هناء متولي
السقوطُ في نفقٍ مُظلمٍ
رغم أنه يوم عُطلة فإنها استيقظتْ مُبكِّرًا، تصحو دائمًا مع أشعَّة الشَّمس الأولى، يبدو أنَّ النوم العميق والتأخُّر في الصحو للمُترفات فقط، نظرَت إلى زوجها الغارق بجوارها في نومٍ هادئ.. وآثَرَت ألَّا تتركَ الفراش حتَّى لا تقلقه.. أخذَت تتأمَّلُ وجهَه الجميلَ الذي طالما عشقته، تُفكِّر كيف تقعُ في غرامه في كُلِّ مرَّة تحتضنه عيناها طوال سبع سنواتٍ هي عمر زواجهما.. تتذكَّر عندما أخبرها ذاتَ مرَّة أنَّه مضطرٌ إلى هجرها نتيجة ضائقةٍ مالية.. تتذكَّر أيضًا يوم رأته يسترقُّ النَّظر إلى ساقيّْ زميلته.. ومرَّة أخرى عندما أخبرها أنَّ صوت جارتها سها ناعم جِدًّا كوجهها، وأنَّها تجيدُ طهي الطعام الذي تصل روائحه الذكيَّة إلى أنفيهما كل يوم.
أخذت الذكرياتُ تتتابع أمام عينيها في وضُوحٍ بالمشاعر نفسها التي مرَّت بها حينئذ.. ذكرى تثير محبة.. وأخرى تترك وجعًا.. وثالثة تبعثُ أملا، لكنَّ أكثر ما كان يهزم روحها ويكسرُ قلبها هو تذكُّرها الواضح لكلِّ تفاصيل ومشاعر اليوم الذي عاد فيه زوجها مدحت من عمله غاضبًا بعد أن تَمَّ فصلُه ولم يكُن قد مرَّ على زواجهما سوى شهر واحد..
ـ من الأفضل أن تعُودي إلى بيت أهلك؛ لتجدي هناك طعامًا كافيًا وفِراشًا دافئًا.
ـ أنا أُفضِّل الموتَ جوعًا وبردًا، على أن تغيبَ عن عينيَّ لحظة.
ـ دعكِ من هذا الهراء.. أنا لا أمتلكُ الآن ثمنَ فنجانين من القهوة حتَّى..
هراء.. كل هذا الحُب الذي واجهَت من أجله أهلها وتحدَّتهم وتركَت دراستَها وراهنت عليه.. كلُّ ما صنعته بدمها يريدُ هدمه الآن عند أول مأزقٍ يواجه زواجهما، كان تفريطها في الكثير من قطع أثاث البيت هو ما جعلهما يملكان الآن أكبر معرض للأثاث المُستعمل في البلدة.. لقد استطاعَت أن تُحوِّلَ الكارثة إلى تجارةٍ كبيرة..
الساعة الآن تجاوزَت التاسعة.. تسلَّلَت صفاءُ من الفراش بهدوءٍ إلى المطبخ؛ لتُعِدَّ إفطار يوم الجمعة الشهي.. تناولَت الطعام في الحديقة الخلفية للمنزل مع مدحت وولديها عمر وآدم تحت أشعَّة شمس مارس الدافئة.. أكثر ما كانت تُحبُّه في إفطار العطلات هو تحلُّقُهم حول المائدة.. والشهية الجامحة.. والمرح المتبادل، ولكنَّ صفاء جزعَت؛ عندما لمحَت ديدان سوداء تنسال من فم عمر وهو يتناولُ الحليب؛ أسرعَت إليه وجذبت الكُوب من على فمه وألقته أرضًا حتَّى إنَّ صوتَ تحطُّم الكوب أفزع الصغيرين كثيرًا.. أخذت تفتح فمه بقسوةٍ من دون وعي.. وعمر يقاومها بعفويَّةٍ وخوفٍ.. وآدم يشاهدُ ويبكي.. مدحت يجذب الولد من بين يديها ويحتضنه بينما الجميع ينظرونَ إليها بدهشةٍ..
ـ إنَّ الديدان اللعينة تملأ فمه.. اتركني لا بُدَّ أن أُخلِّصه منها..
