محمد الفخراني: لا يوجد راوٍ عليم في العالم كله!

موقع الكتابة الثقافي writers 1
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: حسن عبد الموجود

عمل الكاتب المصري محمد الفخراني بدأب وإخلاص وصبر على مشروعه الكتابي منذ سنوات، بعيدا عن صخب الحياة الثقافية وصراعاتها الصغيرة، حتى استطاع أن يراكم منجزا مهما من المجموعات القصصية مثل «قبل أن يعرف البحر اسمه»، و«قصص تلعب مع العالم»، و«طرق سريّة للجموح»، و«عشرون ابنة للخيال»، كما أن أعماله الروائية حظيت بتقدير كبير لدي صدورها، مثل «فاصل للدهشة»، و«ألف جناح للعالم» و«مزاج حر» و«أراك في الجنة». مؤخرا أصدر محمد الفخراني، روايته «لا تمت قبل أن تحب»، ومثل سابقتها لفتت الأنظار، بعنوانها، وبأحداثها التي تشكل قصة حب جديدة، تختلف في مضمونها وطريقة كتابتها عن قصص الحب في الأدب العربي. في هذا الحوار يتحدث محمد الفخراني عن روايته وعزلته الافتراضية ونظرته للأدب والعالم والإنسانية.

هل كان لديك طموح بكتابة قصة حب عظيمة وكتبتها في «لا تمت قبل أن تحب»؟

أردْتُ أن أكتب رواية في الحب، تكون مختلفة، في قصتها وطريقة سَرْدِها، ليس بها ما يُمكن أن يكون مُتوَقَّعا أو اعتياديّا في قصص الحب، وتبدو في أحد توصيفاتها كأنها مكتوبة في حزمة أوراق مُفْرَدَة، برتوش قلم رصاص، حقيقية جدا على طريقتها وفي الوقت نفسه بها مَسّ من حلم، وتكون حالة الحب خطوطا مُوَزَّعَة ضِمْنَ خطوطها، ومُتناغمة مع بقية الرتوش بداخلها. فقط قصة مختلفة، هذا ما أردْتُه.

تحكي الرواية ببساطة قصة حب حدثت بين فتاة أوشكت على الغرق وشخص أنقذها، بدون أن يتقابلا لمدة سنوات طويلة وبدون أن يتعارفا، ظلت الأماكن تجمعهما بدون أن يلاحظا بعضهما، لكنهما تقابلا في آخر صفحة من الرواية بالصدفة أيضا، فهي مريضة بسرطان الثدي وهو طبيب سيبتره.

كيف استطعت أن تكتب رواية كبيرة الحجم، نوعا ما، في غياب أبسط الأمور كاللقاءات بين الأبطال؟

الرواية هي قصة عن الحب نفسه، الفتاة والشاب، وبعد أن صارت هي في نهاية الثلاثينات من عمرها، وهو في بداية الأربعين، نراهما يعيشان داخل قصة عن الحب، ولهما قصة تَخُصُّهما داخل هذه القصة، وما يدور بينهما هو في الوقت نفسه لا يدور بينهما، وما بينهما هو حب لكنه في الوقت نفسه ليس قصةَ حب.

دخلْتُ كتابة هذه «القصة عن الحب» بخطة وشروط: أن تكون العلاقة بين الطرفين مختلفة عن المعتاد، لا يتقابلان، لا يعرف أي منهما شيئا أكيدا عن الآخر، لا يعرف أي منهما شَكْلَ الآخر، وبالتالي لا حوار بينهما، لا دراما في قصتهما، وتشكيل حالةَ حب داخلهما وحولهما وفي فضاء الرواية (بالطبع ظهَرَت تفاصيل أخرى أثناء الكتابة). لكن، وفي الوقت نفسه، الرواية ليست فقط «قصة عن الحب».

وعن حجم الرواية، أي رواية أكتبها، يكون عندي تَصَوُّر لحجمها قبل البدء فيها، ويحدث ألا أبتعد عنه كثيرا، أبدأ كتابة الرواية أو القصة بمُجرَّد أن تكون لديَّ فكرة وجُمْلَة أو صورة داخل عقلي، وكل ما هو داخل الرواية من شخصيات ومشاهد وأحداث وحتى اللغة، كلها أدوات لتمرير أفكار ورؤى، روايتي هي مزيج من أفكار وحكايات، مع شرط المتعة، لا أميل إلى كتابةٍ تَسْرِد حكايات، أو تُقَدِّم أفكارا طوال الوقت.

