعبت لغاية ما لقيته وفرشته بمزاجي وخليته آخر آلاجه، ودانك ورايا لغاية ما طفشتيني من الحلم على ملا وشي، قال إيه نسينا العيال، ولما اصحي اكتشف إن ما فيش عيال
– …..
– طب اعمل فيك إيه؟
– تنزل تصلي العصر وتجيب لنا عشر ارغفة عيش أسمر علشان الرجيم، وتعدي على أم عادل تشتري فطير مشلتت وبيض بلدي، ولو لقيت زبدة فلاحي هات، وتجيب لي والنبي نص كيلو هريسة سخنة من أبو عجينة الحلواني، و..
يضع رأسه بين كفيه ويتمتم
– رحمتك يا رب، قادر تخلي طن نص كيلو، والا مش لازم خالص.. بناقص واكملها أحلام والنبي يا رب
يرتمي على السرير ويضع المخدة فوق وجهه
تمت