مدحت يطلبُ من الصغير أن يفتح فمه.. ويُقرِّبه من عينيَّ والدته حتَّى تتأكَّد من أنَّه بخيرٍ ولا وجودَ للديدان داخل فمه. في اليوم التالي، ذهبَت صفاء إلى معرض الأثاث المستعمل الذي تملكه وتديره مع زوجها بينما سافر هو إلى بلدةٍ مجاورةٍ لحضور مزاد أثاث ضخم يُقام سنويًّا، بعد الظهيرة كانت تستعدُ لاستقبال زبائن فرنسيين علموا بحصولها على قطع أثاث قديمة وثمينة من عجوزٍ أرمينية، تلك العجوز اللئيم حصلَت منها على مبلغٍ طائلٍ لم تدفع نصفه في أي مشتريات من قبلُ.. لكنَّ القطعَ نادرةٌ ولا تُقدَّر بثمن، وهي تدرك جيِّدًا أنَّها تستطيعُ أن تطلب ضعفيّْ المبلغ من الخبراء الفرنسيين الذين عَبَّروا عن إعجابهم بحُسن استقبالها وذكائها الملحوظ وعينيها الخبيرتين في اختيار كل قطعة أثاثٍ داخل المعرض، لكنَّها أفاقَت مساء في المستشفى الخاص القريب من المعرض وحولها مدحت وولديها وأخت زوجها.. كانت تعاني من جروح قطعيَّة في يديها وعنقها وأعلى جبهتها..
ـ ماذا حدث؟ من أتى بي إلى هنا؟ لماذا أشعر بألمٍ ودوار؟
طلب مدحت من أخته أن تنصرف بالولدين إلى بيتها وتهتمَّ بهما.. قَـبَّل الصغيرين والدتهما بعفويَّة، ولمَّا تأكَّد من ابتعادهما؛ أمسك يد زوجه برفق..
ـ لا بُدَّ أن نجد علاجًا مناسبًا لنوبات الغضب التي تجتاحُكِ أخيرًا..
ـ أيُّ نوبات؟ وأيُّ غضب؟ أنا لا أفهمُ شيئًا..
ـ أثناء جلوسكِ مع الخبراء الفرنسيين بينما تستعدُّون لإتمام الصفقة؛ أمسكتِ تمثالا من الكريستال وحطَّمتِهِ وأخذتِ تجرحين نفسك بشكلٍ هستيريٍّ.. ولولا تمكُّن العُمَّال من السيطرة عليكِ؛ لكنتِ جرحتِ رقبتكِ بجرحٍ غائرٍ..
كان من الطبيعي أن تنقطعَ عن العمل وترتاحَ في منزلها قليلا وتخضعَ لعلاج نفسيٍّ، باتَت بطيئةَ الحركة كأنَّها لا ترغبُ في استئنافِ حياتِها بشكل طبيعيٍّ، في تلك الأثناء دأبَت جارتها سها على خدمتها والاهتمام بشئون البيت والصغار.
ـ من المؤكَّد أنَّكِ تشعرين بمللٍ.. ونحن لا نريدُك أن تُصابي بالاكتئاب، هيا نأخذ آدم وعمر إلى الملاهي.. وسأصطحبُ طفلتيَّ مي وفرح.. تحتاجين إلى استنشاق الهواء المُنعش وإلى التَّعرُّض للشمس..
وافقَت على عرضها وأبدَت لها امتنانًا خاصًّا.. في الملاهي، ذهبَت سها لإحضار الحلوى للصغار وتركتهم بصحبة صفاء التي تتابعهم أثناء لعبهم.. ولمَّا عادَت؛ وجدت رجال الأمن يحاولون تخليص ولد صغير من قبضتها حيثُ كانت مُصِرَّة أن تقتله.. وتصرخ:
ـ إنَّه شبحٌ.. لا بُدَّ أن أقتله قبل أن يقتلَ صغيريَّ..
كانت شهادة طبيبها النفسي بأنَّها تعاني من هلاوس سمعية وبصرية ووسواسٍ قهري بمثابة الإفراج المشرُوط عنها ونقلها إلى مستشفى الأمراض النفسية.
أمضت ليلتها الأخيرة بين أحضان ولديها قبل أن تنتقلَ إلى ذلك المكان المجهُول المليء بالمجانين الخطرين، كانت بالطبع تحت مراقبة زوجها وأخته اللذين خافا أن تؤذي الصغيرين، زارتها سها وزوجها عماد الذي همس لها حين سنحت الفرصة وطلب منها أن تقابله بعد منتصف الليل في حديقة المنزل الخلفيَّة لأمرٍ يتعلَّقُ بحياة صغيريها، بعد انصرافهما اعتقدت أن ذلك جزءٌ من أوهامها، لكنَّها تنبَّهَت إلى رسالة في هاتفها من عماد يخبرها أنَّه في انتظارها الآن، قامت من فورها وتوجَّهَت إلى الحديقة الخلفيَّة للمنزل..
ـ إيَّاك أن تستسلمي لهما.. مدحت وسها هما مَن يفعلان بكِ كُلَّ هذه الشرور حتَّى يستوليا على نصيبكِ في معرض الأثاث.. إنَّ كلَّ حساباتكما وأملاككما مشتركة.. وفاتكِ أو إصابتكِ بالجنون هما الحلَّان الوحيدان لحصولهما على الأموال والزواج بعد أن يتخلَّصا منكِ ثُمَّ مِنِّي..
أخرج لها صورًا تجمعهما معًا.. ومكالمات مُسجَّلة يتَّفقان فيها على أن يضع لها مدحت حبُوبًا مُخدِّرة تثيرُ الهلاوسَ والتشويش.. وأحجبةً يدسُّها تحت وسادتها وبين ملابسها لعلَّها تأتي بالنتيجة المطلوبة.. ومكالمة أخرى تُخبره فيها سها بإعطائها الحلوى لولد في الملاهي حتَّى يهاجم آدم أمامها.
ـ الخائن يستحقُّ القتل..
ـ إنَّهما يلتقيان كل يوم عند الثانية فجرًا في غرفة الغسيل المنفصلة عن منزلكِ، لو قتلتهما وكففتِ عن تناول الأدوية وعادت إليك سلامتك؛ ستخرجين من المستشفى فورًا.
تتَّخذُ صفاء قرارها، وتُنفِّذه بحذافيرِهِ.. ولمَّا سألها المُحقِّقُ في وجود طبيبٍ نفسيٍّ عن دوافع ارتكابها لجريمتها..
ـ خانني زوجي معها، وكان يضعُ لي أدوية تُصيبني بالهلوسة حتَّى يتخلَّص منِّي.. رأيتهما معًا بعينيَّ.. وقتلتهما
ـ لكنَّك قتلتِ زوجَك وأخته..
ـ لا، كانت سها.. زوجها مَن أخبرني بخيانتهما..
ـ صديقتُكِ سها ماتت مع زوجها وطفلتيهما منذ عامين أثناء سفرهما..
تسقط صفاء في نفقٍ مظلمٍ من الذكريات.. تسمع أصواتًا مختلطةً تستطيعُ أن تُميِّزها جميعًا.. صوت مدحت وهو يصرخُ.. صوت سها التي ودَّعتها قبل سفرها مع زوجها وصغيرتيهما.. صوت عماد الذي همس في أذنها.. أصوات صغارٍ يبكون.. تُحاول أن تصمَّ أذنيها ولكنَّها لا تزالُ تسمع.
***
سببٌ مفاجئ للنَّوم الطَّويل
حتَّى أنَّها وبعد أن توقَّفَت لدقائق تلتقطُ أنفاسها كانت لا تزالُ تلهثُ، ينضحُ جسدها عرقًا، وتتعثَّرُ رؤيتها من القطرات المُملَّحة حول عينيها، الشمسُ في وسط السماء ترسلُ أشعَّة حارقةً، والميدان فارغٌ تمامًا إلا منها.
مَن يصدق خلو ميدان التحرير من الناس وحركة السيارات في ظهر أغسطس؟
مسحَت عرقَها بطرف قميصها، وتلفَّتَت حولها، لا تزالُ تلهثُ، ثُمَّ استأنفَت العَدوَ تجاه محطة المترو، نزلَت إلى باطن المحطة الخالية المهجُورة، تسلَّقَت الحواجزَ ودلفَت إلى الرَّصيف تنتظرُ القطارَ القادم، انتظرَت طويلا إلى أن نامَت على أحد المقاعد غارقةً في كابوسٍ، تفيق فزعةً، تشعرُ بأشباح احتلُّوا محطة المترو، تجري صاعدةً إلى الميدان من جديد.
تبدو الشمسُ شاحبةً كوجه مريض الكوليرا، صفرتها تزيد قلبها كدرًا وضيقًا، ولكن لا يهمُّ ما دامت ستتخلَّصُ من الحرارة والعرق، توسَّطَت الميدان وجلست القرفصاء تفكِّرُ، تشعرُ بدوارٍ وضبابيةٍ في الرؤية وطنينٍ لا ينتهي، لا بُدَّ أنَّها بسببِ الجُوع، حولها عشرات المطاعم، دخلَت أحد المطاعم الشهيرة وكان كالميدان فارغًا مهجورًا، تناولَت طعامًا بدون شهيَّة.. واقفةً رغم المقاعد الفارغة، شربَت ماءً كثيرًا.. ومشروباتٍ غازيةً، وبقيَت فترة ليست بالقصيرة في دورة المياه، تفحَّصَت وجهها؛ فعبسَت، كان كوجه من رأى شبحًا للتَّوِّ، غسلَته وحاولَت تنظيفه مرارًا، صفَّفَت شعرَها، وتخفَّفَت من حمَّالة صدرها، وأخذت تصبُّ الماءَ على جسدها، تحسَّنَتْ قليلا، وتأكَّدَتْ من قدرتها على التفكير.
“ماذا حدث؟.. أين الناسُ؟.. ماذا كنت أفعلُ قبل أن أجيء إلى ميدان التحرير؟.. ولماذا الميدانُ بالذات؟.. هل قامَت القيامةُ؟.. لا.. لا .. هناك أمرٌ غامضٌ لكن ليس بذلك السُّوء..”
تذكَّرَت حبيبَها وعائلتها.. بحثتُ عن الهاتف في جيب بنطالها، ما زالت الشبكة تعملُ وهذا فألُ خير، اتَّصَلَت بهم كثيرًا.. لا أحدَ يُجيبُ.. لا بُدَّ أن تطمئنَّ عليهم بنفسها، الميدانُ مكتظٌّ بالسيارات الفارغة، ستقترضُ واحدة لتعودَ إلى بلدها، لكنَّها لا تعرفُ القيادة، الطرق خاليةٌ.. فقرَّرَت أن تشاهد فيديو عن تعليم قيادة السيَّارات وتُجرِّب.. ما المانعُ؟ ما دامت شبكات المحمول والإنترنت تعمل.. من بعد ست سيارات وجدَت واحدةً مفتوحةً، قادَت بحذر المبتدئين في البداية، ثُمَّ بسرعةٍ أكبر، ثُمَّ بجنونٍ، وصلَت إلى المنصورة في ساعتين.. هرعَت إلى بيتها؛ فوجدته خاليًا من عائلتها كسائر المدينة، هناك خطبٌ ما لكنَّه ليس خطيرًا.. نزلَت إلى النيل تستنشق هواءه وتطلبُ منه النصيحة، أمسكَت هاتفها لتُكلِّمَ حبيبها، من المستحيل أن يتخلَّى عنها.. “رد يا حبيبي؛ لأخبركَ أنَّ المدينة كلها صارَت ملكًا لنا.. لم نعد بحاجةٍ إلى عدة أمتار تُخفينا عن العيون”..
أوشك الليل أن ينتهي.. عاودها الجوعُ والعطش.. صعدَت إلى منزلها.. تناولَت طعامًا خفيفًا وكرعَت ماءً مُثلَّجًا.. ارتدت قميص النوم.. تكوَّرَتْ في فراشها.. وقرَّرَتْ أن تنامَ طويلًا.