لماذا فضَّلْتَ أن تستعيض عن اسم عادي للبطل بلقب واحد ظل يتردد في بدايات الفصول الخاصة به «رومانسي أهبل عمره 350 عاما على الأقل»؟

أنْ يكون البطل بلا اسم عادي سيجعله أكثر خِفَّة، ويمنحه حالةَ طفو خفيفة، كما أنَّ وصْفَه بهذه الطريقة والتنويع عليها في كل فصل يَخُصُّه داخل الرواية يعطي انطباعا خاصّا عن شخصيته، خصوصيَّة ما، ويمنحه، ربما، مزيجا من غموض لطيف وشفافية معا.

أُفَضِّل في كثير من أعمالي ألا أُسَمِّي الشخصيات بأسماء عادية، والتنويع على هذه اللعبة، وأحيانا لا أعطيها أي اسم، هذا يجعل الشخصيات أكثر حرية في حياتها داخل الرواية، وفي خيال القارئ، الأسماء لها جذور ثقافية واجتماعية، وتاريخ أو تَصَوُّر ما في ذاكرة أو لا وعي الكثيرين، وهذا يرسم خطوطا مُسبَقَة حول الشخصية الروائية، ويضع عليها عبئا ما داخل لا وعي القارئ، وفي كل الأحوال فإن الأسماء العادية تُقيِّد الشخصية بطريقة ما إلى حدّ ما، أنا أُحَرِّر الشخصية إلا من ذاتها، أمنحها الفرصة لتُعَبِّر عن نفسها بطريقتها دون أعباء إضافية، أجعل اسمها تاليا لها، فيكون أحد أطرافها التي تُشَكِّله بنفسها أو يَتَشَكَّل منها بطبيعية، لا أنْ يكون جذرا لها. إنها طريقة لأُحَرِّر الشخصية من قيودها.

البطل الرومانسي والبطلة «حورية» يمارسان إنقاذ البشر والحيوانات ويشعران حتى بالجماد.. ألا تتحرك الرواية من رؤية قد يراها البعض رومانتيكية؟ وهل هذه الفكرة أبعدت العمل عن الواقع بعض الشيء؟

أي قارئ عندما يقرأ أي رواية فإنه يقرؤها من خلال ثقافته الشخصية وتجربته في الحياة والقراءة وعالمه الداخلي، وبالتالي كل قارئ يرى شيئا يختلف عمَّا يراه غيره، ويهتم بمساحات في الرواية كأنها تَخُصُّه أكثر من غيره، من الممكن أن يجد القارئ شيئًا من الرومانتيكية في «لا تمت قبل أن تحب»، وهذا موجود بطريقة تَخُصُّ الرواية نفسها، قارئ آخر يهتم أكثر بشخصية «تشوكا»، وتجواله في العالم وتجربته، قارئ سيهتم بأفكار وعوالم أخرى، مثل التوحُّد أو الانتحار أو الصُمُّ والبُكْم أو الموسيقى أو الصور الفوتوغرافية الثلاث، وكلها داخل الرواية، وقارئ يهتم أكثر باللغة، والألعاب الفنية، وحتى بجُمَل مُعيَّنة تَمَسُّه هو بشكل خاص.

وعن علاقة أي رواية بالواقع، رأيي أن كل رواية هي واقع قائم بذاته، وعالَم له شروطه وحياته الكاملة، وليست في حاجة لتكون قريبة أو بعيدة عن واقعنا أو عالمنا لتُثْبِتَ شيئًا عن نفسها؛ لأنها بذاتها عالم حقيقي على طريقته.

بشكل شخصي، أفكر وأعتبر، أن كل الشخصيات والعوالم التي أكتبها في أي رواية أو قصة، تصير موجودة فعلا بعد كتابتها أو حتى أثناء الكتابة، وكل هذه الشخصيات تعيش الآن حياة كاملة، ولا أستغرب لو صادفْتُ أيّا منها في أي لحظة، إنْ لم يكن هذا قد حدث بالفِعْل بطريقة ما.

البطلة حورية أخصائية نفسية تتعامل مع أطفال التوحد، هل درست ما يتعلق بالأطفال المتوحدين قبل الكتابة؟ ونفس السؤال ينطبق على آلات الموسيقى، فأم حورية كانت تحب الساكسفون، والبطل الرومانسي يحب البيانو، وهناك معلومات كثيرة لها علاقة بالموسيقى تتناثر على امتداد العمل، فهل درست ما يتعلق بالموسيقى وآلاتها؟

لا يتعلق الأمر بأني دَرَسْتُ، بل بقراءات كافية من مصادر مختلفة، ومشاهدة لأفلام توثيقية عن أطفال التَوَحُّد والآلات الموسيقية التي ظهرَتْ في الرواية، هناك أيضًا ما يَخُصُّ الصُمُّ والبُكْم، لكني أتوقف عن البحث عند نقطة مُعيَّنة طالما حصلْتُ على ما أريد، حتى لا أخرج من جوّ الرواية، ولا يتحوَّل الأمر إلى شيء مُتجمِّد بلا فرصة للمراوغة، أتَعمَّد ألا أعرف كل شيء.

أَذْكر المَقْطَع الذي تتحدث فيه «حورية» عن رؤيتها لفتاة وشاب من الصُمُّ والبُكْم، وأنها أحبَّت هذا المنظر، وتعتبره أجمل منظر رومانسي، هو نفس المنظر الذي رأيته أنا منذ سنوات، وعرفْتُ أني سأكتب عنه يوما ما.

شقيق البطلة واسمه «تشوكا»، وهو اسم مستمد من صوت تكَّة الكاميرا، يجوب العالم ليلتقط الصور.. لماذا جعلتنا نرى الصور الشهيرة كصورة «فتاة النابالم» و«الطفة والنسر» و«الطفل الغريق» بدلا من أن يتحدث هو عن أعمال مُتَخَيَّلة له؟ ولماذا حينما تَخَيَّلنا أن الصور ستكملُ معنا حتى النهاية توقفتْ فجأة عن الظهور؟

«تشوكا» لم يتكلم عن صور تَخُصُّه لأنه طوال الرواية ينقل لأخته «حورية»، وللقارئ، خلاصة تفاعله مع البشر والأماكن، لا ينقل شيئا يُنْتِجه بمفرده، إنما بمشاركة العالم.

رغم ذلك، نَقَلَ «تشوكا» صورة واحدة تَخُصُّه، وفيها يقول إن الوجه البشري العادي هو أجمل صورة يمكن التقاطها، أدرك هذا بعدما قام بالتقاط صور نادرة ومهمة لكائنات ومناظر حول العالم.

أما الصُّوَر الثلاث، وأختار هنا صورة «الطفلة والنسر»، فيكتب «تشوكا» عن هذه الصورة ليَرُدَّ الاعتبار لمصَوِّر زميل له، هو «كيڤين كارتر»، الذي التقطها، وأنقذَ بها آلاف الأطفال في مجاعة السودان عام 1993، بما أثارته من اهتمام كبير حول العالم بتلك المجاعة وما يحدث فيها، إلا أن «كارتر» تَعَرَّض وقتها لهجوم شديد واتهامات بأنه لم يهتم إلا بالتقاط الصورة، ولم يساعد الطفلة، وهو ما كان أحد أسباب انتحاره.

ما كَتَبَه «تشوكا» هو إعادة قراءة للصورة وتأثيرها، وإعادة قراءة لموقف «كيڤين»، ومَنْ هاجموه، ورأي «تشوكا» الشخصي كمُصَوِّر وإنسان في الصورة وما دار حولها.

بشكل شخصي شعرْتُ أني أرُدّ اعتبار المُصَوِّر «كيڤين كارتر» من خلال «تشوكا»، لم يكن هذا ضمن خِطَّتي في البداية، فقط لاحَظْتُه أو اكتشفْتُ حدوثه عند نقطة معينة في الكتابة.

وهذه الصورة «الطفلة والنسر»، كنت قد رأيتها منذ سنوات، وعرفْتُ أني سأكتب عنها يوما ما، يحدث هذا طوال الوقت، أنْ أُصادِف مشهدا ما، ثابتا أو متحركا أو في المسافة بينهما، فأعرف وقتها أني سأكتب عنه، وأنساه، ثم يظهر في الوقت والمكان المناسبَيْن.

اخترْتُ بعناية الصُّور الثلاث التي قَدَّمَها «تشوكا»، بالطبع صورة «الطفلة والنسر» كانت حاضرة لعلاقتي القديمة بها، اكتفيْتُ بالصُّوَر الثلاث لأسباب فنية وأخرى تتعلق بالفكرة وراء الصُّوَر نفسها، لو استمرَ «تشوكا» في تقديم المزيد من الصور لضاعت وسط الزحام الفكرة من وراء الصور الثلاث، فكل منها تُمَثِّل فكرة ما، وتجمعها في النهاية رؤية واحدة: «فتاة النابالم» عن الحرب، «الطفلة والنسر» عن الجوع، «آلان كردي» عن الهجرة العشوائية بسبب الحرب أو الجوع، هناك ارتباط بين الصور الثلاث يُقَدِّمه «تشوكا» داخل الرواية، حتى أنه يكتشف علاقة زمنية بينها.

اللغة بداية من العنوان «لا تمت قبل أن تحب» تبدو أقرب إلى الشعر.. لغة الكتاب أيضا كأنها قصائد نثر.. ما رأيك؟

أعتبر أن اللغة داخل أي نَصّ أدبي متعة خالصة قائمة بذاتها، النبرة، الإيقاع، السلاسة، السهولة، التناغم الداخلي بين الكلمات في الجملة الواحدة، وبين الجُمَل وبعضها في كل فقرة، والتخلُّص من كل ما يمكن أن يُثْقِل الجملة أو الكلمة، والتنقُّل بين أكثر من مستوى للُّغة دون تَعَثُّر.

اللغة هي الماء الذي تعيش به كل عناصر الرواية، وبقَدْر صفائه وسهولته يكون ارتقاؤها.

لماذا كان عدد الأبطال محدودًا في العمل؟ وهل تعتبر العمل، ارتباطًا بهذا، أقرب إلى نوفيلا؟

في أعمالي الأخيرة أميل إلى مجموعة من الخطوط الرئيسية لكتابة رواية: فكرة واحدة يتم التركيز عليها، شخصيات محدودة، أماكن محدودة، شخصيات بلا أسماء عادية، أو بلا أسماء، أكثر من طريقة أو أكثر من ضمير للسَّرْد، مجموعة من ألعاب فنية غير مُعَقَّدة، أكثر من لون وإيقاع في اللغة، وألا تكون الرواية ذات حجم ضخم. بالنسبة لي، حجم الرواية الحقيقي هو العالم الذي تُقدِّمه، وليس عدد صفحاتها.

هل كانت الجَدَّة ترمز إلى الماضي الذي يُذكِّرنا دائمًا بما يَصِحّ وما لا يَصِحّ؟

الجدَّة في الرواية كانت تُشَجِّع كل حالات النَزَق التي تقوم بها «حورية»، أو «الرومانسي»، ولا أضع في روايتي ما يَصِحُّ أو ما لا يَصِحُّ، سأهتم أن أضع فيها ما يكسر القواعد، هذه ما تُشَجِّعه الجدَّة في «لا تمت قبل أن تحب»، وفَعَلَتْه جدَّة أخرى في روايتي «ألف جناح للعالم»، أتَصَوَّر أن هذا أفْضَل ما تفعله الجدَّات عند حضورهن في عمل أدبي: تكسير القواعد.

كثير من فصول الرواية على لسان «حورية»، كيف ترى تجربتك في الكتابة على لسان أنثى ووصف أدق تفاصيل مشاعرها؟

الكتابة على لسان أنثى، في رأيي، لا تحتاج إلى شيء إضافي أو استعداد خاص أو تَعامُل مختلف، أو حتى الاهتمام بكونها شخصية أنثى، وإنما مثلها في الكتابة مثل أي شخصية أخرى، نحتاج فقط العناية بها كشخصية روائية. لو فَكَّر فيها الكاتب بطريقة أنه يكتب على لسان أنثى -وعليه أن ينتبه لهذا- وبدأ يبحث لها عن أسلوب خاص ومفردات خاصة وطريقة مختلفة، فلن يصل إلى شيء مهم، وستظَلُّ تلك المسافة بينه وبين الشخصية قائمة. كلما حاول الاهتمام بها كشخصية أنثى، وكلما حاول الغوص بداخلها، سيبتعد عنها أكثر ويخسرها أكثر، الحل هو الاقتراب منها بطبيعية مثلما هو الحال مع أي شخصية أخرى داخل الرواية.

عن السَّرد داخل الرواية، تتبادل «حورية» «وتشوكا» ما يُشْبِه الرسائل، وهناك ذلك السَّارِد الذي يُوَجِّه كلامه أحيانا إلى «حورية» و«الرومانسي» معا، وأحيانا إلى «الرومانسي» منفردا، أو يَسْرِد عنهما للقارئ، فيبدو أحيانا كأنه يعرف عنهما كل شيء، وأحيانا يبدو كأنه يعرف أشياء ويجهل أخرى، ما طبيعة هذا السارد؟

أحد الأسئلة أو النقاط التي لا بد أن تكون واضحة لي قبل البدء في كتابة رواية هي ضمير السَّرْد، مَنْ يروي الحكاية، وكيف يرويها؟ أُفَضِّل أن يكون في روايتي أكثر من سارد، أو أكثر من طريقة للسَّرْد، ومبدئيَّا لا أميل إلى الراوي العليم وأسلوبه، على الأقل لن ينفرد بالسَّرد، ولن يكون بالأسلوب المعروف عنه، لا يوجد راوٍ عليم في العالم كله، حتى كاتب الرواية نفسه.

أُفَضِّل طُرُق السَّرْد البينيَّة، أقصد أن تكون غير معتادة، وتَمْزج بين عِدَّة طُرُق وضمائر سرديَّة مختلفة، في «لا تمت قبل أن تحب»، ما يدور بين حورية وتشوكا، به شيء من تقنية الرسائل، لكنها ليست هي تماما. تشوكا في بعض رسائله يُوَجِّه كلامه إلى آخرين مع حورية، مَنْ هم؟ هناك احتمالات كثيرة، أَتركها للقارئ ليتخيَّلَها، وهناك رسائل يبدو وكأنه كَتَبها لنفسه مثل مُذكِّرات يتخيَّل أنه يتكلَّم فيها إلى حورية.

وذلك السَّارد الذي يروي عن حورية والرومانسي، هو أحيانا يُوَجِّه كلامه إليهما، كأنهما يعرفانه ويعرفان بوجوده، وفي لحظة أخرى هما لا يعرفانه ولا يعرفان بوجوده، يَسْرِد أحيانا كأنه راوٍ عليم على طريقته، ومرة شِبْه عليم، أو راوٍ لا يعرف عنهما بعضَ أشياء، ولا يمكنه أن يتوقَّع ما سيفعلانه، ومرة هو مُتَشَكِّك فيما يعرفه عنهما، هو أيضًا يُخَمِّن أحيانًا ما يحدث، ولماذا يحدث، فلا يكون متأكدًا، يبدو أحيانًا وكأنه يراقب حورية والرومانسي على الجانب الآخر من الشارع، وأحيانًا من مسافة بعيدة، وفي لحظات أخرى يبدو وكأنه إحدى شخصيات الرواية.

ذلك السارد «المُتَعَدِّد»، يصنع إيقاعات وخيالات مختلفة داخل الرواية، يَمزج بين عِدَّة سارِدِيِن، فلا يكون أيّا منهم، ويُغَيِّر من طبيعتهم، وله أكثر من طريقة للسَّرْد يتنقَّل بينها، هو أحد السَّاردين المُفَضَّلِيِن لي، وأُشَكِّل منه تنويعات مختلفة بين رواية وأخرى.

في ظِلّ غيابك عن مواقع التواصل الاجتماعي، ألم تقابل مشاكل مع الناشرين الذين يطلبون من الكتَّاب غالبا المشاركة في عملية التسويق للكتاب على هذه المواقع؟

لا، لم يحدث، كل الناشرين الذين تعامَلْتُ معهم تَفَهَّموا هذا جدا، وكان اهتمامهم بالكتابة.

ما أقدم حكاية عرفت فيها أنك ستصبح كاتبا ومن شجعك على الاستمرار؟

ليست هناك حكاية بالتحديد، لكني عرفتُ في وقت مبكر أني سأكتب، ولا شيء آخر، في الوقت نفسه بداخلي طوال الوقت نسخةَ مُتشرِّد، ونسخة بَحَّار، ونسخة مَشَّاء متجوِّل، كل ما حدث هذه المرة أن نسخة الكاتب هي التي ظهَرَتْ على السطح، وربما يحدث في تجربة أخرى مني أن تطفو على السطح نسخة غير الكاتب، المتشرِّد مثلا، أو أن هذه النسخة موجودة بالفِعْل بطريقة ما.

ما ملاحظاتك على الحياة الثقافية خاصة ما يتعلق بالجوائز الأدبية؟

الحياة الثقافية مثل أي حياة فيها من كل شيء، هكذا هي الحياة، وأنا اعتدْتُ أن أقبل الأشياء على حالها، طالما تلك طبيعتها، وأتعامل مع الجانب الذي يرضيني منها، ودائمًا أعثر لنفسي على هذا الجانب، أتفَهَّم جدا طبيعة الأشياء والأشخاص وأجد لهم الأعذار بسهولة.

بخصوص الحياة الثقافية، يكفيني بشكل شخصي أن أتجوَّل لدقائق داخل مكتبة، أو أمُرُّ بشوارع بها مكتبات بينما أتمشَّى، أو أجلس في مقهى مع كلام عن الكتابة.

بالنسبة لي، وجود «كتابة» يعني أن هناك حياة ثقافية. والحياة الثقافية كلها موجودة لأجل الكِتاب، أما فيما يتعلق بالجوائز، فعلينا أن نترك كل فائز يفرح بجائزته، وفي النهاية، الفوز بجائزة أو عدم الفوز هي أشياء حول الكتابة، وليست الكتابة نفسها.

أخيرا.. ما طموحك من الكتابة؟ وهل تنظر خلفك برضا؟

الكتابة فكرة تُجَمِّل العالم. وهناك جُمْلة في قصة بمجموعتي «عشرون ابنة للخيال»، تقول: «كل ما هنالك أنها تريد أن تمنح العالمَ دهشة وسعادة قَدْر ما تستطيع»، سأحب أن أكتب، وأن تُضيف كتابتي للعالم جمالا ودهشة ومتعة قَدْر ما تستطيع.

أنا أُصَدِّق في «الكلمة»، وأعتبرها أهم شيء على الأرض. «الكلمة» يمكنها أن تكون صُحْبة ومتعة ونورا وجمالا وحرية، يمكنها، حَرْفيَّا، أن تنقذ حياةَ إنسان، وهي تفعل ما هو أكثر من إنقاذ حياة.

أُريد لكتابتي أن تُحَرِّر. في وقت ما، كنت أعتبر الكتابة غاية، لم يستمرّ هذا طويلا، عند نقطة ما صارت وسيلة، وهذا منحنا معا حرية وتَفاهُما أكثر. الكتابة هي وسيلتي للوصول إلى النور المُطْلَق، وطريقتي لأُقابل كل الأسئلة وكل الإجابات وأمشي في كل الطُرُق، كي أصِل إلى السؤال الأكبر، والإجابة الأكبر.

في وقت ما كنت أُقدِّم للكتابة كل شيء، أُهديها كل شيء، ثم تَحَرَّرْتُ أنا والكتابة من شرط أنْ نعطي لبعضَيْنا أو نأخذ، لا شروط بيني وبينها، تَخَلَّصنا من روح هذه الفكرة المُقَيِّدَة لي ولها، صارت علاقتنا حُرَّة تماما وشفافة، أرقى من أن نعطي ونأخذ لنكون معا، علاقتي مع الكتابة حب خالص وحرية خالصة، علاقتنا روح حُرَّة.

كتَبْتُ في إهداء أحد كُتُبي الأولى: «إلى ومع الإنسان»، وفي كتاب آخَر: «لا شيء أجمل من أن تُصاحِب العالم»، وفي إحدى رواياتي: «الإنسان أجمل فكرة في العالم»، عندما أنظر إلى هذه الإهداءات أعرف أنها فكرة تعيش معي من البداية: أنْ أُقدِّم الكتابة لكل شيء، أُهديها لكل شيء. أنا أُهدي كتابتي لكل إنسان، وأتمنَّى أن تكون له نورًا وجمالًا وحريةً.
 

مقالات من نفس القسم