إحيـاء الطفل

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لفت زوجتي طفلنا في قماطه وحملته بين ذراعيها. راحت تناغيه وترف شفتيه بطرف سبابتها.

ظل وجهه هادئاً ساكناً. مغمض العينين، كما هو. كأنه في نوم أبدي عميق. وكان شعاع الضوء ينير وجهه مثل الملاك.

أسرعنا به إلى مدينة الأطباء.

مدينة الأطباء كبيرة وعائمة وسط جداول مياه ضحلة يصل فيها الماء الصافي إلى الركبتين. وقد تم تصميمها على هذا النحو كي لا تنتشر بها عدوى الأمراض المتفشية بين الناس هذه الأيام.

بيوتها الطبية بيضاء ومكونة من طابقين. حول البيوت أشجار سرو وكافور عملاقة تظلل جدرانها، وعلى كل شجرة منحوت بخط بارز اسم شخصية شهيرة، فهذه شجرة مارلون براندو وهذا شجرة تولستوي.. مجرد أسماء عشوائية لمشاهير، فتجد مثلاً شجرة الأم تريزا بجوار شجرة هتلر.

لا يمكن الوصول إلى الطبيب دون عبور حواجز كثيرة من الأشجار والمياه ونباتات الماء وركوب أحد القوارب الصغيرة أحياناً. القوارب كانت متاحة مجاناً للجميع ويقودها صبيان سمر لهم رؤوس ضخمة على أجساد ضامرة شديدة النحافة.

أثناء جلوسنا في القارب كنا نرى بسهولة قطع الحجارة الجيرية والطحالب راسية في القاع وطيور بيضاء مائية لا أعرف اسمها، لكن تغريدها المبحوح كان لطيفاً ومهدئاً للأعصاب. بدت بعض البيوت الطبية التي درنا حولها بلا مدخل ولا نوافذ. أشارت زوجتي إلى طوابير المرضى أمامها. خمنت أنها تعني أننا سننتظر طويلاً، أو أنها فقط تستغرب من وقوف هؤلاء المجانين أمام بيت لا مدخل له!

لم تكن هناك أي لافتة تساعدنا في معرفة تخصص كل بيت طبي. وبما أن طفلنا كان صامتاً ولا تصدر عنه أدنى حركة،  فلا أنا ولا أمه كنا نعرف مما يعاني على وجه الدقة، ولا من هو الطبيب المناسب لعلاج هذه الحالة.

تمنيت لو نعثر على طبيب ساحر يساعده كي يصرخ ويبكي ويضحك ونسمع كركبة بطنه وضراطه. مثل أي طفل طبيعي.

ونحن نجتاز المزيد من الممرات المائية، تخيلت شكل هذا الطبيب الساحر وهو يتناول الطفل من أمه ويدق على بطنه ثلاث دقات خفيفة، ثم ينفخ الهواء في أذنه، يفتح جفن عينه برقة، ثم يفحصها بآلة صغيرة.. قبل أن يأتي بآلة أخرى تقبل صغيري في فمه فتدب في جسده الحياة.

لا أستطيع أن أتصور فكرة أنه ميت ولن يحظى بدقيقة حياة واحدة على الأقل. دقيقة واحدة يتنفس فيها ويبتسم. كلما مرت في خاطري تلك الفكرة كنت أطردها وأشجع زوجتي.

من يكون هذا الطبيب الساحر؟ وأين نعثر عليه وسط هذه البيوت ونحن نخوض في شوارع مائية لا نهاية لها؟!

انتبهت إلى وجود عدد لم أكن أتخيله من الأولاد السود، كانوا نصف عراة يجوبون الشوارع بخفة وألفة. لعلهم أدلاء وسمسارة يساعدون المرضى القادمين إلى المدينة مقابل عمولة بسيطة أو يبيعونهم سراً أدوية ممنوعة كما نسمع في التلفزيون.

بعضهم كان يلهو بمطادرة سمك الماكريل الصغير الذي يسبح حولنا ويقفز في الهواء فجأة. أشرت إلى زوجتي: لن يساعدنا إلا أحد هؤلاء الأولاد الأوغاد.

ناديت على أحدهم وسألته عن أمهر أطباء المدينة، فشرح لي كيف أن هذا الطابور الواقف أمامنا، هنا منذ عام لأن هذا البيت أساساً بلا مدخل لكن الطبيب الموجود في داخله ماهر جدًا. ثم اتجه بنا إلى خلف البيت وجلب سلماً خشبياً وصعد أمامنا.. تناول الطفل مني وبدوري ساعدت زوجتي في الصعود قبلي.

هبطنا إلى صحن البيت والتقينا الطبيب دون الوقوف في طوابير، وبمجرد أن وضع يده على جبين الطفل البارد حتى قال:

ـ "الولد ميت!"

قلت له:

ـ "ألا تستطيع أن تفعل شيئاً؟"

هز رأسه:

ـ "قلت لك الولد ميت"!

دخن من غليونه وهز رأسه ثانية، ثم أشار بيده كي ننصرف.

الولد الذي اصطحبنا أعادنا عن طريق السلم نفسه، وشجعنا ألا نيأس. روى لنا كيف جاء صغيراً  من الصومال، مثل عشرات الأيتام إلى هذه المدينة، وكان لا يستطيع اصطياد سمكة ماكريل واحدة أما الآن فهو يضرب يده مثل الخطاف فيخرج السمكة في ثانية واحدة.

لا أعرف ما علاقة ما حكاه لنا بإحياء ابني. على أية حال كلامه شجعنا على الذهاب إلى طبيب آخر. قرأت على شجرة تشبه شجر الأرز اسم "لويس بونويل" وحين التفت الولد وسألني: ما اسم طفلك؟ قلت كاذباً ودون تردد:

ـ "لويس بونويل"

فعاد وسألني إذا كان طفلي تسمم بسبب اسمه الغريب هذا؟! شرحت له أنه ولد هكذا. لا يتكلم ولا يتحرك ولا يتنفس.

ـ "أصابته الحصبة الألمانية؟"

لم أرد، فابتسم الصبي الأسمر بعينيه الواسعتين ورشح لنا طبيباً عجوزاً قال إنه حكيم المدينة الطبية كلها.

تطلع الطبيب حكيم المدينة في وجه الطفل الساكن بين ذراعي أمه ثم نظر في عيني وخلع قبعته وقال:

ـ "من تظنني أيها الأبله؟ عيسى ابن مريم!"

دفعت للصبي، بعد مغادرتنا، مزيداً من النقود وقلت له لا بد أن هناك في هذا المدينة أطباء سحرة قادرون على فعل المعجزات! رد مؤكداً على كلامي:

ـ "طبعاً هناك أطباء أولاد جنية. هيا بنا.."

قادنا عبر جدول صغير ـ على الأرجح ـ إلى خارج المدينة، وعلى ناصية النهر كان هناك بيت طبيب هندي يبدو في سن المائة وله لحية بيضاء بطول صدره وصلعة محمرة على جانبيها شعر أبيض، طويل وناعم.

تناول الطفل في حجره وراح يدلك أعضاءه المتيبسة بهدوء ويتلو تعاويذ غامضة. ابتسمت في سري، فهو على الأقل لم ينهرنا. بل لم يبال أصلاً بوجودنا. هو الوحيد الذي كان مؤمناً بإمكانية أن يتحرك طفلي. فجأة وجدتني أصيح:

ـ "طفلي ابتسم.. طفلي ابتسم"

كان طفلي يبتسم بالفعل. زوجتي أيضاً لاحظت ذلك ووقفت مهللة وقد امتلأت عيناها بالدموع.

الطبيب الهندي العجوز كان ساكناً كما هو، مغمض العينين، وكأننا لا وجود لنا أمامه. كان بجواره راديو صغير تنبعث منه موسيقى "برسيفال" لفاجنر. لا أتذكر كيف عرفت أنها موسيقى "برسيفال".

أخبرنا الطبيب أنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك. كل ما يمكنه أن يفعله هو أن يجعل الطفل يبتسم لأبويه. تدخل الصبي الدليل وقال لنا:

ـ "أرأيتم؟ هذه معجزة حقيقية! المعجزات مازالت تحدث!"

سألته زوجتي:

ـ "ألن يتحرك؟ ألن يقول شيئاً لأمه؟!"

هز الطبيب رأسه وأعاد الكلام نفسه بأن كل ما يستطيعه أن يجعله يبتسم لنا كلما جئنا به إلى هنا. هممت بدفع أجرة الطبيب فنهرني الصبي وهمس في أذني بأن هذا العجوز الهندي أكبر أطباء المدينة سناً وهو زاهد توقف عن أخذ أية أجرة منذ ستين عاماً. وهو الوحيد الذي يعالج من دون أن يكتب أي علاج لأحد.

قالت زوجتي بعدما انصرفنا:

ـ "وماذا سنفعل بابتسامة طفل لا يتكلم ولا يتحرك؟!"

 قلت لها: "يكفي أنه يعرفك ويعرفني ويبتسم لنا".

ـ "وهل سنقطع كل يوم هذه الرحلة الشاقة من أجل أن يبتسم لنا؟"

فضلت تغيير الموضوع:

ـ "ما رأيك في تأجير أحد البيوت هنا.. بالقرب من بيت الطبيب الهندي!"

الصبي الذي مازال يسير معنا كي يرشدنا إلى المرسى الرئيسي للقوارب استحسن الفكرة وأكد أننا سننعم هنا بهدوء لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم.. استطرد يشرح لنا فوائد أن يكون لدينا بيت يحيطه الماء من أربع جهات وأشجار سرو وكافور وأرز ويمام وطيور بيضاء ونستطيع أيضاً أن نرى سمك الماكريل وهو يلعب في المياه الجارية الشفافة، يذهب إلى المحيط ويعود.. فوق هذا كله، تستطيعون الحصول على ابتسامة من طفلكم في أي وقت. في حين أن آباء كثيرين لديهم أطفال أحياء ولا يستطيعون الحصول على ابتسامة منهم.

ظل الصبي يحكي متحمساً وهو يأسف لأنه لم ير ـ مثلنا ـ ابتسامة طفلنا بعينيه، لأنها معجزة خاصة فقط بين الطفل ووالديه، كما فهم من الهندي العجوز.

سكت أخيراً.. ونحن بدورنا كنا صامتين، نسير خلفه.

ثم التفت نحوي وعاد يقول:

ـ "من المؤكد أن ابتسامة الطفل عظيمة.. معجزة فعلاً".

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون