سأحبّ مِن أَجلي، وقَصائد أُخرى – لويس بونويل

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لويس بونويل

ترجمة وتقديم: مبارك وساط

إنّ لويس بونويل (1900-1983) – الإسباني، الحاصل على الجنسيّة المكسيكيّة-  معروف جِدّاً كمخرج سينمائيّ سورياليّ مرموق وكبير، ولكنّ صيته كشاعر خافتٌ حقّاً، ولا أذكر أنّي قرأتُ عن بونويل الشّاعر شيئاً باللغة العربيّة. أمّا في الفرنسيّة، فكانت قد نُشِرَتْ له قصائد مُتَرجَمة سنة 1995، ولكنْ وَجب انتظار يونيو 2022 ليظهر كتاب شِعريّ / نثريّ جميل للويس بونويل، مزدوج اللغة (فرنسي- إسباني)، في السّلسلة الفرنسيّة الشّهيرة: شِعر / غاليمار. يتضمّن هذا الكتاب – الذي يحمل عنوان “الكلب الأندلسيّ ونصوص شِعريّة أُخرى”- نُصوصاً لبونويل بالإسبانية مرفوقة بترجماتها الفرنسية التي أنجزها جان ماري سان-لو.

 بين دفّتي هذا الكتاب، نجد تقديماً لفيليب لانسون، وقصائد تحت عنوان “الكلب الأندلسيّ”، وقصائد نثر يجمعها عنوان: “خيانة لا تُوصَف، وقصائد نَثر أُخرى”، وتراجيديا هزليّة بعنوان “هاملت”، و”كلب أندلسيّ وسيناريوهان آخران”، ومحاضرة لبونويل، عنوانها “السّينما، أداة للشّعر”، وفي الختام، هنالك ملفّ يشمل جَرداً زمنيّاً لكتابات بونويل، وبيبليوغرافيا وملاحظات.

 وكما هو الحال في عدد من أفلامه، فإنّ السّعي إلى استكشاف الخفيّ المُلغز، والتّمرّد على الأساليب المستتبّة، والرّغبة الوطيدة في تحرير الخيال، هي محرّكات أساسيّة لإبداعاته في مجال الكتابة أيضاً.

 تعود أغلب النّصوص الذي يتضمّنها الكتاب الذي يعنينا إلى عشرينيّات القرن الماضي. ولم يكن بونويل يتصوّر، وهو يُمارس الكتابة الشِّعرية وقتَها (وينشر إحدى قصائده في مجلّة أدبيّة)، أنّه سيصبح سينمائيّاً. لكنّه سينجز فيلم “كلب أندلسي” بمعيّة سالڤادور  دالي، وبدا أنّ ما توخّاه في فيلمه هذا هو ما كان يسعى إليه من خلال الكتابة الشِّعريّة، أي: « التّوازن غير القارّ وغير المرئيّ بين العقلانيّ واللاعقلانيّ… وتوحيد الحلم والواقع، الشّعور واللاشعور، بعيداً عن كلّ نزعة رمزيّة…»

 في يناير 1929، كان بونويل قد بدأ يتحدّث عن كتاب له تحت الطّبع، وفي 10 فبراير 1929، كتب إلى أحد أصدقائه مُؤكّداً له بأنّ كتابه سيكون بعنوان “الكلب الأندلسي”، وهكذا، فإنّ الفرق الوحيد بين عنوان الكتاب الذي كان يحلم بإصداره وعنوان الفيلم الذي دشّن به نشاطه كمخرج سينمائي، هو أن الأوّل مُعرَّف والثاني في صيغة النَّكِرة. وبظهور هذا الفيلم (1929)، أغفل بونويل مشروع إصدار الكتاب. ثمّ ظهر فيلمه المشترك أيضاً مع دالي، الذي هو “العصر الذّهبي” (1930)، فأثار عليه استنكاراً صاخباً وقويّاً مِن لدن المتديّنين والمحافظين، وجرّ عليه عداوات من كلّ حدب وصوب، وهكذا وَجَد نفسه غير مرغوب فيه كسينمائيّ أيضاً، فغيّر وِجهة نشاطه الإبداعي، وكتب قصصاً شاعريّة كانت هي مسك ختام إنتاجه الأدبيّ.

 يلزم أن نشير إلى أنّ لويس بونويل، خلال الحرب الأهليّة الإسبانية، كان من مناصري الجمهوريّين (كما هو مُنتظر منه)، على عكس سالڤادور دالي الذي ظهرت ميوله اليمينية الفرنكوية. لقد بقي لويس بونويل على ماركسيته، وقد ساهم في فيلم وثائقيّ مؤيّد للجمهوريّين (مدريد 36)، ثمّ هاجر إلى الولايات المتّحدة. وهنالك كان يتعرّض لضغوط بسبب ميوله اليسارية واستهانته بالكاثوليكية. وقد اشتدّت هذه الضّغوط، بشكل خاصّ، بعد أن نشر دالي كتابه: “الحياة السِّرّية لسالڤادور دالي”، الذي أشار فيه إلى أنّ لويس بونويل كان وحده المسؤول عمّا تضمّنه “العصر الذّهبيّ” مِن سخرية من الكنيسة وسائر ما استعدى ذوي المزاج المُحافظ. وبسبب تلك الضّغوط، تخلّى بونويل عن عمله في “متحف الفنّ الحديث” بنيويورك وهاجر إلى المكسيك، التي سيكتسب جنسيتها وينجز فيها أفلاماً (مثلما سينجز، لاحقاً، أفلاماً في فرنسا)…

 في ما يلي، قصائد مترجمة من كتاب “الكلب الأندلسي” للويس بونويل:

*

سَأُحبّ مِن  أَجْلي

دموع أم صفصافة على الضّفّة

ذاتِ الأسنان الذّهب

ذاتِ الأسنان التي من غبار الطّلع

مثلما فم فتاة

شَعرُها منبع نهر

في كلّ قطرة سمكة صغيرة

في كلّ سمكة صغيرة سٍنّ ذهبية

في كلّ سنّ ذهبية ابتسامةٌ في الخامسة عشرة

من أجل أن تتوالد اليعاسيب

 

فيم يُمْكن حقّاً أن تُفَكّر فتاة بِكر

حين تكشف هبّةُ ريحٍ عن فخذيها؟

*

 قَصْر مِن جليد

كانت البِرك على شَكل دومينو من المباني مقطوع الرّأس، واحد منها هو برج القلعة الذي حدّثوني عنه في طفولتي. ذو نافذة واحدة بِعُلُوّ عينيِّ أمّ تنحنيان على مَهد.

قًرب الباب عُلّق مشنوق يترجّح فوق مهوى الأبديّة المُغلَق، مَصروخاً فيه بالفضاء. إنه أنا. إنه هيكلي العظميّ الذي لم يَبق منه إلّا العينان. أحياناً تبتسمان لي، وأحياناً خرى تُوجِّهان إليّ نظرات حولاء، ومرّاتٍ تمضيان لتأكلا فتات خبز في دماغي. تنفتح النّافذة وتظهر سيّدة تحكّ بالمصقلة أظفارها. وحين ترى أنّها تذبّبتْ بما فيه الكفاية، تقتلع عينيّ وترمي بهما إلى الشّارع. محجراي فارغان، بلا إبصار، بلا رغبات، بلا بحر، بلا كتاكيت، بلا أيّ شيء.

تأتي ممرِّضة وتجلس قريباً منّي إلى طاولة المقهى. تفتح صحيفة تعود إلى 1856 وتقرأ بصوت متأثّر:

 « حين دخل جنود نابوليون إلى سرقسطة، إلى سرقسطة المدينة، لم يجدوا سوى الرّيح في الشّوارع المهجورة. وحدهما في بركة كانت عينا لويس بونويل تنقنقان. وقد أجهز عليهما جنود نابليون طعناً بحراب البنادق.»

 *

 ونحن نَدلف إلى الفراش

بقايا النّجمة، العالقة بشعرك

كان لها صرير حبة فول سودانيّ

النجمة الذي اكتشفتِ نورها

قبل مليون سنة خلت

في اللحظة نفسها التي شهدتْ ولادةَ

طفل صينيّ صغير جِدّاً

 

«الصّينيون هم وحدهم الذين لا يخافون الأشباحَ

التي تخرج من جلودنا كلّ منتصف ليل»

 

كمْ مؤسفٌ أنّ النّجمة

لمْ تعرف كيف تُلقّح ثدييك

وأنّ عصفور اللمبة الزّيتية

نَقَرها مثلما حبّة فول سودانيّ

نظراتي ونظراتك تركتْ في بطنك

علامة ضرب مستقبلية ومضيئة

*

عُصفور القَلَق

كان ديناصور بحريّ ينام بين عينيّ

بينما الموسيقى تحترق في مصباح

والمشهد يستشعر عاطفة حرَّى لِتَريستان وإيزولت

 

كان جسدكِ يُلائم نفسه مع جسدي

مثلما يد مع ما تريد أن تُخفيه؛

مسلوخةً

كانت تكشفُ لي عضلاتِك الخشبيّة

وباقاتِ الشّبق

التي  كان ممكناً تشكيلها مِن عروقك،

 

كان يُسمَع ركضُ بَيْسونات مغتلِمة

وسط زغبنا المرتعشِ كأوراق في حديقة؛

كلّ المحاورات العِشقيّة تتماثل

لها كلُّها تناغمات هذيانيّة

لكنّ الصّدرَ مدعوس

مِن قِبل موسيقى ذكرياتٍ عتيقة؛

ثمّ تَحين الصّلاة والرّيح،

الرّيح التي تنسج أصواتاً مًسَنّنة

في رِقّة الدّم،

مِن زمجراتٍ تشكّلت لحماً؛

 

أيّ رغبات، أيّ رغبات مستعرّة لدى بِحار مُحطّمة،

تحوّلت إلى قِطعِ نيكل

أو إلى نشيدٍ شامل لِما أمكن أن يكون مأساة،

ستولد، عصافيرَ من اتّحاد فمينا،

فيما يدلف الموت إلينا مِن أرجلنا؟

 

ممتدّةً كجسرِ قُبلاتٍ مِن حجر، تدقّ الساعة الواحدة.

الثانية طارت ويداها متصالبتان على صدرها.

الثالثة تُسمع أبعد من الموت.

الرّابعة كان لها ارتعاشُ شفق.

الخامسة كانت تَرسم بالبركار الدّائرة التي تَنقل النّهار.

 

مع السّادسة سمعنا عَنزات الألْب الصّغيرات

يسوقهنَّ رهبان إلى المذبح.

*

لا يبدو لي هذا حسناً ولا قبيحاً

أعتقد أنّنا أحياناً تتأمّلنا

من أمامٍ مِن خلف من الجانبين

عيون حاقدة لدجاجات

عيون رهيبة أكثر من ماء المغارات الآسن

ميّالة إلى زنا المحارم أكثر مِن الأمّ

التي ماتت على منصّة الإعدام

لَزجة مثل مُضاجعة

مثل الجيلاتين الذي تبتلعه العُقبان

 

أعتقد أنّني سأموت

بيدين مَخفيتين في وَحل الطّرقات

 

أعتقد أنّه إذا ما وُلِد لي ابن

سيبقى باستمرار ناظراً إلى

سفاد البهائم لدى الغروب

*

مِصْقلات خارقة

في الشتاء تسقط أعمدة الإشارة في البحر

وقد مزّقتها الرّيح والصَّلب

يمكن لسفينة أن تغرق في قطرة من دمي

من دمي حين يسقط على صدر

مَركيزةِ لويس خامس عشر مِن رَغوة

 

هذا المشهد هو أقلُّ تجمّداً

على الجليد منه على أظفار الموتى

الذين ينبغي أن يُبعثوا

بأصابع تحوّلتْ إلى أزهار

أزهار احتضار مُخْمَد وخَلاص

 

مُقسّمةً مثل وادي يُوسَافَاتْ

خطُّ فَرقة رأسي تنتظرهم.

فيما المسيح يُصدر الأحكام

ستمنح مريم العذراء وهي في روب استحمام أبيض

قطع خبز للمُدانين

وتضع عصفورَ ملامسات

على جباه مَن سينجون

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي art 14
Uncategorized
موقع الكتابة

انتحار