عن سعدية وعبد الحكم وآخرين

إبراهيم فرغلي: لا بد للكاتب أن يستفيد من خبرته الشخصية في علاقته بأولاده
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

كعادته في اختيار مساحات مختلفة من هوامش ومتون الحياة وعوالم غير مطروقة، اختار الكاتب حسين عبد العليم عالم البغاء، موضوعاَ لروايته الأخيرة سعدية وعبد الحكم وآخرون”، الصادرة عن دار ميريت للنشر.

تبدأ وقانع الرواية بمجموعة من النصوص التشريعية التي حرم بمقتضاها البغاء في مصر وأصبح عملاَ غير شرعي، مرة علي يد محمد على پاشا نفسه عام 1834 ثم مرة أخرى في عام 1889 وأخيرا بموجب الأمير العسكري الحالي في عام 1949 والذي أغلقت بمقتضاه بيوت الدعارة، وجرمت أعمال البغايا، فتحولت للعمل في بیت سرية أو بشكل فردي وما لحق به من قوانين في عامی ۱۹۵۱ و ۱۹۵۳.

تتناول الرواية حكاية سعدية التي تركت قريتها في ريف الدلتا قريبا من طنطا، وتخلت عن أهلها فور وفاة زوجها في المستشفى وانتقلت إلى القاهرة ، وبالتحديد في شارع كلوت بك المخصص لدور الدعارة الشرعية آنذاك، أو تلك الغرف الفقيرة المغطاة بستارة علقت بجوارها لوحة الأسعار. لكنها مثلت بوجودها في ذلك المكان بمحض إرادتها استثناء نادرا. إذ هي قررت فقط أنها أرادت أن تجرب لا مدفوعة بفقر أو حاجة ولا تحت ضغط أو ابتزاز قواد او بلطجي، وهو ما يناقض الثقافة التي شاعت بين البغايا آنذاك أن ما يفعلنه هو (وعد ومكتوب) لا يد لهن فيه ولا حيلة، فيحلن إلى القدر والنصيب مسئولية تبرير مصائرهن.

کما بكشف النص أحوال البغايا والمواثيق المتفق عليها وغير المعلنة بينهن والمصاعب التي قد يتعرضن لها إذا رفضت أي منهن العمل سواء بالتعرض للضرب أو إلقاء مياه النار بوجوههن بواسطة القواد أو فتوة  الحارة

وحدها سعدية التي اختارت الطريق بإرادة كاملة مشفوعة بحكايات كان زوجها فقد كاشفها بها عن مغامراته مع ساقطات كلوت بك، وبتاثیر غامض لبريق نجمات السينما الساحرة اللاتي جسدت بعضهن أدواراً تتناول شخصية البغي بشكل أو بآخر، وصارت خبيرة بكل أنواع الزبائن من مرتادي المكان لكنها في أول الأمر وآخره ترى الأمر كله ترفا لا طائل من ورائه.

أما العائلة في قرية ريفية نائية من ريف طنطا بعيدا عن القاهرة فقد بدت مستاءة من ثلوث سمعتها: يری العم وجوب قتل سعدية التي لوثت شرفهم، بينما الأب يرى أنه يكفي منعها عن غيها وعودتها إلى الدار، ويكلف شقيقها “عبد الحكم” بمهمة الوصول إليها والعودة بها إلى القرية لكنه، ولخوف غریزی متأصل من الكلاب البوليسية وما قد تفعله بها عند اكتشاف جريمته، بيدو مترددا، خائفا، يتمنى أن تسير الأمور كما هي عليه دون أن يضطر لفعل ما لا يقوى عليه.

تصاب سعدية بمرض جنسی تعزل على إثره في الحوض المرصود، وهو المكان الذي كان مخصصا لعلاج البغايا من الأمراض وعزلهن فيه لكن إصابتها تضاف إلى مرحلة المرض الثالثة التي تصيب صاحبتها بالجنون فتنتهي في طريقها إلى مستشفى الأمراض العقلية، فأي عبث بمصيرها وبنا.

تضل الرواية طريقها بين التوثيق المنقوص والتخيل المبتسر. إذ أنها لا تقدم إجابات الأسئلة عن الظاهرة وما يحيط بها اجتماعيا قبل التحريم وبعده، أو إجابات فنية عن دواخل الشخصيات وتطورها الدرامي ولا عن أسئلة عديدة عن الحياة الخاصة للبغايا، ومنظومة القيم التي يمثلنها سلبا أو إيجابا ، ناهيك عن انتفاء أي تقنيات سرد حداثية أو خاصة لنص يمزج تاريخ البغاء بشخصية سيدة قررت أن تبيع جسدها لمزاجها الخاص في مدينة ممتلئة بمتناقضات التقاليد والتعايش مع الأجنبي في نفس الوقت.

كان الكاتب قد قرر أن بفتح أبوابا مغلقة لكنه بدلا من أن يدلف منها ركض هاریا بلا سبب واضح حتى أنه لا يقدم مبررا من أي نوع لاختيارات سعدية العبثية، نراها ترى ما يحدث حولها هينا بلا أدني أثر، ولا معنى له ، ومع ذلك تستمر بلا تعميق لأسئلتها أو انتظار لكشف جديد، بلا حتى أمل وطموح قد يكون العهر وسيلتها إليه أو حتى شهوة تغليها فتبرد بها ما تفعله أو صراع أو أستمتاع من أي نوع. لا شيء.

حسين عبد الحكيم في الرواية اختار دربا غیر مطروق كعادته كما فعل في عدة أعمال بينها “فصول من سيرة التراب والنمل”، التي سبر بها أغوار المجتمع القبطى المصرى، وفتح أبوابه ببساطة وعمق معا لكنه هنا يتردد بين نصف طريق البحث ونصف طريق التاريخ فيتراجع خطوتين في عالم يمتلك كل المقومات التي كان لها أن تصنع رواية مميزة أخرى في مسيرته لكنه رفض، كأنه مشغول بأهمية إصدار رواية كل عام على حساب تفاصيل غنية وموضوعية عديدة أغفلها هذا النص بامتياز.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم