رومانتيكا

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

زهير كريم

كان نعيم، الابن الأكبرللأستاذ فاخر مدرس الرياضيات في ثانوية بغداد، يحلم كثيرا. بالطبع، كلنا نحلم، بعضنا يحلم أكثرمن غيره، وبوقائع يمكن تفسيرها حسب كتاب بن سيرين أو حسب نظرية السيد فرويد، وبعضنا لاتنتج مناماته سوى عجينة من الأحداث، لقطات مضطربة لايمكن تفكيك تركيبتها عند الاستيقاظ..

 

لكن مايحصل لنعيم رومانتيكا، الشاب الذي حازعلى هذا اللقب بسبب خياله الطليعي،ليس مجرد نشاط عصبيّ يحدث أثناء النوم، أبدا، يظهر الوجه الحقيقي لتجاربه الحلمية كتشاط  يترك أثرا على وظائف الجسد، وتغييرا  كبيرا في الملامح، نوع من الأحلام العجيبة التي تحدث كذلك انحرافا في مسار المستقبل، وعلى كل حال، كانت هذه القوة الحلمية تنبع منالعالم الداخليّ، والتي كانت تسحب نعيم إلى الينابيع البعيدة، فتفتح الرغبة فمها وتشرب، تشرب،تشرب حتى ترتوي.

وكان في الحلم قد وجد نفسه في وخارست. وفي الواقع، كان هذا الحلم في الأصل مخصصا لأبيه، مدرس الرياضيات الذي استيقظ فجأة  في أحد أيام شبابه لسقوط أوان وأكواب في المطبخ، أحدثت صخبا، فز ولم يستطع بعدها اكمال حلمه، لهذا السبب بالذات تمنى أن يتخذ ابنه نعيم  مهنة الطب وباصرار لامثيل له،هذا لأن الأستاذ فاخر نفسه أراد  أن يكون طبيبا،لكن ابيه أجبره على أن يكون محاسبا أو موظفا في بنك.

وعلى كل حال، وجد نعيم نفسه بعد ستة أشهر في الهند، هو نفسه لايعرف كيف حدث ذلك !! خاصة وأنه ارتبط بعلاقة غرامية مع زميلة له اسمها( آنديريا) والتي يلقبها الأصدقاء _فراشة بوخارست _ وله أصدقاء قضى معهم وقتا طيبا ،أحدهم  كان يعمل في التجارة اسمه (حسن دوح) الملاك الساخر كما يلقبونه، والآخر كان يعمل في مجال المطاعم اسمه وليد ابراهيم، والذي يمكن بالفعل رؤية بياض قلبه دون الحاجة لأية معدات مسح ضوئي.حسنا، الأوضاع كانت غير مريحة اطلاقا، إذ ظهر في تلك الأيام شريط فديو، شاهده الجميع، شاهدوا  خيط الدم الذي سال من تحت جثة نيكولاي شاوشيسكو ، وكان خيطا مربكا ومثيرا لاضطرابات كثيرة.

ثم اشتغل نعيم أولا سائق (تكتوك) في دلهي بمجرد وصوله الى هذه المدينة الصاخبة، رغم أنه لم ينس حلمه القصير الذي كان يتضمن دراسة الطب، لم ينس ثلوج رومانيا و(آنديريا) والأصدقاء، لكنه حاول من أجل التأقلم مع الجو الجديد أن لايفكر بهذه السيرة التي انفرطت خطوطها بسرعة.

ولم يمر سوى عام واحد حتى تزوج نعيم من شابة جميلة تشبه الممثلة  (هيما ماليني)،أعجبه فيها تلك الحلقة الفضية التي تضعها في أنفها، وأثاره جسدها الممتلئ  كحبة المانجو ،والملفوف بالساري، لهذا استعجل كثيرا لتقشيرها، وكان قد تابع محبوبته في طريقها الى عملها في محلّ للملابس التقليدية لشهر كامل، ثم استوقفها في أحد الأيام،حياها بالطريقة المعروفة المليئة بالاحترام، حيث وضع كفيه ملتصقين باتجاه راحة اليد، اعترف لها بحبه، ابتسمت، واعترفت له بحبها كذلك، قالت له: أنت هديتي العظيمة _ ناييم_ هديتي التي لن أحتاج بعدها لشيء وسوف اقدم النذور للمعبد طوال حياتي. نطقت كل ذلك بانكليزية مكسّرة، لهذا كانت الكلمات تخرج من فمها مطحونة كأنها غبار يشتته الهواء الخفيف، فيركض نعيم رومانتيكا خلف الكلمات، يقفز في كل الاتجاهات،ويطير أحيانا ليجمعها،يصفّها معا ليكوّن الجملة التي يفهم من خلالها الرسالة العاطفية التي نطقتها (هيما ماليني). بالطبع،كان ذلك قبل أن يتعلم اللغة الأوردية ويغني بها أيضا. وبالنسبة له كان يحب الغناء جدا، لم يمنع نفسه من تجريب أداء حنجرته كلما سنحت له الفرصة،ثم اكتشف بالفعل أن صوته يصلح للغناء الهندي الكلاسيكي بتشجيع من بعض الأوغاد، فكان يغني للركاب وهو يقود تكتوكه ،يغني في السوق، وفي الليل كذلك، لكن بشغف مضاعف عندما تكون زوجته التي تشبه (هيما ماليني) مصغية لصوته الذي لايبدو للآخرين في الحقيقة سوى صوت غراب ينعق، صوت لا يستحق سوى الكثير من المجاملات الفارغة، أو الضحكفي أغلب الاحيان. لكن كلمات الأغاني جميلة كما تقول زوجته، رغم انها لم تسمعها من قبل، قال لها انه حفظها منذ زمن بعيد، بالضبط عندما كان شابا صغيرا، وكان له أصدقاء هنود ضمن كادر الشركة الهندية التي نفذت مجاري المياه الثقيلة في مدينة الثورة، وهم نفسهم، أولئك الكرماء الأوغاد، من كونوا له ذائقة تتعلق بأكل الرز المخلوط بالكاري. وفي الحقيقة، لم يكن نعيم رومانتيكا في أوقات العاطفة المتأججة يتردد في مشاركتها الرقص،بالطبع، بتلك الطريقة التي كان يشاهد بها الراقصون في الأفلام التي كانت تعرضها سينما النجوم في شارع السعدون. على كل حال، كانت حياته تسير بوتيرة هادئة وتنمو باستمرار باتجاه الأفضل طبعا، فلقد استأجر بعد عامين فقط مخزنا كبيرا، ثم بدأ يصدّر البهارات الى الخارج، انتقل بعدها الى حيّ (كروكاو) في شمال المدينة، حسنا ،كان بيتا يشبه القصر، ولم يعد في تلك الفترة يلتقي كثيرا بأصدقائه سائقي التكتوكات الذين نام مثلهم في الشهر الأول من وصوله في الكراجات، أو في الشوارع. وبالطبع تعلم خلال هذا الحلم الطويل اللغة الأردية والانكليزية بلكنة كما ينطقها الهنود تماما، و تعلم كيف يهزّ رأسه مثلهم. وبالفعل كان سريع التعلم بالقدر الذي مكنه حتى من حفظ مقاطع طويلة من الملحمة الشعرية _مهابهارتا ،ثم جاء اليوم الذي أنجبت فيه زوجته طفلة نحيفة وسمراء، كان سعيدا بها جدا وسماها كافيتا ،ولم يخرج من هذا الحلم الا بعد سنوات طويلة، في ذلك الوقت، كانت فيه كافيتا قد اصبحت كبيرة، تتحدث الاوردية والعربية بطلاقة، ولم يكن يمنعها من الذهاب مع أمها للمعبد فيقدما النذور وينثران الأزهار بين يديّ المعبود، والحقيقة أن نعيم ،لم يكن يهتم لطبيعة عقيدة زوجته، والتي كانت تمارسها كمن يستهلك شيئا ما بشراهة مزعجة، لم يعترض على انفاقها الكثير من المال على الأزهار وأشياء اخرى تقدمها للمعبد، كانت تقول انها تفعل ذلك امتنانا  للرب الذي منحها زوجا رائعا، كذلك لم تفكر الزوجة بطرح سؤال عن معتقد زوجها نعيم رومانتيكا، لاقبل الزواج ولابعده، ولم تطلب منه قط مرافقتها لاحياء طقوس أو زيارات تتعلق بطقوس عبادتها.

هذا الحلم حدث قبل عشر سنوات، وكانت أمه قد نهضت كالعادة في ذلك الصباح،دخلت غرفته كي توقظه لتناول الفطور قبل الخروج الى عمله كمدير تجاري في شركة كبيرة لاستيراد وتوزيع التوابل، لم يكن  حينها في فراشه، وبالطبع عندما مرّ النهار الأول على غيابه،انطلقوا للبحث عنه،فعلوا ذلك بقلق واخلاص قبل أن يندحر سعيهم ويغمرهم اليأس،وبعد شهر من غيابه، كانوا قد نبشوا الامكنة نبشا، نشروا صورته في الجرائد وعلقوها على الجدران في الشوارع، زاروا المستشفيات في البلاد كلها، وتصفحوا أرشيف الوفيات وسجلات السجون حتى السرية منها، في النهاية لم يبق للأم سوى بعض النحيب الذي هبطت وتيرته شيئا فشيئا، أما الأب  مدرس الرياضيات،كان يشغل نفسه بحل المعادلات، والحقيقة أن الرجل وبشكل صامت، كان  يضرب أخماسا باسداس، لكن محاولاته كلها فشلت في الوصول لنتيجة جيدة، لهذا لم يعد يقم بعملية الضرب، واكتفى بحل المعادلات التافهة وحسب، منها بالطبع تكديس الأيام  والسنوات  بطريقة الجمع.

وعندما عاد نعيم في ذلك الصباح، كان اليأس قد غمر الجميع من عودته، كانت أمه قد أعدت الفطور كالعادة للعائلة، جلس أبوه على الكرسيّ منشغلا بتقليب كتاب رياضيات جديد اشتراه له صديق من الخارج وأرسله بالبريد، شاهدوا ابنهم الغائب يجلس معهم على الطاولة كأنه كان نائما واستيقظ للتو، لكن شكله كان يشبه الهنود، شعره مدهون بالزيت، ورائحته كما لو أنها تنبعث من كيس بهارات مفتوح الى جانبهم، حتى كلامه، كان خليطا بين العربية والانكليزية والأوردية،مطعمة ببعض الكلمات البنجابية التي تعلمها من صديق باكستاني اسمه ايرفان، كان يشتري منه بضائع ويصدرها ثانية الى تركيا وارمينيا. ثم تناول الجميع الأفطار بصمت في ذلك الصباح، أخذوا وقتا جيدا للتفكير بهذا الشيء الغريب، حيث ظهر بعد ساعة من الصمت والتفكير،أن ما حدث ليس له تفسير، وكان كل منهم يلقي نظرة خاطفة على الآخر للحصول على اجابة ما ، الأب أثناء تلك اللحظات، ظهر عاجزا عن حل معادلة صعبة وغامضة جدا، هي معادلة الغياب والحضور، أخوته الثلاثة أيضا، كانوا يستجمعون شجاعتهم لترتيب صيغة مناسبة لطرح سؤال، جملة واحدة تعبر بدقة عن هذا اللغز، وفي النهاية لم يتكلم أحد، ثم رفع نعيم رأسه، ابتسم، وهو يحاول كسر هذا الجدار العالي بينه وبين أفراد الأسرة،: في الحقيقة كنت أحلم، هذا كل شيء. قال نعيم رومانتيكا ذلك ورشف من كوب الشاي الذي كان أمامه قبل أن ينهض.

ولقد مرت هذه الحادثة بصعوبة أولا ،ثم تلاشت الريبة نهائيا مع مرو الوقت حتى تزوج نعيم بنت لطيفة تعمل موظفة في قسم الحسابات، حسنا لم يكن قد نسى زوجته الهندية التي تضع حلقة معدنية في أنفها، ومن المؤكد أنه يشتاق كثيرا لابنته (كافيتا) التي أصبحت الآن شابة تلبس الساري وتغني لزوجها الذي يعمل ربما سائق تكتوك أو بائع مانجو، لكنه في الحقيقة لايستطيع أن يفعل شيئا ، فالامر ليس بيده، الأحلام  وبدون شك هي التي تقرر المصائر كما يقول. وكانت زوجته الجديدة عملية جدا، لهذا، كان ألأستاذ فاخر مدرس الرياضيات، قد وافق بسرعة على مشروع الزواج، ولكن أمه التي يصفونها بالرومانسية، كانت قد افصحت عن ريبتها من هؤلاء الذين يشغلهم دائما حل المعادلات: لا يمكن تفسير العالم أحيانا بالرياضيات، الموسيقى و الأحلام كذلك طريقتان ليستا سيئتين للفهم . قالت ذلك لكنها وافقت في النهاية.

وعلى كل حال، كانت زوجة الاستاذ فاخر طوال حياتها أم حنونة، تقرأ الروايات الرومانسية، وتشاهد الدراما المليئة بالعاطفة والدموع، وتستمع الى الأغاني الكلاسيكية المشحونة باللوعة، ثم صار نعيم أبا لصبيّ جميل كان قد تجاوز الشهرين عندما سافر أبوه في حلم جديد.

حدث ذلك في فجر أحد الأيام الباردة، بكى الصبي فاستيقظت أمه لإرضاعه، لم تجد زوجها، في البداية لم يكن شيء كهذا باعثا على القلق، لكنها عندما نهضت عند الثامنة صباحا،سألتهم عنه، وسألوها عنه، ثم مر يوم وشهر وسنة وخمس سنوات، وفي عصر أحد الأيام التي كانت الريح تعصف حتى كادت اقتلاع شجرة كبيرة أمام البيت، وجدوا نعيم في الصالة، كان نحيلا، نظرت اليه أمه، وتخيلته عندما كان في الخارج كيف أن الريح  لم تدفعه في كل جهة مثل ريشة أو قصاصة من الورق، لم يقل شيئا سوى أنه كان يحلم، ثم سرد تفاصيل الحلم على شكل دفعات، قال أولا، انه قضى الوقت كله داخل زنزانة لحالمين مثله، يقولون انهم كانوا يشتغلون بالمعارضة أثناء اليقظة، فوجدوا أنفسهم هنا أثناء الحلم، في الحقيقة أن بعضهم لم يكن له علاقة لابالمعارضة ولا بالموالين ولا بالجن الازرق، رغم ذلك دفعتهم عاصفة حلمية الى هذا المكان. ثم أن نعيم رومانتيكا توغل في تجارب حلمية عديدة بعد ذلك، فهو كائن غير قادرعلى التعاطف مع فكرة الاستقرار، وغير صالح اطلاقا ليكون مع المستيقظين، كلما كانت يقظته طويلة، شعر بجسده يتعفن، وروحه تنطفئ حتى يذبل مثل زهرة تحت الشمس الحارقة، وكان يخرج من كل هذا الوضع السيء بواسطة حلم جديد، يسافر بعيدا رغم أن أحلامه ليست كلها جيدة وممتعة،لكنه وبكل الاحوال كان يعود في النهاية، حتى عائلته لم تعد تسأله، فهم يعرفون أنه في حلم وحسب، ربما يطول أو يقصر، لكنه حلم وهذا كل شيء.

وفي المرة الذي يبدو أنها الاخيرة، وجد نفسه في حرب، الحقيقة لم يكن يعرف، هل عليه أن يحارب مع هؤلاء أو مع أولئك، حسنا ،كان منزعجا ومسلوب الارادة تماما، وهذا أسوأ مامر به من أحلام، حتى حلم السجن لم يكن قد ضغط على حياته الحلمية بهذا الشكل المروع، ولقد سلموه سلاحا، ثلاثة شواجير للعتاد، وقبعة من معدن ثقيلة  وكيس فيه قناع ومواد معالجة  لتقيه  الضربات الكيمائية ، قالوا له: لقد اصبحت الآن مقاتلا ويمكنك أن تطلق النار عليهم، ولم يفهم في البداية:اطلق على من ؟. سأل نعيم رومانتيكا بطريقة من جاءته صفعة في الظلام،  ويبدو أن الأوامر كانت واضحة ولايمكن رفضها، المشكلة أن رومانتيكا لم يكن لدية المحرض الحقيقي الذي يكفي ليجعل الحماسة تسري في جسده لاطلاق النار، فهو لم يجد سببا واحدا يقنعه بضرورة أن يكون طرفا في هذه الحرب التي وحد نفسه صدفة فيها. ولقد كان حلمه طويلا هذه المرة، طويلا جدا، وبالقدر الذي لم يخرج منه قط .

ومات الأستاذ فاخر مدرس الرياضيات أخيرا، انتظر عودة ابنه ثم أقفل كتاب الرياضيات وتخلى عن عملية ضرب الأخماس بالأسداس، أغمض عيينه وغادر، ومن باب التسلية، كانت زوجة نعيم تقوم بعملية الضرب بدلا عنه كنوع من ادامة فكرة الأمل، رغمأنها هي الاخرى تركت العمل في قسم الحسابات والتعامل مع الأرقام والتواريخ ، ثم نست حتى الكيفية التي تحلّ  بها المعادلات. لقد كبر ابنها وصار شابا،وفي يوم رمادي بغيوم كثيفة  وقعت حرب جديدة، قال عنها الابن، _انها غيوم اليأس_ أو معطف الكآبة، وقالت زوجة نعيم رومانتيكا لأمه الرومانتيكية: كنت على حق ياعمتي، العالم لايمكن تفسيره سوى بالأحلام رغم أن بعضها غامض وغير عادل اطلاقا، نحن أيضا، أنا وأنت والآخرون، ربما كنا في حلم طويل ولانعلم، أنه بالفعل  ان حياتنا مجرد حلم ، فنحن في الحقيقة لانفعل فيه شيئا سوى انتظار وقائع لن تحدث قط، حتى عمي الأستاذ فاخر يرحمه الله، والذي لم يحلم في حياته سوى نصف حلم، عندما أغمض عينيه، قال انه ذاهب في حلم، ولكن قولي لي ياعمتي، هل هناك بالفعل مكان يذهب اليه الحالمون، حيث يمكن  التفكير بوسيلة للاتصال بهم، ومعرفة أخبارهم  على الأقل !!!

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال