هل بهذا المعنى يأتي الكتاب، الذي تتوزع موضوعاته على الشعر والسينما والمنفى… كأنه «جغرافيا داخلية للشاعر والإنسان. لِمَ يجمع المرء مقالاته؟ سؤال يفرض نفسه، في البداية، ليجيب سيف عليه بالقول: «لا أتصور أن هناك مانعا ما في أن يجمع كاتب أو شاعر مقالاته الموزعة على أكثر من مطبوعة وفي أكثر من مكان لأن المقالة هي في النهاية نوع أدبي لا يقلّ أهمية عن الأنواع الأدبية الأخرى وربما المقالة لدى الشاعر والأديب تضيء جوانب وجغرافيات فكرية ومكانية وروحية لا يصل إليها النص الإبداعي المحض..» من هنا، بين فترة وأخرى، يجمع سيف الرحبي مقالات كهذه «أزعم أن هذه المقالات المبعثرة تتوسل سياقا ما ورؤية تجمع الشمل.. كتابي الأخير «حياة على عجل» يندرج في هذا السياق والعنوان أجده قريبا مني ومن أصدقائي ربما حيث أن حياتنا العجلى والسريعة والموزعة على نحو ممزق على أكثر من مدار ومكان باحثة عن استقرار يقينا لن تصل إليه أبدا».
عدم الوصول
لا ينفي سيف الرحبي أن كتابات كهذه تُشكل مختبرا ما للكتابة الشعرية في ما بعد. إذ يجد أن «الممارسة الكتابية في أنواعها ومنها المقالة، تُشكل غالبا حافزا لفضاءات كتابية أخرى شعرية سردية وبموازاة هذه الكتابة تُولّد نصوصا ذات طابع إبداعي مختلف. أتصور أن التنويع الكتابي والممارسة اللغوية على هذا النحو يمكن أن يشتت التجربة الإبداعية ويمكن أن يُغنيها. ثمة نوع من الاحتراس في التعاطي مع هذا التنوع وأن تحاول كل تجربة وكل نوع أن يغني الآخر بذخيرته وخياله واختلافه ليتشكل في نهاية المطاف ذلك الفضاء الإبداعي الذي يتوسل شيئا من خصوصية وشيئا من فضاء أكثر شساعة وتحققا إبداعيا».
يطرح الشاعر العُماني في نهاية جوابه الأول إشكالية كبيرة حول الكتابة كلها: هل يمكن للكتابة أن تصل إلى شيء يوما؟ ومن هنا، لِمَ يستمر المرء في هذه الغواية، في الكتابة؟ يجد سيف أن جوهر الكتابة لربما يكمن في «عدم الوصول إلى أيّ شيء، إلى أيّ محطة أو مرفأ، إنها رحلة وطريق جمالي في حدّ ذاته ربما لا يقود إلى أي شيء وربما يقود إلى الفرح والحب والموت وإلى مواجهة ما أمكن لبشاعة هذا العالم المحيط بنا وانحطاطه وفظاظته. نوع من سلاح لمواصلة القدرة على استمرارية الحياة التي نعيش فليس هناك من غوايات أكثر جاذبية، روحية ووجدانية، ربما من الكتابة. وفي ضوء بهوها الفسيح تتجدد العناصر في العلاقات والحب والترحل والاجتماع الذي هو كئيب ومرعب عبر نهاياته المنفعية والمسرحية. ربما نعطي الكتابة هذه الأحاسيس الجمالية وهذا النوع من البهجة حتى وهي توغل في عدمها وخرابها وتترحل في ليل هوامها المتشظي». ويضيف أنه طبعا لا يستطيع «القول أو الزعم أن الكتابة تؤدي أدوارا حددت لها سلفا من قبل مفكرين وسياسيين وتبشيريين فذلك يحدّ من حريتها ومن كونها هي الفسحة الوحيدة المضيئة في حياتنا القاحلة، الملفوفة بكل هذا الهواء العدواني الجاف. وحين أقول الكتابة فأنا أقصد بالدرجة الأولى القراءة».
هل بهذا المعنى، يقصد الشاعر أنه يكتب لأنه يقرأ؟ وما الخيط الذي يفصل هذين النشاطين عنده؟ يقول ذلك منعا لالتباس ما في حديثه، إذ «لا أعتقد أن هناك فرقا بين القراءة والكتابة فالكتابة بشكل ما هي قراءة، قراءة الآخرين، انجازاتهم المعرفية والأدبية والجمالية وقراءة العالم في حركته ووقائعه وربما أن مقولة الكاتب ليس إلا قارئا تخدم هذا النوع من الكلام والقناعة والتي لا تدعي الفتوحات والاكتشافات والإلهام العبقري. الكتابة ربما ابسط وأعمق من ذلك». هذه البساطة والعمق في آن هي في الواقع «كلّما تخففت من أعباء الادعاءات الكبيرة ومن أثقال الايدولوجيا والمهمات الإنقاذية والتبشيرية التي درجت عليها الكثير من الآراء والتنظيرات ربما سُفح حولها حبر سجالي طويل لم يفض في النهاية بمردود ذي بال ومهم».
إذا كانت الكتابة تشكل قطبا مهما في حياة سيف الرحبي، فإننا نجد أن الترحال يشكل القطب الأساسي الآخر. إذ لا يتوقف عن السفر وتغيير الأمكنة. ما الذي يقدمه ذلك له؟ ما الذي يريده من هذا الأمر وبخاصة أنه يتحدث عن الكتابة بصفتها ترحالا آخر. لا يرغب سيف في أي شيء من ذلك كله. يقول إن المسألة جاءت هكذا بمحض الصدفة «وربما ارتبطت في فترة زمنية معينة من حياتي بسياق ما امتزجت فيه الضرورة بالاختبار فكان ما كان من أمر هذا الترحل الذي أصبح عادة مضجرة وهذا النوع من الترحل أصبح برأيي بعد فترة من الأسى والتكرار يجدد الأمكنة والشخوص والوجوه لكنه يقترب من إضعاف العلاقة بالذات حد الشيخوخة المبكرة. والترحل أصبح في أبعاده الرمزية والداخلية والروحية هو الأهم بالنسبة إليّ. والكتابة هي إيغال في ليل هذا النوع من الرحيل وليس في الرحيل الخارجي والبرّاني الذي أصبح يمارسه الجميع في مكان ما في العالم». ففي سياق حياته الشخصية الحالية «أصبحت لا أتحرك كثيرا إلا في حدود علاقتي بالمدن الأثيرة إلى قلبي والتي عشت فيها زمنا حيويا في حياتي مثل القاهرة وبيروت والشام وبصراحة الكثير من المدن العربية تندرج بشكل أو بآخر في هذا السياق العاطفي والوجداني وأحيانا يشط بي الخيال وأترحل من عمان إلى جزر آسيوية بعيدة فأجلس فيها شهرا وشهرين كنوع من عزلة روحية وتطهر ذاتي».
الخيال الحر
من هذه المدن، يبرز اسم بيروت بالطبع، حيث يعود إليها كل فترة، وحيث جرى هذا الحديث. من هنا ثمة سؤال آخر يطرح نفسه: ماذا تعني له هذه المدينة. «بيروت عنّت لي وربما لجيلي الثقافي والسياسي حين كانت الحريات المخنوقة والمقتولة في معظم المدن العربية، كانت بيروت الفضاء الفسيح للخيال الحر وللممارسة الثقافية المبدعة لكل أنحاء الوطن العربي الذي تحكمه أنظمة ما قبل الدولة الحديثة أو القديمة. كانت بيروت في الستينيات والسبعينيات قبل أن تدهمها تلك الحروب الأكثر بشاعة حتى من الحروب الأهلية التي درجت عبر التاريخ، كانت تمثل تلك الفسحة للمثقف والكاتب العربي ولم يكن ذلك يروق لعقلية القتل والقمع والإجرام السائدة وكان ما كان من أمر هذه المدينة العجيبة. وارتباطي المبكر ببيروت بجانب معناها الثقافي والإبداعي كونها مختبرا أساسيا للثقافة العربية وأنماط التعبير المختلفة، كانت علاقتي بها مبكرة ومنذ مطلع العمر وهي تشكل لي مع القاهرة والشام معنى عميقا للحياة والحنين».
الحنين. كلمة جوهرية في كلام سيف الرحبي. ربما لأننا كائنات لا تتوقف عن الشعور بذلك. لكن الحنين «يخفت مع الأيام كأيّ شيء آخر في حياتنا أو كأيّ عضو من أعضائنا يأخذه الوهن والضعف مع الأيام وتقدمها القاسي والمخيف لكنه «الحنين» يظل يخترق الكتابة والحياة بأشكال وتمظهرات مختلفة وهو معين كتابة ضمن أكثر الروافد أهمية. لكن طبعا لا تجنح الكتابة الحقيقية إلى ذلك الحنين المنفلش، المائع، الميلودرامي، وإنما بمثابة غذاء روحي يجدد نسغ الكتابة والحياة فلا يمكنك العيش ومن القسوة أن نعيش في مدن وبلدان ومع أناس لا تجمعك بهم أي ذكريات مشتركة وأي حنين مشترك. وفي ظل الوضع الاجتماعي المنهار الذي يفضل الفرد في ضوئه وحفاظا على ما تبقى من سلامته العقلية والروحية، العزلة والابتعاد في حدود الممكن، يتجدد الحنين إلى الأماكن والأشخاص والنساء الذين طواهم الغياب والمسافة».
ثمة فكرة أخرى تستحق التوقف عندها: هل يمكن بذلك أن تأتي الكتابة من حيز الغياب الذي تتحدث عنه؟ يرى الرحبي أنها «دائما ودائما تأتي الكتابة من ذلك الحيز المفعم بهالة النور والظلمة معا وحتى الحضورات وتمظهراتها ووقائعها ولحظاتها لا تفتأ أن تدخل في حيز الغياب حتى تدلف اللغة والكتابة. الغياب الذي يخبره الواحد منا وبقسوة قدرية عاتية منذ الطفولة، غياب العائلة، غياب الأصدقاء، غياب الوطن، غياب الغياب نفسه هو الذي يصنع عجينة الكتابة والحلم والحنين». لكن ومع ذلك كله لا يبدو الشعر عنده وكأنه بديلا من ذلك كله، إذ أن «الشعر ليس بديلا لكنه يحاول أن يخفف وطأة الحياة الواقعية وقسوتها أن يوازيها ويخترقها أو أن تكون الكتابة هي الحياة والحياة هي الكتابة، هل نستطيع القول إن ذلك يشكل نوعا من عزاء بسيط في هذا الأفق العدمي الملهم؟ في هذه اللحظة من الزمن التي يدلف فيها الإنسان ويوغل في أقصى دوائر عزلته وجحيمه في انعدام التواصل الإنساني والحقيقي بين البشر وعلى نحو خاص في منطقتنا وبلداننا التي تهيمن عليها شروط التخلف والظلامية والقسوة بكل أشكالها وأنواعها من غير أفق تستمد منه شيئا من النور».
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
( عن جريدة السفير )