قصتان

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحيم التدلاوي

صفاء

نزلت إلى البحر قادمة إليه من فندقها ذي النجوم الخمسة المجاور للشاطئ. كانت تنظر إلى الأمواج من نافذتها برغبة سعت إلى إشباعها توا، فبعض الرغبات لا تقبل التأجيل. أحاطت نفسها بفوطة، ولما بلغت رمال الشاطئ، أزاحتها كما تزيح ستائر نوافذ منزلها، كانت ترتدي لباس سباحة من قطعتين والكثير من الجمال المشرق الذي خلب لب المصطافين فركزوا أنظارهم عليها يدققون في تفاصيلها كما لو كانوا خبراء في مسابقة الجمال، والأكيد أن خيالهم الواسع منحهم القدرة على تخييل أشياء سعيدة، فالخيال في مثل هذه المواقف مسعف لتجاوز الإحباط..

لم تهتم للنظرات المبحلقة، بل سارت بكل ثقة إلى الماء، إذ تدرك أنها سباحة ماهرة لا غانية غاوية. ارتمت فيه بقفزة رياضية رشيقة، فغمرها الماء، سبحت بمهارة سمكة إلى حيث غابت عن الأنظار التي تمنت لو كانت ماء في تلك اللحظات الهاربة. بلغت نقطة تحد جعلت قلوبا رهيفة تخاف عليها ولا تنهض من سبات أحلامها لتقدم العون لو طلب.

بقيت تسبح بمتعة أشعرتها بالامتلاء، ثم ركبت الموج إذ تمكنت من جعل قوة هيجانه لصالحها، فكان يحملها راضيا مطواعا إلى الشاطئ.. ولما بلغت أوج سعادتها، عادت إلى حيث تركت فوطتها بجسمها النوراني المشرق زادته لمعانا وتوهجا حبيبات الماء على جسدها وهي تحت أشعة الشمس اللافحة. بقيت العيون تتابع حركاتها وهي تمسح الماء عن شعرها وكامل جسدها، ثم تدثرت بفوطتها ثانية وعادت من حيث أتت تاركة الدهشة تسبح في العيون، وتحديا يصارع الموج دون منازع.

*

أما بعد

ولما اشتد الخطب وعلا الركب أتانا خادمنا الأرضى؛ وقد علمنا، من خلال جواسيسنا، أنه كان لا يغادر مكتبته العامرة بكتب التاريخ والجغرافيا إلا لماما، يقضي أغراضه الخاصة، ثم يعود سريعا إلى حيث تنتظره المكتبة بذراعيها الفاتنتين، كما أخبرت أنه كان لا يستريح إلا قليلا ليعاود القراءة بحماس منقطع عن الدنيا وما يجري فيها، ولكثرة انغماسه في الكتب، رأى رأي اليقين وطنه غادة جميلة تتعقبها وحوش كاسرة تريد التهامها فتحركت فيه النخوة العربية، فأتانا راغبا في مقابلتنا فشرفناه بالمثول بين يدينا المباركتين، جثا على ركبتيه، قبل الأرض، وقدم لنا فروض الطاعة. ولما أذنا له بالقول التمس منا، نحن الحاكم بأمر الله، حصانا فأمرنا بإحضار رسامنا المدون لجليل أعمالنا وطيب أفعالنا، وزكي تصرفاتنا، وأمرناه بحصان واستعجلناه الأمر وتنفيد الإنجاز فكان ما طلبناه، قدمناه لفارسنا المخلص الذي سيواجه الأعداء بعزيمته التي لا تقهر وبقناته التي لا تلين، فيحمي بلادنا المباركة وحكمنا الفريد وسدتنا العالية، ويجعلنا ننصرف لتصريف شؤوننابعيدا عن صليل السيوف وسفك الدماء، ونحر الرقاب، فيكفينا ما نقوم بها داخليا لإسكات المشككين الضالين، كما يريحنا من حرب لا نريدها مع عدو لا يهتم سوى بهز ثقة الناس في حكمنا السديد ويشكك في شرعيتنا التي نستمدها من السماء. امتطى الفارس الحصان وهم بالانطلاق تحذوه رغبة دحر العدو وتكبيده خسائر تكون له درسا ثم توقف متذكرا أنه بحاجة الى السلاح، فقدم له رسامنا الأرضى ما أراده، وحثه على الشجاعة، انطلق صوب الوحوش وهو يرى الغادة بستانا جميلا يداس ورده وتنتهك حرمته فعدا بغضب مملوءا حمية ، في الأثناء، تساقطت أمطار غزيرة، فصنعت برك ماء، كبا الحصان ثم سقط وتحلل ، فصار طينا، سقط الفارس الأمين، والرجل المخلص من على الصهوة قبل أن يبدأ المعركة الحاسمة، في حفرة عميقة وتساقطت فوقه صخور ثقيلة كاتمة أنفاسه، كما لو كانت كتبه الكثيرة تجثم فوق صدره المكلوم.

مقالات من نفس القسم