نسمة سمير
كان يوما شديد الحرارة، منتصف أغسطس، كأن السماء تحرق النجوم المنطفئة لتعيد لها النور، أو ربما سرق لص الليل النسمات ليهديها لحبيبته الغاضبة، خرجت إلى الشرفة لأضع الماء للعصافير، فوجدت أحد جناحي العصفور عالقًا بباب القفص، وعصفورته ترتعد من الخوف فى ركن مظلم صارخة تستغيث بي لأساعده، سقط الماء من يدي وهرولت نحوه لأخلصه.
أمسكت به بين يدي المرتعشة، فوجدت حفرة صغيرة بيسار صدره، لم أفهم سببها في البداية ثم أدركت أن قلبه غير موجود، يا الله هل ذاب قلبه من الخوف؟، هل سقط من ثقل الألم؟، هل سينجو بلا قلب؟، أخذت أبحث عن قلبه فى القفص وفى الشرفة وأن أبكي كطفل محموم، ولكني لم أجد له أثر، نظرت إلى العصفورة فوجدت ريشها ملطخ بقطرات دماء، لابد أنها من جرح جناحه، لا يعقل أن يحدث ما أفكر فيه، أأكلت قلب حبيبها؟!.
ظننت أن ما أراه من تداعيات حزني، ولكن حزني لم يكن متبدل الهيئة ليأتي في شكل عصفور ضاع قلبه، كثيرًا ما أتخيله على هيئة صرصار ضخم بعيون حمراء وثلاثين رجلاً، تزيد كل عام واحدة، يخرج من خزانة ملابسي وأحيانًا من حقيبتي وحذائي، ولكنه يكون مرعبًا للغاية عندما يخرج من عيوني وكأنه يقتلعهما، ليقف أمامي محاولا ضمي، أخافه كثيرًا، فكرت مرات أن أعانقه ربما يحبني ويرحل، ولكن خشيت أن يلتصق بي وأحمله على ظهري طوال عمري.
طارت العصفورة إلى ركنٍ من القفص، ثم طارت إلى الآخر وكأنها ترثي حبيبها، كيف تحزن عليه بعد قتله؟، لمَ سوء الظن هذا، من الجائز أن تكون قد جرحت قلبه وهى تحاول تخليص جناحه، وجسدها الضعيف لم يساعدها لإنقاذه، وربما أحزنته حتى ذاب قلبه، كادت الأسئلة تمزق رأسي، فى حقيقة الأمر لم يكن قلب العصفور ما أخشى فقدانه بل قلبي، الذي تحسست مكانه مرارا خوفًا أن يكون قد سقط مني حزنًا أو أكله أحبتي.
نظرت فى عيون العصفور المنكسرة، فرأيت سربًا من الغربان على مائدة طويلة يتقاسمون قلبه الصغير ليصنعوا لوحة تشبه العشاء الأخير لدافنشي ولكن بدون المسيح، كانوا جميعهم يهوذا، وقلبه ما زال ينبض غارقًا فى دموعه، وأنا أصرخ ولا يسمعني أحد، صوت ضحكاتهم كان أعلى من صراخي، ثم همس صوت فى أذني قائلًا: لا تعطي الحدث أكبر من حجمه، كل ما فى الأمر قلب يُأكل فمَ الداعي للبكاء والعويل، لنحتفل ونغني للحب بينما نتقارعُ الكؤوسَ لتسير الحياة، ولنرقص نعم نرقص كعصفور يصارع الموت.
لم استطع الرقص، اعتقدت أنّ المشكلة أني عاجزة عن تحريك قدامي، نظرت إلى الأسفل لأتأكد أنهما ما زالا مكانهما، والغربان تنهش عقلي لا أعلم من أين جاءت؟، هل هربت من عيون العصفور، أم من النافذة الخلفية للمنزل ولكن النافذة مغلقة، ربما يتخمض عقلي وينجبهم هل نحن من نخلق الذين يأكلون قلوبنا، تمنيت أن تتحول قدمي إلى بالون لارتفع لأعلى، واخترق السقف والسماء وما بعدهما وألقي بعقلي بعيدًا لا يهمني أن تأكله الغربان طالما قلبي معي.
بينما كنت أرفع بصري، استرعى انتباهي حزن العصفورة على شريكها، هل بعد أن نرحل سيحزن مثلها من أكلوا قلوبنا أم هى أكثر رحمة منهم؟ تذكرت تلك الليلة التى رحل فيها والدى وتركنا وأغلق الباب خلفه، أكره الأبواب كثيرًا منذ حينها، أتمنى أن يصبح العالم بلا أبواب تحرمنا من أحبتنا، وعندما ماتت جدتي كرهت الوداع أيضًا فهو يشبه حكم المباراة الذي يعلن نهاية اللقاء.
نظرت إلى العصفور الصريع بين يدي وهو لا يمكنه التحليق، نعم جدتي أيضا حاولت أن تطير من قفصها الخشبي وفشلت، بعد رحيلها كان يطرق زجاج نافذتي غريب طالبَا الدخول، حاولت أن أمنعه كثيرا ولكنه اقتحم الغرفة ذات ليلة رغمًا عني ولم أتمكن من ردعه، ومن يومها وهذا الصغير الغريب المخيف يأكل من روحي حتى أصبح وحشًا بدون مروض ينهش في عقلي ليل نهار، أكاد أصاب بالجنون وقلبي يؤلمني من ضرباته السريعة، أغرق فى خوفي، كجندي متأهب لصد هجوم لا يعرف من أين سيأتيه.
هذا العصفور المسكين ربما عانى مثلي من الوصم وقت احتضاره، بينما كان يستغيث بحبيبته لتساعده كانت تتهمه بالثرثرة والتركيز فى التفاصيل التافهة والتكرار والدرامية الكئيبة، وإهدار الوقت بدلًا من البحث عن حلول، ربما لم يتمكن هذا المسكين من أن يخبرها أنه يعاني من غربان القلق وأن جناحه لم يكن عالق بل روحه خوفًا أن تهجره فيموت، أراد أن تطمئنه فقط، ومن المحتمل أنه لو أخبرها لسخرت منه وقتلته مرارًا بلا رحمة بعلاقة فاترة خالية من بهار الهوى، الموت كان مصيره الذى لا مفر منه، حقًا أخاف الموت بلا قلب، بثقب واسع فى منتصف صدري، لا يراه أحد، نعم لا يراه أحد، يودعني أحبتي فى صندوق بلا سقف، ليهزمني الموت كما هزمتني الحياة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية