سردية الظلّ والضوء، السيرة المشتركة بين الإنسان والجرذ

حقائق الحياة الصغيرة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
قراءة لرواية حقائق الحياة الصغيرة للروائي العراقي لؤي حمزة عباس

في روايته الجديد ( حقائق الحياة الصغيرة) ينقلنا لؤي حمزة الى منطقة أخرى في العلاقة بين الانسان وظله. الألماني غوته يقول: حيث يوجد الكثير من الضوء يكون الظل عميقاً. وبطل هذه الحكاية له ظله العميق، وبالقدر الذي يظهر فيه شريكا كاملًا للبطل في تجربة الوجود والعدم. حيث يقول الفتى الذي كبُر، وصار جنديا في الحرب للجرذ الذي تسلق صدره: أنت ظلي وصورتي، مرآتي وملاكي الحارس. أما العتبة النصية  في الرواية  تشكلت مثل نافذة نطل  منها على تفاصيل هذه الشراكة، فبطل (حقائق  الحياة الصغيرة) اكتشف حقيقته الشخصية من خلال وصوله لحلّ بخصوص إشكالية الاصل والظل، والحل الذي توصّل إليه لم يكن عرضيا أو هامشيا، بل حصل عليه اثناء غوصه للإجابة عن سؤال يتعلق  بنشأته، الإجابة التي تقول إن معرفة  الأصل في وجوده تتضمن أنه سليل الجرذ.

وفي المدخلٍ المحيّرٍ لهذه الرواية، والكاشفٌ بالوقت ذاته،  تظهر لنا بوابة للدخول الى هذا العمل،  فهو مدخل ينطوي على جاذبية، أو نبرة إغراء  تدفع للتوغل بعيداً في هذه المغامرة السردية.

: في كل حكاية جرذ، ينط من سطر الى سطر. وعندما  نتأمل هذه الجملة  المدهشة  التي تنطوي على إنفعال مصدره الانفتاح الدلالي  لهذه اللقطة، حركة الجرذ وهو ينط بين السطور.

ولقد تساءلتُ بعد هذه الجملة، كيف يحدثٌ هذا المزج بين سيرتين منفصلتين في الظاهر، بينما المدخلَ يسعى لجعلهما سيرةٌ واحدة. وكان عليّ أن أتوقفَ عن القراءة عند هذا الحدَ، أن أبحثَ خارج النص عن الخريطة التي تفك شيفرة هذا المزيج، الحكاية المشتركة بين الانسان  والجرذ.

 وبالصدفة، وجدت في كتاب “الجرذان والقمل والتاريخ” ل “هانز زنسر” الصادر عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (مشروع كلمة). إشارة تتضمن: إن الإنسان والجرذ هما الحيوانانِ المفترسان الأكثر نجاحًا على تدمير أنواع الحياة الأخرى، بل أنهما يشنان أيضاً وعلى الدوام الحروب  كلً على جنسه!

لكن الإشارة العميقة، وهي نقطة الرهان بالنسبة لي لقراءة هذه الرواية، ترد في كتاب جوناثان بيرث: الجرذ، التاريخ الطبيعي.  حيث تأتي  جملة غريبة في موضعٍ للحديث عن الحروب والقتل والدموية: لو تطور الإنسان نحو الأسوأ، فإننا لن نصلَ إلى القرد، بل إلى الجرذ.

 

وبطل هذه الحكاية، فتى يمارس حيواته داخل منطقة يتجلى فيها الانسان باعتباره بذرة من حيوان محبوس في الأعماق، وهو ممسك بحقيقة صغيرة  تتضمن أنه لم يكن سوى جرذ صغير يركض في أنفاق حفرها أسلافه الجرذان. وكان  يلتقط الاشارات التي تتعاضد يوما بعد يوم حتى تصير مادة تحوله الى جرذ، حيث انه في كل مرة يضيف كتابا عن مدن العالم تشتريه له جدته، وفيه يبحث عن اشباهه الجرذان الموزعين في العالم عبر انفاق سرية. وفي الليالي الطويلة كان يحلم سائرا في الانفاق للوصول الى المدن البعيدة، اسطنبول وروما وباريس.

وهو ايضا الراوي لظلة، حيث يحكي لجدته القصص الغرائبية من مجلد يقرأ منه في كل مرة حتى تنام، قصص عن الحيتان والبحار والحيوانات التي هي مادة للأساطير والخيال، يحلم وينتهي حلمه بصرخة مدوية، بينما الاف الجرذان بعيونها اللامعة واطرافها الرشيقة تعبر الى المدينة وتحاصرها من كل الجهات.

وكان للفتى ابن عم بحار حدثه عن قصص التعذيب في امريكا الجنوبية، وكيف استخدمت الجرذان كوسيلة لتعذيب المعارضين. وحين  يسمع حديثه عن جرذانه يقول له: ان كتب الجدة لحست عقلك، فيرد  الفتى: إن كتب الجدة تتحدث عن الملائكة والأنبياء وليس عن الجرذان.

وعندما نتوغل قليلاً في قراءة هذا النص المراوغ، سوف تظهر لنا واحدة من المرويات عن المكان، شريحة من الصور عن البصرة، وزاوية الرؤية في العدسة السردية، تنطلق قبل الحرب العراقية الايرانية بوقت قصير جداً. ولن تمر سوى صفحات قليلة حتى نتعرف على ابطل هذه المتوالية من الحكايات، في شريط المدينة البصري، الصور المشحونة بعاطفة طفل كان يكلم الجرذان، معتبرا هذا الحوار ينبوعا للغبطة أولاً، والطريق الذي يربطه بفكرة العدالة، ماهي العدالة! ينقل لنا الراوي طوال الفصول ما يمكن ان نطلق عليه شرحاً لهذه الفكرة، منطلقاً من العلاقة الغامضة السرية، بين الفتى الذي أدرك  في وقت ما أن الجرذان تسمعه وتفهمه، ولم تكن هذه لعبة معقدة، بل هي المخيلة  اتاحت نوعا من التلقائية ترتقي لمستوى الحقائق الصغيرة، فكان يكتب للجرذان القصاصات، يرميها في جحورها باعتبارها شريكاً يتحمل مسؤوليته، كونه طرفاً في معاهدة الدفاع عن  هذه الشراكة. لكن جذور  هذه العلاقة ترد في الرواية بشكل واضح، عندما تمر السنوات، يكبر الفتى  ويظهر بعد اندلاع الحرب جنديا في واحدة من الجبهات. إذ يقدم لنا السارد مقطعا مكثفا، يفتح لنا نافذة واسعة  تطل على  حقل النص، يقول

: كان ينظر الى السماء  في ليل الحرب، يقول الراوي : تطلق النجوم رسائلها المشعة في الكون المعتم الفسيح، لكل انسان رسالة باسمه، تخلق قبل أن يولد بآلاف السنين، تقطع السنوات الضوئية في انتظار اللحظة المحسوبة، والتي يرفع الانسان فيها نظره، عندها يكون الضوء قد وصل الى رحلته الاخيرة، يلج من بؤبؤ العين الى الاعماق البشرية المظلمة، حيث يعيش حيوان صامت شبه أعمى، يرتجف فور ان تمسه ذرات الضوء.

والجرذان بالنسبة الفتى ليست عائلة واحدة، بل هو نوع او قبيلة تتسم بالتنوع. هنا في هذه اللحظة يصف الجندي شريك الحكاية بجرذ الحرب، وهو اشارة تتعلق بتحول البطل في النفق الى جرذ كامل، وبالقدر الذي كان بإمكانه مخاطبته حين يمد بوزه، حين يتقدم ببطء، يصعد بقوائمه الرشيقة ليتشمم الشعر الكثيف لصدر الجندي: أنت ظلي وصورتي، مرآتي وملاكي الحارس.

وفي  مواضع اخرى من الرواية، تظهر أساطير الجدة، باعتبارها نسيجاً يعضد يقين الفتى، فقد سردت له يوما حكاية أخرى عن اصل الجرذان تقول: كانت قوائم الكلبين القوية تضربان الأرض ضربات يطير لها تراب كثير ورمل، كل ذرة تراب تسقط على الارض تتحول جرذا ذكرا، وكل ذرة رمل تتحول جرذا انثى، كانت الكلاب تركض والجرذان تركض  خلفها، فزعة تتقافز ذات اليمين و ذات الشمال تمضي خاطفة نحو ما يصادفها من شقوق وحفر انها تركض ليل نهار منذ صباح ابليس حتى قيام الساعة.

 لكن البطل هنا، يخلط بين العدالة والظلم المطلقين، يتساوى عنده الدفاع عن النفس مع الخراب الذي يحدثه الجرذ في حياة الخصم، ومنذ الصفحات الاولى من الرواية، ظل يكتب للجرذان قصاصات ويرميها في الجحور، كلما تحرك في داخله الشر. يقف بمواجهة عيونها التي تشبه الخرز، تقرأ قصاصاته الانتقامية وتستجيب باحثة من خلال الانفاق التي تمتد مثل الشرايين في مدينة البصرة عن هدفها، فهي تعرف طريقها،  تذهب لكي تقتص من الخصم.

ويرافق الجرذ بطل هذه الحكاية في حيواته ومشاهداته كلها، القسوة والخوف، الهزائم والانتصارات، ومعنى واحد  يشكل حقيقة لحياته، يتضمن أن لكل منا جرذه، شريكه في المواقف، فعندما يشعر البطل بظلم الاستاذ عباس مدير المدرسة له، يعود الى البيت،  يرسم على قصاصة سهما يشير الى أذن بشرية ، يرميها في الجحر وهو يعرف أن الجرذان تعرف طريقها، وتفهم المقصود، يعود الى فراشة ويتخيل كيف انها سوف تدخل غرفة مدير المدرسة، تهاجم سريره وتقرض أذنيه، ويشعر بالندم لحظتها لأنه لم يرسم سهما يشير الى الانف الطويل لأستاذ عباس .

لقد تعود ان يرسم تخطيطات للأشرار، زملاءه الاشرار في المدرسة، لكنه كان يرسم في قصاصات أخرى ملامح الرئيس ايضا. وفي لحظات أخرى كان يندم على القصاصات، يشعر بالذنب لأنه أساء التقدير فيرجع الى الجحر ويتوسل بشريكه أن  يعيد له القصاصة كما حدث مع قصاصة استاذ عباس مدير المدرسة والذي ظهر له في اليوم الثالث طيبا وليس شريرا.

هذه الرواية هي عدسة مكبرة، نرى من خلالها بذرة الشر التي في داخلنا،  عمل ينطوي على خيال خصب تتعدد فيه الحيوات والاشكال والوقائع، لكنها في النهاية تشترك في أن جرذاً ينط من سطر الى سطر من الحكاية، سيرة الطفولة والفتوة، الحب والخيانة، الحرب، الأسرى والمقاتلين الضباط، السلطة، وحتى الرئيس نفسه، سيرة يتخللها خطف جرذ، حيث تظهر في كل مرة المقاربات بين الانسان وطبائع  حيوانه النائم في مكان ما، والذي لا يستيقظ إلا اذا سقط عليه الضوء،  مقاربة بين ذيل الجرذ، الرشيق الأملس، مع الذيول اللامرئية للبشر، والتي خسر بطل الحكاية الكثير من الوقت لرؤيتها، خاصة في مراقبته الطويلة لمسجد كان المصلون ينحنون فيه فلا تظهر ذيولهم التي تتحدث عنها الاساطير. انها  ذيول الجرذان التي تظهر عندما تغمر البشر العنجهية والظلامية، عندما يتجلى  الشر الذي يحررونه فيصيب الآخرين، انه ذيل الشر الذي يشبه ذيل الجرذ العابث الجرذ الذي يقرض الحكايات، والذي لن يتحقق وجوده الخامل إلا في لحظة محسوبة كما يقول السارد، حيث ينفذ الضوء القادم من النجوم ليستقر في  داخل الانسان فيستيقظ  شريكه الحيوان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية صادرة حديثًا عن دار المتوسط 

مقالات من نفس القسم