عبد الرحيم المتدلاوي
سد مأرب
جمعهم لميقات يوم معلوم..بشرهم بالخير العميم القادم مع الأيام..حثهم على الصبر؛ فما فاز إلا الصابرون..
عاصفة مجنونة مرت، فتشوش الاتصال..
كنت أراهم من خلال نظارتي الطبية وكأنهم في غي يعمهون: هو يتحدث وهم يصفقون..
ك
ل
ف
ي
و
ا
د…
**
تحرر
بعد أن أجرى البارحة عملية جراحية دقيقة ناجحة، لم يعد يشعر كما في الماضي أنه مكبل، وأنه يرزح تحت أثقال قاصمة..
فقد أخرج الطبيب من دماغه جثثا متعفنة..
صار اليوم قادرا على التحليق بحرية.
**
كرامة
وهو ذاهب لزيارة أمه طريحة الفراش، شاهد قطة عجفاء تموء بوهن من وطأة الجوع، رق لحالها، فانحنى يمسد ظهرها.. شعرت بدفء يسري في جسدها، فتقوست، وبدأت تتمسح به. أطعمها وسقاها، ثم تابع طريقه مطمئنا أنها لن تموء من الجوع نهائيا.
**
سراب
وأنا أسير في الصحراء أتأمل الطبيعة والحياة إذا بنافذة تفتح أمامي وتخرج منها يد تمدني بورقة.. تنسحب اليد. تغلق النافذة. وتغيب. أنظر إلى الورقة. أتبع السهم والأثر بإذعان.. وبعد لحظات أبلغ بابا؛ أفتحه أجد نافذة تطل على رجل يسير في الصحراء متأملا الطبيعة والحياة. أخرج يدي من النافذة، واضع بين يده ورقة. أسحب يدي. أغلق النافذة وأذوب.
**
قال لي العراف سيسرق منك شيء قريبا..
ولما مررت من أمامي لم أجد قلبي.
**
من كتاب الحكمة
كيف لا أصاب، يا سادة، بالحيرة وأنا أرى إلى جانب سريري كل صباح ورقة بيضاء عليها وردة صفراء ذابلة؟!
أكيد أن جملة أسئلة تعصف بذهني وبذهنكم: من صاحبها؟ وكيف وصلتني؟
بقيت رهين حيرتي أمدا إلى أن بلغني من باب منزل قريب شبه بكاء، أو نحيب مكتوم. أصخت السمع لأتأكد، وإذا به ينفتح بقوة ليخرج منه رجل ضخم كثور هائج، دفعني بفظاظة.. كدت أسقط لولا يد ناعمة أسندتني، التفت لأرى وجها جميلا يكاد يذوب جفافا، حينها صفعتني كل الأجوبة.
**
تأمل
جلس في باحة المقهى الخارجية كإله منسي، ينظر بفرح عارم إلى حركة الناس وحركة الحروف على صفحاته تتشكل على مهل قصة مكتملة البناء، يرفع راسه ليتابع سيارة إسعاف تحمل امرأة إلى مستشفى الولادة حيث تضع مولودها، يعود ببصره إلى القصة ليجد نقطة حمراء في نهايتها فيفغر فاه. تهب ريح لعوب فتتشتت الأوراق شذر مذر. يغيب الناس، تغيب المقهى، ويبقى وحيدا في طريق موحش كإله منسي يحمل طفلا حديث الولادة، لا يستطيع حمله لثقله فيتركه ينزلق لتحضنه أوراق بيضاء، يعود الناس إلى الشارع، ويعود المقهى إلى مكانه، وتعود سيارة الإسعاف إلى المنزل حاملة بشرى غلام. ويعود الرجل إلى أوراقه معتقدا أن كل شيء كان مجرد حلم راود رأس قاص وحيد. في عزلته كغله منسي.
**
الصندوق
يغرس محراثه الخشبي في جوف الأرض يقلبها ليصنع خطوطا، وإذا به يرتطم بشيء صلب، يتوقف قليلا، ينحني مستجليا الأمر، يعثر على صندوق خشبي، ينتشله، ويعالج قفله بروية، ثم يفتحه ليصعد منه دخان أسود لا غير، يقف متأملا للحظات قبل أن تند عنه صرخة استغراب مكتومة؛ فقد صارت الأرض بكاملها محروثة بدقة..
يذهب إلى كوخه مسرعا ليخبر زوجته بالأمر، فيجد مكانه قصرا، وزوجته محاطة بمحظيات، تلبس أفخر الثيان، وتتمنطق بحزام ذهبي ومن جيدها تتدلى عناقيد اللؤلؤ والألماس. يشعر بسعادة غامرة.
يخرج إلى الشارع وكلما رأى فقيرا قبض قبضة من الهواء ويمده بها لتصير بين يديه، في رمشة عين، أوراقا مالي.
. شاع خبره فطلبه الحاكم ليستخلصه لنفسه. دعاه إلى أن يقبض الهواء ويريه من عجائبه، فأبى أن يفعل. يغضب الحاكم ويطلب من حراسه أن يحيطوا به، ويلقوا عليه القبض، يتبخر ليصل إلى عنق الحاكم فيحكم قبضته على عنقه إلى أن يلفظ أنفاسه.
يتولى الحكم من بعده، لتعيش البلاد تحت سلطانه سنوات الرخاء والأمن والعيش الرغيد…
بعد فترة يشعر بالملل، فيأمر بانتخابات ديمقراطية، ويعتزل الحكم، ليجد نفسه في حقله ممسكا بمحراثه الخشبي يرسم خطوطا على خد الأرض، فكل ما مر به لم يكن سوى حلم راوده الليلة الفائتة، لكنه حلم مازال قائما؛ قد يتحقق بظهور الصندوق.
**
جبر
اتخذ قمة الجبل ملجأ، يدعو فيه على الحاكم..إلى أن مات.
الحاكم الذي سلبه:
أرضه،
بيته،
زوجته،
وشرد أبناءه..
لما علم بالخبر، بنى له، على وجه السرعة، ضريحا فخما، وجعل الحج إليه فريضة.
**
تبصر
يقف شاب وسيم بغشوع أمام بئر مهجورة قد جف ضرعها، يكتب على ورقة كلمات، ويرسم دوائر ومربعات وبداخلها أرقام وحروف وسهام غريبة، يطويها بعناية، ثم يضعها في جراب جلدي صغير.. يخيطه بعناية، ويلقي به في القاع..
وما هي سوى لحظات حتى ظهر الماء وفاض على جوانبها ليسقي الأرض العطشى.
ذاع خبر الشاب والبئر، فحمل الناس آنيتهم وقدموا من قرى العطش زرافات ووحدانا، على وجوههم البشر، انتظموا، فأخذ كل واحد قسطه وزيادة، وعاد إلى بيته فرحا ومسرورا بالنعمة الطارئة..
انتباه واجب:
ليس هذا سوى حلم راود رساما؛ يجلس الآن قبالة لوحته البيضاء، ويبحث منذ أرق عن طريقة جديدة لينقله إلىها.
**
انتظار
دأبوا على انتظاره في المكان نفسه؛ ما أخلف موعده أبدا. حين يهل تنبسط أساريرهم ويعودون إلى منازلهم بطانا بفعل انفراج يديه.. اليوم ظلوا مسمرين ينهشهم الانتظار ويأكلهم الجوع.. هبت ريح فكنست عظامهم النخرة.
**
كتابة المحو
قضى وقتا طويلا في الكتابة والمحو إلى أن أصيب بدوخة جعلته يسقط في قعر نهر جارف حمله إلى شاطئ يعج بالحياة، سعى إلى أن يبلغه لكن الجزر منعه، فكاد يفقد أنفاسه. حينها أخرج أقلامه وصيرها مجاذف .. بلغ الشاطئ منهكا وكان الليل قد أرخى سدوله، والمكان يعج بالفراغ. نام طويلا، وحين استفاق وجد نفسه مغطى بأوراق بيضاء كالحليب.